هكذا هي قوانين الموجات الأولى من الثورات، حيث تدفع بالغث والردئ والخفيف إلى السطح. وهذا هو المشهد السياسي والاجتماعي العبثي الذي يصل إلى ذروته قبل أيام من حلول موعد الثورة الثانية بعد الموجات المتوالية للثورة الأولى. كل الأطراف تلعب بوضوح كامل وبدون أي خوف أو رهبة أو خجل. ولكن شتان ما بين الوقاحة والتسلط والاستبداد وبين القوة والثقة والإيمان. لا يشك أحد في أن مصر تعيش الآن أعلى وأشد مراحل حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية عبثا. مرحلة لم تمر بها أرض الكنانة ولا الأمة المصرية في أي من حضاراتها المتعددة. من الواضح أن السلطة العسكرية – الدينية التي استولت على مصر بعد 25 يناير 2011 مصممة على مواصلة نهج أشد وقاحة وانحطاطا مقارنة بنهج تحالف مبارك وأولاده مع العصابات وطواغيت المال. فالنظام العسكري الحاكم في مصر قرر الاستناد لا إلى شرعية الثورة ودماء وأرواح شباب مصر، بل إلى التحالف مع تيارات الإسلام السياسي، وعلى رأسها الإخوان المسلمون والسلفيون والجماعات الإسلامية الأخرى. إضافة إلى المؤسسات الدينية ممثلة في الكنيسة والأزهر ودار الإفتاء التي تظهر تخاذلا واضحا وتحاول الإمساك بالعصا من منتصفها أو التملص بتصريحات مرتبكة ومربكة وغامضة. لقد قرر ما يسمى بالمجلس العسكري الحاكم في مصر بث بذور القطيعة بين الشعب المصري وجيشه الأبي وزرع مقدمات الشك والاحتقار بينهما ولزمن طويل. هذا بعد أن أقدم مبارك وأولاده وعصاباتهم بزرع الفتنة والكراهية والغدر بين الشعب والأجهزة الأمنية المعنية بصيانة أمن الوطن والمواطن، لدرجة أن الشكوك طالت أهم وأعز وأعظم أجهزة مصر، ألا وهو جهاز المخابرات المصري العريق وحامي حمى الديار بحق. وكم نتمنى أن يدرك هذا الجهاز العظيم مدى الخطأ الذي ارتكبه بعض أفراده بالجلوس على أعتاب مبارك ونظامه منفذا لرغباتهم. مع أن هذا الجهاز بالذات هو ابن الدولة والشعب وحامي حمى الديار فعلا وولاؤه كله للوطن وليس للرئيس وأولاده. هكذا قامت الطغمتان الحاكمتان، السابقة والحالية، بتدمير العلاقة بين الأمة المصرية وأبنائها وذلك بإراقة دماء المصريين الطاهرة لتترك غصة لا تريم في قلوب الأمهات والآباء، وحسرة لدى كل من فقد عينيه أو عضوا من أعضاء جسده في مواجهات بين قوى الجيش والأمن التي اختارت أن تنفذ أوامر الطغم الحاكمة لأهداف أقلها إثارة الفتنة في صفوف الأمة المصرية من أجل أهداف قصيرة النظر والإبقاء على زمام السلطة في أيدي مجموعة من العسكر بصكوك دينية لا تقل نذالة وانحطاطا وتلاعبا باقتصاد البلاد وأمنها ومشاعر مواطنيها. وإذا كان اتلحديث قد تركز طوال عام كامل على طواغيت المال الذين التفوا حول مبارك وأولاده ليدمروا الاقتصاد المصري ويبيعوا البلاد بالجملة، فهناك حرج كبير (لا أدري لماذا؟!) من تناول موضوع طواغيت المال من تيار الإسلام السياسي وشركاتهم ومؤسساتهم وأصولها ومصادر أموالها، ونشاطاتها!! لقد قلنا في مقالات سابقة إن كل قطرة دم ستراق بداية من 25 يناير 2012 وكل حياة ستزهق وكل مصري سيعتقل أو يصاب - سيكون كل ذلك في رقاب جماعة الإخوان المسلمين بالدرجة الأولى ومعهم العسكر والأجهزة الأمنية في مصر. وإذا كان العسكر وطواغيت المال من تيار الإسلام السياسي يتصورون أنهم وضعوا المصريين أمام خيار واحد ووحيد، ألا وهو أن كل من سيقف أمام السلطة الفاشية الجديدة بشقيها الديني والعسكري هو آثم شرعا لأنه يقف ضد الإسلام ممثلا في الإخوان المسلمين والسلفيين وضد ولي الأمر الممثل في الطغمة العسكرية الحاكمة – فهم خاطئون ومخطئون في تصوراتهم. لقد اجتمع "المتعوس على خائب الرجا". إذ يعتقد الأول أنه سيحتفظ بالسلطة مقابل إشراك الثاني فيها بشرط الحصول على صك غفران موثق دينيا وشرعيا بخروج آمن للعسكر. ولكن لا خروج آمنا لا للمتعوس ولا لخائب الرجا. لقد جر الاثنان مصر والأمة المصرية إلى طريق شائك ووضعوا البلاد عرضة لمهب رياح الرغبات والمصالح الأجنبية عموما والأمريكية على وجه الخصوص. ووظفوا مصر ومواردها البشرية والمادية مجددا في خدمة مشروع أمريكي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو الأمر الذي يعد تكرارا لمؤامرات نظام مبارك بجعل مصر مركز انطلاق لتصفية الحسابات الأمريكية مع أطراف أخرى أو عامل ضغط لتركيع الدول المجاورة. لا أحد يشكك في قدرات الجيش المصري ولا في حب واحترام المصريين له. لكن ما جرى من مؤامرات خلال عام واحد ضد الجيش والشعب معا، بحاجة إلى سنوات طويلة لكى يمحى. والأمر مختلف قليلا بالنسبة للأجهزة الأمنية التي لم تعترف إلى الآن بجرائمها في عهد مبارك أو خلال العام الماضي. بل ووصلت الأمور إلى أنها مصممة على إنكار الثورة والتعريض بأبنائها شهداء وأحياء على حد سواء. غير أن الإمعان والتصميم من جانب العسكر والإخوان على المضي قدما في تقويض أمن مصر والتضحية بدماء المصريين في سبيل الاحتفاظ بالسلطة، وتحت حجج واهية من قبيل المؤامرات الخارجية والفتن الداخلية، أمر مثير للتساؤلات. وقد يدفع بالأمور إلى سيناريوهات غير محمودة العواقب. الأمر الذي يصب مباشرة في السيناريو الضخم المتحرك والمرن للإدارة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي. لا أحد يقول أن الولاياتالمتحدة أو الغرب وراء الثورة المصرية. ولكن لا أحد يمكن أن يشكك في أن الرغبة الأمريكية واضحة جدا في وضع نظام فاشي في مصر، وهو ما يتماشى تماما مع السيناريو الجديد المتحرك أيضا لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فأي قوة عظمى مثل الولاياتالمتحدة، التي تعتبر العالم كله منطقة مصالح حيوية وقومية لها، يمكنها أن تترك ما يجري في شمال أفريقيا والشرق الأوسط دون أن تستفيد منه وتستثمره وتعمل على توجيهه، خاصة مع العلاقات الحميمة مع تلك الأنظمة سابقا وحاليا وذلك القدر من التفاهم والتناغم؟! يبدو أن المسألة أكبر بكثير من إسرائيل وإيران. ولهذا حديث آخر. إذا كانت الكائنات الفضائية قد قتلت المصريين وسلبت نور عيونهم طوال عام كامل، فسوف يكون "الفضاء الإلهي" بالكامل مجندا لقتل أي مصري يخرج على "الدين وولي الأمر". من سيقتل بعد 25 يناير 2012 بأيدي الكائنات الربانية لن يكون شهيدا وفقا لصكوك الغفران وتشريعات دولة الخلافة، لأنه كافر وخارج عن كهنوت الإخوان. وفي المقابل سيحصل كل بلطجي وقاطع طريق وجندي أمن مركزي على كل حسنات الدنيا إذا قتل وعاث فسادا أو على شرف الشهادة إذا وفاه الأجل في معركته مع الكفار والملحدين. هكذا تتشكل ملامح الدولة الفاشية المقبلة التي سيكون فيها المصريون "أعداء الإسلام"، بالضبط مثل "أعداء الوطن" في أدبيات الأنظمة الاستبدادية. الأدهى والأمر، هو أن العسكر لن يتركوا السلطة مهما أقسموا وتعهدوا. ذلك يعود إلى انعدام الثقة في الإخوان وتقلباتهم الفجائية وتطلعاتهم لمشروعات خارجية قد تدمر سلطة العسكر إلى الأبد لصالح جيش الخلافة. من هنا تحديدا تتزايد المخاوف لا من قوات العسكر فقط، بل وأيضا من الميليشيات الإسلامية التي ستتشكل بالقانون والدين والدستور والأعراف وقعدات المصاطب. هذه الميليشيات هي التي ستقود سفينة الأمن والأمان والتأمين خلال عصر الدولة الفاشية في مصر إلى أن يبدأ الصدام بينها وبين قوات الجيش. هذا في حال إذا لم يتم اختراق هذه القوات وتحويلها إلى خلايا نائمة تابعة لمرشد ولاية مصر. إن أي دستور سيتم وضعه في ظروف تحالف العسكر والإخوان المسلمين سيكون من أجل الاستهلاك الخارجي والإمعان في كسب الدعم الدولي ضد الأمة المصرية، بينما سيكون الحكم بالأعراف والعادات والتقاليد وتطييب الخواطر ووفقا لتلفيقات دينية تعتمد تأويلات مشوهة للديانات التي يعتنقها المصريون. فلا القضاء، كما نرى، أخذ مجراه طوال عام كامل ضد من تم سجنهم من أركان نظام مبارك، بينما كان سريعا للغاية في اتخاذ الإجراءات اللازمة ضد أبناء الثورة والشهداء. ولا بت القضاء في القضايا المرفوعة ضد المخالفات الانتخابية والتزوير والخروقات المرعبة. ولا القانون أخذ مجراه ضد الجماعات العقائدية المحظورة التي خرجت من شقوقها وفرخت أحزابا ومجموعات أصغر فأصغر. بل وإمعانا في ضرب كل شئ عرض الحائط وتحويل مصر إلى مستنقع من العبث والفجر والعدمية، قررت السلطة الجديدة عقد أول جلسة لبرلمان أقل ما يقال عنه أنه أغرب برلمان في تاريخ البشرية. لقد اكتمل المشهد العبثي المصري بانسحاب محمد البرادعي من الترشح للانتخابات الرئاسية، وظهور إعلان بأنه سيؤسس حزبا سياسيا مع مجموعة من الشخصيات بينها الذي لم يتلوث، وبينها من تلوث بالفعل خلال العام الأخير. هذا في الوقت الذي عول فيه المصريون على ذكاء البرادعي وإمكانية تواجده بينهم في ثورتهم الثانية. لا أحد يصادر على أحد. ولا أحد يدفع في اتجاه العمل الأحادي والخيارات الضيقة. علما بأن خيارات الثورة ليست ولم تكن أبدا ضيقة بكل أبعادها السياسية والتشريعية، والاجتماعية قبل كل شئ. فالتواجد بين الناس في ثورتهم لا يتنافى إطلاقا مع العمل على المحور السياسي والجماهيري. ولكن إذا كان العمل السياسي والجماهيري مجرد تكتيك لشرعنة خطوات السلطة الفاشية الجديدة وتجميلها والدخول معها في معارك سياسية وبرلمانية شكلية ومنح الانتهازيين الفرصة لغسل أياديهم من التواطؤات والمجالس الوهمية التي شاركوا فيها واستخدام خبيث لطاقات الشارع وفورته لمساومات غير محمودة العواقب – فكل ذلك في الحقيقة طعنة في ظهر الثورة المقبلة وخيانة لدماء الشهداء وحقوق الأمة المصرية. لقد ظل المصريون طوال عام كامل يهدرون جزء ضخما من طاقاتهم على مواجهة العسكر والإخوان دون الالتفات إلى أن كل الأحزاب السياسية المصرية وبلا استثناء شاركت نظام مبارك فساده وتواطأت ضد الأمة المصرية حتى كتابة هذه السطور. لقد كشف عام 2011 عن كم الانتهازية والخيانة والتواطؤ للأحزاب السياسية المصرية العتيقة التي كان من المفترض أن تتلاشى مع مؤسسها وأولاده وبعض أركان نظامه، ولكنها لم ترحل بفضل الوقاحة وسمك الجلد. وأمامها الآن فرصة أخيرة لكي تتلاشى مع النظام الفاشي الحالي أو تنجو بنفسها لتنزل إلى الشارع بقيادة "زعمائها" في فرصة تاريخية لن تعوض. هذا هو الخيار أيضا أمام أي حزب جديد يفترض أنه سيضم أبناء الثورة وسيؤسس لدولة لا عسكرية ولا دينية تكتسب وجودها من شرعية ثورة 25 يناير 2012. لقد بدأ النظام الفاشي بشقيه العسكري والديني في مصر بخلط الأوراق وافتعال الأزمات وإشعال حملات إعلامية ومعارك جانبية تمهيدا لقمع الثورة المقبلة، ولن نندهش إذا رأينا جنود الأمن المركزي بلحي أو هجم على الميادين والشوارع ملتحون مدنيون يتم تجهيزهم الآن. لكن الغريب أن كل القوى المصممة على المشاركة في الثورة، مصممة أيضا على سلميتها وعدم مغازلة الخارج أو التفكير في أي تدخل خارجي. هذا في الوقت الذي نرى فيه العسكر والإخوان يتهافتون على تقديم أوراق اعتمادهم لهذا الخارج ويكيلون الاتهامات بالعمالة للقوى الوطنية وأبناء الثورة وشهدائها. تناقضات مفهومة وواضحة. ولكن غير المفهوم إلى الآن هو ذلك العماء السياسي للقوى المترددة والشخصيات العامة التي أراقت ماء وجهها خلال عام 2011 ونواب البرلمان الجدد الذين بدأوا حملات شرعنة السلطة الفاشية تحت غطاء الترتيبات السياسية والتحالفات البرلمانية!!