«الهيدرا» ذلك الكائن الخرافى فى أساطير الإغريق يشبه التنين متعدد الرؤوس، كلما قطعت له رأسا نبت له اثنان، «الهيدرا» من أفضل التشبيهات التى قرأتها فى تحليل سياسى يقارن بين النظام السلطوى فى مصر وبين هذا الوحش الأسطورى، بالفعل الاستبداد كائن حى صعب قتله، لا يتورع عن الدفاع عن نفسه بأشرس السبل من أجل البقاء، ولن يصمت أمام قوى تهدف القضاء عليه لإرساء قواعد دولة عادلة. فلاش باك قصير: بعد فشل نظام الاستبداد الكلاسيكى تحت مبارك فى معركة البقاء أمام المد الثورى لجأ النظام إلى تمجيد الثورة بهدف تجميدها. قام بإزاحة مبارك بغرض إراحته فى الشوط الثانى من المباراة، ولجأ المدربون إلى تكتيكات مختلفة لم تؤت ثمارها حتى الآن (وأختلف مع السوداويين فى هذه النقطة تحديدا، فالنتيجة لم تحسم بعد، الثورة لم تنجح ولم تفشل، بل الثورة مستمرة)، تشمل الآليات الجديدة للنظام اختطاف رمزية التحرير (نحن معكم وكفاية كده)، وإفساد التحرير وتخريبه بإشعال الفرقة بين القوى السياسية (تحبها مدنية ولّا دينية، تحبها برلمانية ولّا رئاسية)، والاندساس وسط أهل التحرير والتحقير من شأنهم بالإشاعات (الانفلات الأخلاقى والتجسس والأجندات) والقمع والقتل وإلقاء الجثث فى الزبالة والتحرش المنظم والتلقائى بنسائه. لماذا يحدث كل هذا؟ لأن التطهير الثورى لم يكن قاطعا وهو ما لفتت إليه الأقلام فى الأسابيع التالية للتنحى مباشرة: فنحن لم نؤسس لنظام جديد، لأن المجلس العسكرى من البداية أراد وضع حدود للتغيير حتى لا تطاله أسس الديمقراطية السليمة كالمحاسبة والشفافية ودولة القانون، لقد أضاع رئيس المجلس العسكرى فرصة تاريخية لقطع أى صلة بالنظام القديم، وكان الشعب على استعداد فى مرحلة زمنية معينة أن يقبل هذه المحاولة لو لم يتورط المجلس نفسه فى سيناريو إشعال الفوضى، بهدف صرف الأنظار عن المسار الديمقراطى، وتورط فى إسقاط ضحايا بعد تنحى مبارك تهمتهم أنهم لا يقبلون حدود التغيير، ولم يقبلوا إذلالهم بمقولة «إحنا اللى حمينا الثورة، ولذلك فلتصمتوا على تأديبنا لكم»، ومن مصلحة النظام فى معركته الحالية أمام القوى الديمقراطية أن يتحالف مع أبناء مبارك وأرامله، مما يؤكد أنه أزاح مبارك بهدف حمايته، وليس محاسبته عما مضى. لكن قد يبادر البعض بسؤال أليست الطوابير الانتخابية إيذانا ببدء عهد جديد من الديمقراطية؟ أقول نعم الانتخابات ضرورة لا بد منها، وآلية تطهير لمجلس الشعب، وتأسيس لشرعية شعبية موازية لشرعية الميدان ولا تجبها، ولا ننس أنها أحد مكتسبات الثورة، لكن فى النهاية ما الغرض من نواب الشعب؟ أليس مهام نواب الشعب فى الأساس الدفاع عن مصالح الشعب عندما تُضر؟ أليس القتل العمد دون سند قانونى إضرارا بالشعب؟ فلنبعد عن المسميات السياسية قليلا ونعود للوراء: لماذا قامت الثورة فى الأساس؟ أليس للثورة على الظلم والقمع؟ هل أصبح المجتمع المصرى أكثر عدالة وشفافية؟ هل ترك الظالمون كراسى الحكم؟ هل تضمن حقك وحق أولادك فى حياة عادلة آمنة نظيفة أم ما زلت تبحث وسط أقاربك عن لواء من الجيش لتحصل على حقك أو أحيانا أكثر من حقك بالواسطة؟ إذن فإن لم تسفر المعارك الانتخابية، بما شهدته من تجاوزات أخلاقية فى الدعاية، عن نواب يحترمون من انتخبهم ويعملون على كشف أى إضرار لمصالح الناخب انتفى دورهم، فإلى جانب معركة بناء الهياكل التشريعية للدولة توجد على الأرض معركة لا تقل عنها أهمية وهى بناء كرامة المواطن. وفى هذه النقطة تحديدا يخيم الإحباط على أغلب المصريين لأسباب مختلفة، فالنشطاء يرون العودة إلى الأساليب الوحشية بمثابة عودة للفاشية فى الحكم والدعاية عبر الإعلام الحكومى والموالى، والصحفيون محبطون لبقاء الخطوط الحمراء بعد أن توقعوا زوالها، والمواطنون غير المسيسين يرون الحياة مستمرة كما كانت قبل الثورة: لا تغيير جوهرى فى مستوى المعيشة أو القطاع الخدمى فى مؤسسات الدولة من صحة وتعليم ونقل، بل زادت الأسعار وتدهورت بعض القطاعات الاقتصادية بشدة، خصوصا تلك التى تحتاج إلى الاستقرار السياسى، يفشل الحكام فى تقديمه بالبلبلة والتخبط، بل للمفارقة حتى رواد ميدان العباسية أنفسهم محبطون، لأنهم يرون أن ما يحدث عبث، لا يصح، وأن الشعب تطاول على أسياده الحكام. هل يعنى ذلك أننا هل عدنا إلى نقطة البداية؟ لا أعتقد. فإن كانت هناك جولة أخرى من أجل مصر الديمقراطية، ففى الحقيقة أن الإحباط تحديدا هو ما يبعث على الأمل، ولو على المدى البعيد، قد تبدو العبارة متناقضة، لكن اتساع دائرة الغضب لتشمل فئات مختلفة هو ما يضمن انطلاق موجة شعبية جديدة من الثورة على الظلم، حتى إن استمرت حملات التشويه المعتادة ضد الثوار التى تفتقر إلى أى إبداع، وتدل على إفلاس النظام الاستبدادى، وهنا تحديدا النقطة التى على الثوار مراعاتها لكسب الرأى العام، دعونا لا ننسى أن البشر ينحازون عموما لمن يعتقدون أنه مظلوم ويستحق النجدة، وينعكس ذلك على الحراك الشعبى بشكل تلقائى، ولذلك على الثوار عدم فقدان الأمل فى سلمية النضال الوطنى، وعدم الالتفات إلى الصراعات الداخلية لتفتيت الجبهة الثورية الآن. فإن كان الاستبداد كائنا شرسا يريد البقاء، فالتحرير به أسود لا يقلون قوة أو إيمانا بقضيتهم أو إصرارا على الدفاع عن الحلم المصرى فى إقامة دولة قوية عادلة.