رعب وخوف واستعراض قوى، وفى المقابل نزعة عاقلة تدفع الجميع إلى نقطة لقاء أو توافق. هل ينتصر الرعب وتتحول الجمعة إلى مذبحة تعلن انتصار منهج فرِّق الشعب تَسُد؟ هل ستنجح أجنحة الباحثين عن الغنائم فى التيارات السياسية؟ أم تولد من الثورة شرارة جديدة تشحن قوى تلعب السياسة ولا تحولها إلى حروب أهلية ينتصر فيها من يقصى الآخر؟ هل يقدر جهاز المناعة الذى منحته الثورة شبابا، أن يحمى الثورة من أسلحة خرجت من مخازن المستبد الجديد؟ وفى الثورة جناح لن يرضيه إلا اكتمال الثورة الذى يعنى: كسر السلطة أو أى نظام سلطوى إلى الأبد. ولهذا فإن اللعب على تقسيم الثوار إلى مؤمنين وكفار، علمانيين وإسلاميين، وطنيين وعملاء، لعب بالنار واستعادة لمخطط حريق مصر. لن تنتهى الثورة بانتصار كاسح لفريق وإلغاء فريق آخر، ستنتصر الثورة عندما يتم الاعتراف بالحق فى التعدد السياسى ويتوافق الجميع على دستور يحترم حرية الفرد والجماعات ويحمى الأقليات ولا يسمح بولادة فراعنة جدد بأسماء أنيقة. مصر اليوم تلعب سياسة لأول مرة من 59 سنة. الثورة لم يكن لها جناح مسلح لتسيطر على الحكم فورا، وكانت ضربتها الأساسية: تحرير المجال السياسى. الانتصار الكبير للثورة: أن السياسة أصبحت فى كل مكان، ولم تعد حكرا على كهنة النظام وفرق مناوشتهم فى المعارضة. اتساع مجال الاهتمام بالسياسة مكسب ثورى خطر على أى قوة سلطوية تريد استبعاب الثورة وجرجرتها إلى الشوارع الجانبية. الشعب ليس كله ثوريا، لكنه يعيش فى رحاب الثورة، حتى ولو كان ضدها، يستمتع لأول مرة بالكلام فى السياسة، ولا يدرك أن هذه المتعة من صنع الثورة. ولأن السياسة كانت محرَّمة، تصيب صاحبها باللعنة، فإن الشعب يتكلم فى السياسة دون أدوات سياسية، ولا مصطلحات سياسية، ولا تنظيمات سياسية. والمفارقة أن غالبية كبيرة من المتحدثين الجدد فى السياسة يكررون مقولات السلطة المحفوظة والتى منعت السياسة. يقولون مثلا: إنهم أصحاب أجندات. دون أن يفكر أحد، وما العيب أن يكون لكل سياسى أجندة وبرنامج وأهداف من تخطيطه السياسى؟ لا أحد يفكر. ولماذا يلعب أحد فى السياسة إذا لم تكن لديه أجندة يخطط بها للوصول إلى السلطة؟ تسمع أيضا: لا بد أن ننسى الانتماء السياسى. وهى مقولة تشبه أن تخلع فانلتك السياسية وأنت فى الملعب. لماذا؟ هل لأن الانتماء السياسى ضد الانتماء الوطنى؟ هل لأن العمل من خلال تنظيم سياسى ضد العمل لصالح المجتمع والدولة؟ هذه خرافات موروثة من زمن الاستبداد الذى كان يرى فى اشتغال الناس بالسياسة خطرا تجب مكافحته. ولهذا كانت مباحث أمن الدولة مقسمة إلى وحدات مكافحة، لا فرق هنا بين الجماعة الإسلامية والتنظيم الشيوعى.. لكل مجموعة فرق مكافحة. هذه المكافحة كانت أهم إنجازات نظام مبارك، التى حولت مصر إلى صحراء بلا إمكانيات أو بدائل أو كوادر أو شخصيات. وما يحدث من صراعات فى الشارع، يزعج المتفرجين، لكنه نتاج طبيعى لهذا التصحر، ومحاولات استصلاح ما أفسده الاستبداد. كيف لا يصبح الاختلاف لعنة؟ كيف تحدث الثورة ويصبح تنظيم الشعب نفسه فى تنظيمات ونقابات هى الحرب العكسية على نظرية «فرِّق الشعب تَسُد». وقد تولد من الصحراء، حدائق الديمقراطية، وقد نغرق فى سرابها . إنها ولادة... صعبة جدا.