للأسف هانت الثورة المصرية على بعض أبنائها الذين جروا وراء نزقهم الثورى واستحلوا الإنتقاص منها ظنا منهم أن فى ذلك غيرة عليها. من حق من شاء أن يقول ماشاء، لكن من حقك أن تقرأ هذه المناقشة المتميزة لآرائهم والتى كتبها الكاتب وليد فكرى صاحب الكتاب الجميل (تاريخ شكل تاني) فى مقال بعنوان (جريمة اسمها احتقار الثورة المصرية) أشكره على إرساله لى حيث قررت نشر ماتسمح به المساحة منه وأنصحك أن تقرأه كاملا على موقع (بص وطل)، ولعلها تكون فرصة لأن تطالع عددا آخر من مقالاته المفيدة والممتعة. هالنى ما رأيتُ خلال الأيام الماضية من بعض من كانوا الفئة الأولى المحركة لثورة 25 يناير من شعور بالدونية والازدراء للذات بالغا حد تحقير ثورتهم وثورة شعبهم! جاء هذا خلال مقارنات -لا أساس علميا ولا عمليا لها- بين الثورة المصرية والثورات السورية واليمنية والليبية, بالذات تلك الأخيرة. تلك المقارنات وجدتها على أكثر من Status على Facebook وبعض تغريدات Twitter فضلا عن المناقشات الشفهية.. ثمة تراجُع مخيف للشعور بالفخر بما قدمت أيدينا لمصر يحل محله تسلل سريع لإحساس أن كل جهدنا كان «مائعا». تخيلوا ذهولى وأنا أقرأ لأخ وصديق عزيز -شارك فى الثورة منذ أعمال التمهيد الأولى لها بكل شجاعة وجرأة وشراسة- تعليقا على صفحته على Facebook يقول فيه ما معناه إنه إذ يقارن نفسه بأشقائنا الثوار فى ليبيا يشعر أنه “فرفور”! بالتأكيد كلنا نقدر البسالة الأسطورية للثوار الليبيين والملحمة العظيمة التى سجلوها والبراعة العالية التى أظهروها، ولكن من قال إن الإعجاب بالنموذج الفذ لا يكتمل إلا باحتقار الذات؟ وبحكم قدم معرفتى بهذا الصديق وما أستطيع أن أزعم من قراءتى مشاعره، أقول بثقة إن منطلق شعوره السلبى هذا هو إحساسه أن ثورتنا لم تحقق بعد أهم أهدافها: القضاء على النظام الفاسد، بينما استطاع الليبيون أن يحققوا ذلك من خلال أنهم قد «قطعوا عرقا وسيّحوا دما» عندما احتلوا طرابلس وحرروها من قبضة المجرم القذافى، وأسقطوا نظامه بضربة قاصمة قاضية أشبه بعملية حصاد سريع. هذا نموذج لحالة تكررت ملاحظتى لها كثيرا فى الأيام الماضية! بالطبع فإن إنجاز أشقائنا الليبيين هو عمل فذ عظيم تنبهر له الأنفاس، وصمودهم ينفى عنهم كل ما كان يتردد عن الشعب الليبى من أنه شعب مُغَيَّب منقاد خانع لا فكر له ولا هدف... ولكن شتان بين ثورتهم وثورتنا. فالنظام الليبى كان نظام «طاغية فرد فاسد» يتمحور حول القذافى، الذى حرص طوال فترة حكمه على التخلص من أية شخصيات قوية حوله، بينما نظامنا الفاسد -الذى لم يعد سابقا بعد- هو نظام «منظومة طغيان جماعية فاسدة» متغلغلة فى مختلف طبقات المجتمع وقطاعات الدولة.. النوع الأول (نظام القذافى) هو نظام يقوم بطبيعته العسكرية البحتة على سلطة الفرد الواحد وهو ما يعنى أن القضاء على الرأس هو قضاء «كامل» على النظام.. أما النوع الآخر (نظام مبارك) فهو نظام يقوم بطبيعته التى تنتحل صفة المدنية على خلق مؤسسات كاملة للفساد وزرعها بشكل إخطبوطى سرطانى، وتوزيع السلطة فيه على فاسدين متعددين كل منهم يمتلك سلطة تكفيه ليكون رأسا للفساد.. الأمر أشبه بالمقارنة بين محاربة ثعبان عادى برأس واحدة (القذافي) وثعبان «الهيدرا» الأسطورى ذى الرؤوس المتعددة والمتشعبة (مبارك)، بالتالى فإن خلع مبارك لا يعنى بالضرورة القضاء على نظامه. علامَ إذن نقارن بين نتيجتى معركة منتهية وأخرى لم تنته بعد؟ الدافع الآخر لهذا الشعور المؤلم بالدونية واحتقار الإنجاز هو كَم الأخطاء الفادحة للثوار المصريين خلال معركتهم مع فلول وبقايا نظام مبارك، سواء فى الاستسلام لسكرة النصر على مبارك «بشخصه» بخلعه... أو بالتحرك الثورى الهستيرى المتمثل فى إجراءات حملت صبغة ثورية أثارت غضب وضيق الشارع المصري؛ كإغلاق مجمع التحرير، ومحاولة قطع طريق كورنيش الإسكندرية، أو بسرعة تحزب الثوار والسياسيين إلى ثلاثة تيارات يسارية وليبرالية وإسلامية وتبادلها الضربات والتآمرات، أو بفقدان الاتصال السليم بالشارع، وافتقاد الخطاب القوى لكسب تأييده.. هذه الأخطاء وغيرها أدت لتراجعنا للخلف كثيرا فى بعض الأمور، ولوقوفنا محلّك سر فى بعضها الآخر، لكن هل يكون التعامل مع تلك الأخطاء بخطأ أفدح؟ أعنى به: ازدراء كل ما بُذِلَ من دم وعرق وجهد ووقت لأجل الثورة. هل يُعقَل أنك حين تضل الطريق لغايتك البعيدة ذات الطريق المتشابك تقف مكانك، وتبكت نفسك، وتقارنها بآخر بلغ غايته بشكل مباشر، ثم تصل لمرحلة أن تحتقر كل جهد بذلته لأجل الوصول لآخر نقطة سليمة بلغتها قبل أن تنحرف عن طريقك؟ أم إن العقل والصلابة اللازمين للثائر يقولان إنه لا بأس من أخذ وقفة لمراجعة الأخطاء والتعامل معها؛ لغرض استكمال الطريق بشكل سليم؟ بصراحة -وبدون زعل- أنا أرى هذا الشعور المَرَضى بالاحتقار للذات وللثورة، وترديد الكلام من نوعية «ده إحنا ماعملناش ثورة.. شوفوا الثورات اللى بجد شكلها إيه» هو جريمة فاحشة بحق الثورة المصرية وبحق الشهداء وبحق مصر، وبحق الأجيال القادمة التى ستشهد علينا أمام الله وأمام التاريخ! هو نوع مخزٍ من الميوعة لا تليق بمن حملوا أرواحهم على أكفهم وواجهوا الموت.. وهو فرح لفلول النظام الفاسد وتأمين على أكذوبته التى زرعها طوال سنوات فى نفوس الملايين أنه قدر أن طغيانه قدر.. أن خضوعنا قدر.. وأن من يواجهه إنما يواجه القدر ذاته! ... هذا الشعور ربما يكون مغريا للنزعات الرومانسية وحالة «حب النكد والتشاؤم والاكتئاب» عند بعض المغرقين فى العاطفية منّا (وهم كُثُر بين أصحاب الأرواح الثورية) وربما يُغرى البعض كذلك أن يتجهوا لا إراديا إلى «تدمير الذات» بالسير فى طريق استشهاد وهمى، فيستسلمون لليأس وينتظرون اللحظة التى يحملهم فيها زوار الفجر -لو فشلت الثورة- إلى المعتقلات والمشانق، باعتبار أنها صورة رومانسية أسهل عليهم بكثير من مواجهة التحدى وتقبل فكرة الوقوع فى أخطاء والتعلم منها.. الأمر يشبه من يسارع للمعركة لا لينتصر بل ليتلقى أول رصاصة لينال الشهادة.. مع أن الشهيد الحق هو من يخرج طلبا للنصر أو الشهادة، لا للشهادة دون النصر، والبطولة فى أعلى درجاتها ليست أن تموت لأجل هدفك؛ بل أن يموت خصمك لأجل هدفه هو، وتعيش أنت لأجل هدفك! الشعور الذى تحدثتُ عنه لم يتحول بعد لظاهرة منتشرة، ولم يتعمق للدرجة الميؤوس منها، لكنى مع ذلك أصررتُ أن أسارع بتسليط الضوء عليه قبل أن يصبح كذلك؛ لأننا لو انتظرنا له التضخم حتى نتحدث عنه ونتعامل معه بجدية فسنصبح كأهل السفينة الذين أرسلوا رسالة بالإشارة يقولون فيها: «لا تأتوا لإنقاذنا.. فنحن نغرق!».