عبد الحليم حافظ الذى اتهمته اللجنة التى اختبرته فى بداياته أنه يغنى على الطريقة «الخواجاتى»، لم يبن نجاحه على الصدف، كما كتب ذلك فى مقتبل حياته الفنية، فى مجلة «روزاليوسف» بتاريخ 24 مايو عام 1954، وأعتقد أن هذه أول مرة راح يكتب فيها عبد الحليم عن حياته وتطورها ونجاحه الذى يراه مجموعة من الصدف، رغم أن عبد الحليم كان قد التقى جمال عبد الناصر فى نوفمبر عام 1952 ومجلس قيادة الثورة فى مقر القيادة، وهناك دارت مناقشة مع عبد الناصر، وقد حدث هذا التفاعل الذى يحدث بين أى قائد ذكى وفنان لا يخلو من السعى والدأب والتطلع إلى حياة أخرى، بعيدا عن الشظف الذى عاناه على مدى سنوات طفولته وصباه وشبابه، منذ أن كان فى الملجأ، وفى هذا الملجأ زامله صبى فقير آخر هو الطفل أحمد فؤاد نجم، والأخير يكتب عن هذه الزمالة التى يتجنب عبد الحليم ذكرها، ويقول نجم إنهما تعلما قراءة الشعر والمقامات والتواشيح فى هذا الملجأ، لكن المستقبل كتب شكلين مختلفين من الحياة، فعبد الحليم عرف الطريق ب«موهبته» العملاقة سريعا إلى القلوب الحاكمة، وعلى العكس عاقت موهبة المشاكسة عند الشاعر أحمد فؤاد نجم الطريق إلى قلوب السادة، بل إن نجما عوقب على هذه الموهبة من القائد والزعيم نفسه الذى احتضن عبد الحليم، وكان عبد الحليم يعرف جيدا الطريق إلى قلوب القادة، ولم يكن صداميا فى بداياته، وكان لقاؤه مع صانعى مستقبل مصر قبل لقاء نوفمبر 1952، وذلك كما ينقل محمد العسيرى فى كتابه الجميل «أغنية يناير وثوار مزيفون» عن إيريس نظمى، التى حكت بدورها عن لقاء عبد الحليم بصلاح سالم، أحد أعضاء وصقور مجلس قيادة ثورة يوليو، فى منزل شقيقه محيى سالم، الذى كان صديقا لعبد الحليم، وكان ذلك قبل قيام الثورة ب5 أشهر، لكن عبد الحليم لا يكتب ذلك فى مقاله الذى نوهنا عنه «مصادفات فى حياتى»، ويبدأه ب«تستغل السينما الصدفة فى الكثير لحل عقدة الفيلم.. وللوصول إلى نهاية سعيدة ترضى المتفرج.. وقد استغلت الحياة والأقدار الصدفة بشكل مثير ومدهش لتحل عقدة حياتى.. ولترسم خط سيرى إلى نهاية لا أعلم عنها شيئا»، ورغم أن عبد الحليم، ابن الخامسة والعشرين، فى ذلك الوقت لم يكن اسمه قد كبر بالمستوى الذى عرفناه بعد عامين فقط، عندما غنى أغنيته التى لفتت الأنظار بقوة عام 1956 عقب اختيار جمال كرئيس للجمهورية، التى كتبها الشاعر والقاص والصحفى إسماعيل الحبروك، التى كان مطلعها يقول: (إحنا الشعب.. إحنا الشعب اخترناك من قلب الشعب يا فاتح باب الحرية يا ريس يا كبير القلب) ولا أظن أن عبد الحليم كان يعتمد على الصدفة فقط، فهذا الفنان الذى أصبح بعد هذه الأغنية ملء السمع والبصر، كانت خطواته أمام اللجنة التى اختبرته منذ أعوام قليلة تصف صوته ب«الخواجاتى»، لكنه راح يتدرب حتى يتخلص من هذا البعد الخواجاتى، الذى لحق به فى بداياته، هذه البدايات التى التقى فيها صديقه وزميل الدراسة الموسيقية كمال الطويل، وكان عبد الحليم يقول لكمال: «يا كمال ألحانك حلوة.. حلوة موت.. انت لازم تلحن.. وحتكون ملحن لك شأن كبير». وكان عبد الحليم يجد تشجيعا كبيرا من صديقه كمال، ويقول له: «انت لازم تغنى.. لأنك إذا غنيت سيكون لك شأن آخر». ويكتب حليم فى مقاله: «وانتهت الدراسة وتنقلت بين مدارس طنطا والزقازيق ثم القاهرة كمدرس للموسيقى، وذهبت من فورى إلى الإذاعة لزيارة صديقى كمال، الذى عين هناك موظفا فى قسم الموسيقى»، ويعتبر عبد الحليم أن صدفة أخرى كانت تنتظره، إذ كانت لجنة اختبار الأصوات مجتمعة فى هذا اليوم، ويقوده كمال إلى هذه اللجنة، وكان فيها محمد حسن الشجاعى وحافظ عبد الوهاب، وأعجب الاثنان بهذا الصوت الجديد كما يكتب حليم، لكن الاسم الذى كان يحمله عبد الحليم شبانة لم يعجب اللجنة، واختار حافظ عبد الوهاب أن يستبدل شبانة بحافظ، وهكذا صار اسمه منذ ذلك الوقت عبد الحليم حافظ، ويسترسل عبد الحليم فى مقاله المجهول: «وخرجت إلى الطريق لألتقى صدفة بصديقى الشاعر صلاح عبد الصبور، وكانت تجول برأسه قصة حب جديدة، ولم أنته من عرضى عليه ليقول لى شعرا أغنيه.. حتى انطلق يقول: (بعد عامين التقينا ها هنا والدجى يغمر وجه المغرب وشهدنا النور يخبو حولنا فسبحنا فى جلال الموكب) والقصيدة تعلن تأثرها الشديد بأطلال إبراهيم ناجى، وسماها عبد الحليم «لقاء»، وراح كمال الطويل يضع لحنها الذى كان سهلا عليه للطاقة الموسيقية التى تحملها القصيدة، وسجلها عبد الحليم، ولاقت الأغنية قبولا عند من استمعوا إليها، واعتمدت كأغنية أولى فى الإذاعة، واعتمد بعدها عبد الحليم كمطرب قبل إنشاده أغنية «صافينى مرة» الشهيرة. عبد الحليم حافظ الذى أصبح المطرب الشاب الأول فى مصر، أصبح يغنى الأغانى الوطنية والعاطفية بروح جديدة، للدرجة التى غنى فيها للصحفى موسى صبرى فى أثناء ترشحه للبرلمان فى انتخابات عام 1957 النشيد الانتخابى، وكان ذلك فى ميدان عابدين، وكان موسى صبرى فى ذلك الوقت رئيسا لتحرير مجلة «الجيل»، التى كانت مجلة فنية فى الأساس، وكان كذلك موسى صبرى مواليا بوضوح إلى ثورة يوليو، وهذا ما نفضه بيسر وسهولة فى العهد السادات، ونعود إلى عبد الحليم الذى كتب عن مصادفات الحياة كما يرى، رغم أنه يؤكد فى نهاية مقاله قائلا: «فأنا أؤمن بأن النجاح لا يمكن الوصول إليه بالصدفة».