عاقل جدا لدرجة إن الناس فاهمه إني مجنون، أو مجنون جدا لدرجة إني فاهم إني عاقل" هكذا يقول في رواية المهزلة الأرضية، يبدو أن يوسف إدريس قد فهم نفسه جيدًا، ليتحرك بأبطاله في فضاء واسع، ملئ بالحكايات، وملئ بالطبائع الإنسانية المتنوعة التي لا تنبئ إلا بشخص قد أدرك الكينونة الإنسانية. عن نفسه يقول إدريس في حوار مع مفيد فوزي، أن محاولة الغوص في أعماق نفسه لا تنتج عن شئ، ولكنها تظهر على السطح من آن لآخر ليعي بها. هكذا قال الأديب عن فهمه لنفسه، يعقب عليه مفيد فوزي، بأن كاتب آخر سئل نفس السؤال فأجاب بأن في أعماقه يعثر على الحرمان والكهولة، ليجيب يوسف بالرد الذي ينبئ عن ذكاء حاد لأديب مصري، فيقول: "إنني لا أرغب في تعذيب نفسي، فالحرمان قد عشته في طفولتي، وصباي عندما ابتعدت عن العالم وعائلتي من أجل التحصيل الدراسي، وفي مراهقتي في الغربة، حين كنت في غرفة واحدة، وفي شبابي والعمل الثوري الذي أخذ من حريتي الكثير. لا يبحث الأديب عن الحرمان، بل يبحث على البقاء" يقول محمد المخزنجي "يوسف إدريس كان فنانا عظيما ، لأنه مُحرِّر عظيم ، أكد بتحليقه الإبداعي ليس حريته وحده ، بل حفز حرية وتحليق الآخرين إبداعيا ، أو كما عبرت مرة : الكاتب الكبير لايتعاظم دوره بإنتاج نسخ متكرره من الكُتَّاب الطالعين ، بل بجعل الكتاب الطالعين يفتحون أقفاص صدورهم ليطلقوا طيور أرواحهم الحبيسة لتتسامى بالعلو والتحليق . يوسف إدريس فعل بمغامرته الإبداعية ذلك معي ومع غيري ، لكن قربي منه كان جرعة مضافة للتحرير، فيوسف إدريس كائن شديد النزوع للحرية الخلاقة ، إبداعيا ، ووطنيا ، وإنسانيا ، ومن هنا بالضبط تولدت آلامه عبر الاصطدام المتكرر بالعبيد ومُكرِّسي العبودية ، ولأن ذلك كذلك ، فإنني أفهم صرخته « إن كل الحرية المتاحة في العالم العربي لاتكفي كاتبا واحدا لممارسة فعل كتابته بالجسارة التي يحلم بها « ، ولم يكن يوسف إدريس يحلم بالجسارة فقط ، بل كان يحيا بها ، إبداعيا وحياتيا ، وكان لايكف عن دفع الثمن الباهظ مقابل العيش بهذه الجسارة . يكمل المخزنجي فيقول "يوسف إدريس كان ملكا من ملوك القصة ، وما كانت تنفسح له هذه المكانة إلا عبر تشبثه بالحرية والجسارة ، يقول « الأنا الحقيقية تتحرر في الكتابة فحسب ، وفي لحظة من لحظات الكتابة التي أحس فيها أنني نفسي فعلا ، ولذلك لا أستطيع أن أكتب إلا حين ألغي العالم كله وأنصهر في الأنا الكل ، وبالطبع ليس سهلا الوصول إلى هذه الحالة ،هذه ليست عزلة ، إنها الاتصال الحقيقي والصادق بالحياة» ، وقد يبدو ذلك ضربا من المبالغة ، لكن الواقع يقول أن لامبالغة هناك ، وأتذكر أنني ، وقد كنت مستثنيا من الانتظار حتى ألقاه ، وأدخل إليه فور وصولي إلى مكتبه بالأهرام ، دخلت فرأيته منكبا يكتب ، رفع رأسه فلم يرني ، لم يكن موجودا خارج العالم الذي يكتب عنه ، كان متحررا من ربقة العالم محل الاعتراض ، ومتصلا بالعالم المستجيب لشروط اعتراضه ، جلست صامتا واخرجت شيئا أقرأ فيه ، ولم يرني أو ينتبه لوجودي إلا بعد نصف ساعة من الغوص بعيدا وعميقا فيما كان فيه" يحلل المخزنجي كتابات الأديب عن طريق قصصه فيقول "بهذه الحرية الجامحة ، المُحقِّقة للانفصال عن العالم بما هو كائن والاتصال بالعالم كما ينبغي أن يكون، كان يوصف بأنه يكتب عن شخصيات قصصه من داخلها ، من أعمق أعماقها ، وقد راقني للغاية وصف تقنيات غوصه في سبر الأعماق النفسية لشخصياته ، والأعماق الاجتماعية لوقائع قصصه ، بأنه كما « بَرِّيمة « الحفر في الأعماق ، حيث تتوالي طبقات من الوحل والصخر وخزانات المياه مطلقة الصفاء والغازات الحبيسة سريعة الاشتعال وحمم الصدوع الأرضية ، ويحضرني من ذلك تيار وعي بطلة « النداهة « لحظة اغتصابها، ومونولوج حرمان السجين المتسمع على جدار السجن في «مسحوق الهمس» وشلال التذكر الأليم للطبيب الضحية في «العسكري الأسود». كذلك لم ينس المخزنجي، أن يركز على ما صنع ليوسف إدريس تفرد الخاص، ألا وهي القصة القصيرة. تلك التي أكد عديد من الأدباء، أنه كان يستحق عليها نوبل بجدارة، فإبداع يوسف في القصة القصيرة لم يقل عن إبداع نجيب في الرواية، حيث يقول المخزنجي "هذه الجسارة ، وليدة الشوق العارم إلى الحرية والاستعداد لدفع الثمن لقاء هذه الحرية ، نلمس آثارها حتى في تقنيات الكتابة شكلا وموضوعا ، فقد انتقل بسرعة مما يسمى الواقعية في نماذج مبكرة كأرخص ليال إلى الفانتازيا في الرجل والنملة وهناك مرحلة في إبداعه أسميها غنائية الدراما ، في قصص تكاد تكون مقطوعات لحنية لها جذور في قصة « مارش الغروب « وفروع وغصون في قصص شديدة العذوبة مثل «أنصاف الثائرين» و» أمه « . وكانت آية جسارته ، منظورا إليها في زمن بزوغه في الخمسينيات، لغة تلتقط مفردات العامية لتخضعها لأجرومية الفصحى ، لهذا برز بلغة متميزة تماما ، ومن المدهش أن لها أصولا عميقة الفصاحة كالهجوم بالجار على المجرور وتدوير الجمل بتقديم الخبر على المبتدأ للتعبير عن حركية ما يصفه . أما ما لفت نظري بشدة ، فهو آلية التشويق في القص بتقنية أظنها إدريسية خالصة ، فإذا كان القول بأن «القصة القصيرة هي النهاية» مما تواتر كثيرا ، فإن يوسف إدريس شطر هذ النهاية الذروة ، ليصنع بشطر منها بداية مشوقة ، وبالشطر الآخر نهاية كاسحة ، وهكذا يغلق « دائرة القص» ببداية تتصل بالنهاية عبر مسارٍ محيط" اهتم يوسف إدريس بدراسة الكيمياء والعلوم حتى يحقق حلمه ويكون طبيبًا. و لكن القدر دائمًا ما يختار طريقًا آخر، أكثر مناسبة وأكثر قدرة على أن يحقق ما أراده من الحياة، ففي سنوات دراسته بكلية الطب اشترك في مظاهرات كثيرة ضد المستعمرين البريطانيين ونظام الملك فاروق، وفي 1951 صار السكرتير التنفيذي للجنة الدفاع عند الطلبة، ثم سكرتيراً للجنة الطلبة. وبهذه الصفة نشر في مجلات ثورية وسجن ليتم إبعاده عن الدراسة لعدة أشهر، وكان أثناء دراسته للطب قد حاول كتابة قصته القصيرة الأولى، و التي لاقت شعبية بين زملائه، وبدأت قصصه القصيرة تظهر في المصري وروز اليوسف. وفي 1954 ظهرت مجموعته أرخص الليالي. وفي 1956 حاول ممارسة الطب النفسي ولكنه قد وجد حياته التي يبحث عنها، ليترك المهنة ويعين محرراً بجريدة الجمهورية. في 1961 انضم إلى المناضلين الجزائريين في الجبال وحارب بمعارك استقلالهم ستة أشهر وأصيب بجرح وأهداه الجزائريون وساماً إعراباً عن تقديرهم لجهوده. "أكتب لأسعد، وأشرك غيري في سعادتي" هكذا يلخص إدريس حياته الثرية التي نتج عنها عشر روايات، وعشرات المجموعات القصصية، والمسرحيات، والمقالات، والأعمال الأدبية والنقدية. حيث تميزت هذه الأعمال بالواقعية نظرًا لاهتمامه بالمهمشين والكتابة العامية، التي وصفها الكتاب بأنها "السهل الممتنع" لم تقتصر اللغة على العامية، بل كانت قصص إدريس قصص مكثفة، يمكن خلال العدة أسطر، أن تحمل ما عجزت الروايات الكبيرة على تناوله، حتى كان يقول عن تعمده هذا المنحى: "إن الهدف الذي أسعى إليه هو أن أكثف في خمس وأربعين كلمة.. أي في جملة واحدة تقريبا- الكمية القصوى الممكنة من الإحساس، باستخدام أقل عدد ممكن من الكلمات" ليهدأ القلم الذي لم يكل عندما يصاب بنزيف في المخ ويتم للعلاج إلى إنجلترا، حيث تقول ابنته نسمة: قبل وفاته أصيب بنزيف في المخ وتم نقله بطائرة خاصة إلي إنجلترا للعلاج وعندما أفاق من غيبوبته فاجأنا جميعا فلم نره بصحة جيدة مثل تلك الفترة قبل وفاته بأيام حيث توقف عن التدخين وكان ضحوكا بشوشا عكس ما عهدناه عنه من حالة عدم التفاؤل والاكتئاب وقرر السفر لأداء فريضة الحج وعندما أصيب بضيق بالتنفس وأزمة قلبية كان واقفا علي قدميه ولكن الأطباء لم يستطيعوا إسعافه.