أمين البحوث الإسلامية: قمة السلام بشرم الشيخ فرصة لتأكيد صوت الاعتدال والرحمة    خبير تربوي يكشف أسباب التعدي على المعلمين وكيفية معالجته    حسين هريدي: القمة المصرية السودانية بحثت جهود وقف حرب السودان والتحضير لاجتماع واشنطن    ارتفاع سعر جرام الذهب مساء اليوم الأربعاء، عيار 21 وصل لهذا المستوى    خلال أيام يبدأ صرف معاشات شهر نوفمبر 2025 لملايين المستفيدين    المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف يكشف حقيقة تقليص دوره في ملف غزة    حلف الناتو يبحث تعزيز القدرات العسكرية وتنفيذ الأهداف الجديدة    أوكرانيا تأمر بقطع الكهرباء بشكل طارئ ردا على الهجمات الروسية    بعد كشف جماعة أبو شباب، ظهور ميليشيا جديدة متعاونة مع الاحتلال في شمال غزة (فيديو)    الجيش الإسرائيلي يقتحم مدينة نابلس شمال الضفة الغربية    ريال مدريد ينافس برشلونة على ضم نجم بايرن ميونيخ    ترامب يهدد بنقل مباريات كأس العالم من مدن أمريكية «غير آمنة»    مفاجأة كاب فيردى ودرسها    تعليمات خاصة من ديفيز للاعبي يد الأهلي قبل مواجهة البوليس الرواندي    إيقاف إنزو ماريسكا وتغريمه بسبب احتفاله في مباراة ليفربول ضد تشيلسي    حبس شخصين بتهمة غسل 50 مليون جنيه حصيلة الاتجار بالمخدرات في القليوبية    أحكام تتراوح من عام للمؤبد على المتهمين بقتل شخص وإصابة آخرين في مشاجرة بطوخ    «التعليم»: 88% من طلاب الصف الأول الثانوي اختاروا نظام البكالوريا المصرية 2025-2026    بتهمة قتل صغيرتها والقائها في صندوق قمامة.. السجن المشدد 15 عاما لربة منزل بقنا    دنيا سمير غانم تحتل المرتبة الثانية كأعلى بطلة نسائية بسينمات مصر    هل أصيب أحمد عبد العزيز بالاكتئاب؟ الفنان يجيب    المتحف القومي للحضارة المصرية يحتفي باليوم العالمي للتراث الثقافي غير المادي بفعالية «حضارة وشعوب»    «أولاد الراعي» يجمع أحمد عيد بماجد المصري وخالد الصاوي في رمضان 2026    «نكديين ومش بيحبوا السهر».. 4 أبراج تفضل الهدوء على الخروج في عطلة نهاية الأسبوع    تعرف على أحدث إصدارات دار الكتب والوثائق القومية    الصحة العالمية: نموذج برنامج التطعيم الإجباري فى مصر يحُتذى به على مستوى العالم    «تجهز في 5 دقايق».. حضري طبق «السبانخ بالكريمة» وتمتتعي بالمذاق الشتوي (الطريقة والخطوات)    محافظ أسوان يشهد مراسم توقيع بروتوكول تعاون بين المحافظة والهيئة العامة للكتاب    برشلونة يعلن تمديد عقد دي يونج حتى 2029    انطلاق الدورة السادسة عشر من مهرجان المسرح العربى من 10 ل 16 يناير    هل يجوز شراء شقة بنظام التمويل العقارى بقصد الاستثمار؟.. أمين الفتوى يجيب    بعد دعوته للانعقاد.. تعرف على الضوابط التنظيمية للجلسة الافتتاحية لمجلس الشيوخ    حازم هلال: فخور بالانضمام لقائمة الخطيب.. ونسعى لاستكمال مسيرة الإنجازات    محافظ جنوب سيناء يبحث آليات البدء في تنفيذ مشروع محطة إنتاج الطاقة والهيدروجين الأخضر بمدينة الطور    الشيخ خالد الجندي: جنات عدن في القرآن رمز للخلود وتمام الأجر الإلهي    جامعة قناة السويس تنفذ برنامجًا تدريبيًا توعويًا بمدرسة الجلاء الابتدائية    ضبط 850 كيلو لحوم وأسماك غير صالحة للاستهلاك الآدمي بكفر الشيخ    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 15-10-2025 في محافظة الأقصر    صحة المنوفية تواصل استعداداتها للاعتماد من هيئة الاعتماد والرقابة    شفاء المرضى أهم من الشهرة العالمية    وزيرة التضامن: مصر قدمت نحو 600 ألف طن من المساعدات لقطاع غزة    وزير العمل يلتقي رئيس غرفة تجارة وصناعة قطر لتعزيز التعاون بالملفات المشتركة    شريف حلمي: الأكاديمية العربية شريك أساسي في إعداد كوادر مشروع الضبعة النووية    رفع كفاءة المنشآت لخدمة الشباب..محافظ الجيزة يتفقد مركز شباب المناجم بالواحات البحرية    وزير المالية: تحسن أداء الاقتصاد المصرى خلال الربع الأول من 2025-2026    الجامع الأزهر يقرر مد فترة التقديم لمسابقة بنك فيصل لذوى الهمم حتى 20 أكتوبر الجارى    بعد تعيينه شيخاً للمقارئ أحمد نعينع: أحمد الله على ما استعملنى فيه    إيفاد: الحلول القائمة على الطبيعة تحسن رطوبة التربة وتزيد كفاءة أنظمة الري    متحدث الحكومة: تمويل 128 ألف مشروع بالمحافظات الحدودية ب4.9 مليار جنيه    سلوك عدواني مرفوض.. «خطورة التنمر وآثاره» في ندوة توعوية ل«الأوقاف» بجامعة مطروح    حكم تشغيل القرآن الكريم عبر مكبرات الصوت قبل الفجر والجمعة    أول تعليق من وزير الشئون النيابية على فوز مصر بعضوية مجلس حقوق الإنسان    ب 20 مليون جنيه.. «الداخلية» توجه ضربات أمنية ل«مافيا الاتجار بالدولار» في المحافظات    عاجل- مجلس الوزراء يشيد باتفاق شرم الشيخ للسلام ويؤكد دعم مصر لمسار التسوية في الشرق الأوسط    الكرملين: بوتين سيجري محادثات مع الرئيس السوري اليوم    أسرة سوزي الأردنية تساندها قبل بدء ثاني جلسات محاكمتها في بث فيديوهات خادشة    رمضان السيد: ظهور أسامة نبيه في هذا التوقيت كان غير موفقًا    عمقها 30 مترًا.. وفاة 3 شباب انهارت عليهم حفرة خلال التنقيب عن الآثار بالفيوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى ميلاده السابعة والثمانين
يوسف إدريس قصة وراءها قصة

بدا أن صوت جرس الباب ليس هو الصوت الذي سمعته عندما زرته آخر مرة قبل سفري ، منذ ثلاثة أعوام . وعندما انفتح الباب فوجئت بصوت مختلف يرحب بي قُبيل أن أُبصر صاحبه : « انت فين ياراجل . في انتظارك من زمان»!
لم يكن يوسف إدريس ، بل كان شخصا آخر دقيق البنية ، كهلا وأصلع ، لكن ابتسامة وجهه الحافل بالترحيب لم تترك لي فرصة للتراجع . خاصة وقد تأكدت أن الطابق هو الطابق ورقم الشقة هو الرقم . ووجدتني أمد يدي إلى يده الممدودة مُرددا : « آه .. صحيح .. صحيح .. ثلاث سنين غياب « .
تصورت أن الرجل قريب أو صديق ليوسف إدريس ، وفتح لي الباب حتى يجيء ، ولابد أنه يوسف إدريس عرَّفه بشخصي وأخبره بمجيئي في السابعة ، إذ كنت قد حادثته تليفونيا ودعاني لزيارته في هذه الساعة، لكن خطواتي الأولى داخل الشقة ضاعفت من استغرابي .
كان تكوين الشقة هو التكوين: الأنتريه في الصالة المُفضية إلى الشرفة المُقفلة ، والأبواب على اليسار .. لكن .. أين امتداد المكتبة في الصالة ، وحديقة نباتات الظل التي تملأ الشرفة صاعدة من الأرض أو متدلية من السقف . ثمة شيء مختلف!
لم ينقطع الرجل عن الترحيب بي وهو يدعوني إلى الجلوس ويسألني عما أشرب . وعندما ذهب لإعداد القهوة لاحظت أن مدخل المطبخ يُفضي إلى أثاث قديم داكن ، مختلف ، والشقة كلها تنم عن فراغ ، وإضاءة معتمة . فأين أفراد الأسرة ؟ ويوسف إدريس نفسه ، وقد أخبرني أنه سينتظرني في السابعة ؟!
أحضر الكهل الدقيق الأصلع فنجانين من القهوة على صينية قديمة مقشورة الطلاء عند الأطراف ، وكان متهللا باحتفالية وهو يقدم قهوتي ويأخذ قهوته ، ويسألني عن الطقس ، وينطلق في ثرثرة فرِحة عن نزق الإنسان تجاه الفصول . ثم يسألني إن كنت أحب أن يفتح لي التليفزيون أم لا ، واعتذر عن أنه لا يمتلك جهازا للفيديو ، برغم أنني لم أسأله عن ذلك .
فتح التليفزيون العتيق الذي كان يذيع برنامجا من المنوعات الغنائية ، وبدا مستمتعا للغاية بكل ما يُذاع ، وينظر نحوي مُشجعا على الاستمتاع بكل ما يُعرض على الشاشة . ولابد أنه لاحظ قلقي إذ مد يده وربت على كتفي مهدئا وهو يردد : « عشر دقايق .. كلها عشر دقايق « .
أدرك استغرابي عندما أدرت إليه وجهي ، وعاجلني شارِحا : « عشر دقايق .. ويوسف إدريس موش ها يزعل لما آخد منه بعض أصحابه شوية .. نتكلم .. عشر دقايق موش كتير في الزمن ده .. وهو موش هايزعل .. هو ما يعرفنيش صحيح ، لكن أنا عارفه .. هوَّ أديب كبير وبني آدم قوي .. هايفهم ويقدَّر .. سلم لي عليه والنبي وبوسهولي « .
كنت مدهوشا حتى أنني لم أهبط بالمصعد ، وقادتني قدماي إلى حلزون الدرج ، فالبوابة ، ثم الشارع ، فالبوابة المجاورة ، والمدخل الآخر .. تطابق شبه مطلق بين تكوين العمارتين المتجاورتين .. حتى المصعد ، والردهة ، وأرقام الشقق ، وباب الشقة هناك ، إلى اليمين عند المصعد . لكن اللافتة الصغيرة على الباب ، لابد أنها ثُبِّتت حديثا إذ لم أرها من قبل ، وعليها .. بخط أبيض على خلفية داكنة قرأت : « يوسف إدريس « .
ومددت يدي منفعلا ، لأضغط جرس الباب .
بعد غيبة سنتين ونصف دون إجازات عدت إلى مصر ، وبعد أن رأيت أهلي وأقرب أصحابي في المنصورة اتصلت بيوسف إدريس الذي كان ولايزال له المكانة الأعز في نفسي ، وأعتقد أنني كنت عزيزا لديه أيضا ، كانت المكالمة مشرقة وأصر أن يراني في أقرب فرصة ، واتفقنا أن أزوره في البيت في اليوم نفسه .

وصلت إلى ميدان الجلاء في الموعد ، واتجهت إلى العمارة التي زرته فيها مرتين أوثلاث من قبل ، ولعلي كنت الوحيد من أبناء جيلي الذي منحه هذا التشريف ، فصرت مقربا من أسرته الكريمة . ومن ثم كانت زيارتي له نوعا من العيد الذي أترقبه ، اتجهت قرب الغروب إلى مدخل العمارة وأخذت المصعد إلى الطابق الموعود وخرجت باتجاه الشقة التي أتذكر موقعها إلى اليمين ، وضغطت جرس الباب ، فأتاني صوت لم أعتده قبل أن يفتح لي ، وشعرت بالغرابة ، فمن فتح الباب مرحبا بي بتهلل شخص لا أعرفه ، وهو قطعا ليس أحد أفراد الأسرة الذين أعرفهم ويعرفونني ، وبارتباكة خجلي المزمن خطوت إلى داخل الشقة التي كان الرجل يفسح لي مرحبا كي أدخلها ، كانت شقة معتمة الإضاءة وأساسها عتيق ويكاد يكون باليا ، حتى التليفزيون الذي تركه مفتوحا على شاشة مضيئة مشوشة ، كان عتيقا وبالأبيض والأسود برغم أننا كنا في بداية العام 1988 . سألني الرجل إذا ماكنت أحب أن يصنع لي الشاي الآن أم فيما بعد . ولاحظت أنه يناديني بلقب «باشمهندس» ، ثم إن هيئته كانت أبعد ما تكون عن هيئة يوسف إدريس أو أى من أفراد أسرته ، فعيونه ليست ملونة مثلهم ولونه داكن يكاد يكون رماديا ، وهو نحيف وضئيل وأصلع وثيابه مُهملة ، فهو لايمكن أن يمت إلى العائلة بصلة قرابة ، فلماذا هو هنا ، وأين يوسف إدريس والأسرة ؟ أسئلة برقت في ذهني بخوف ؟ ووجدت نفسي أسأل الرجل إذا ماكانت هذه شقة الدكتور يوسف إدريس؟ فأجاب الرجل هازا رأسه ومبتسما بأسى :«ياراجل .. دانا كنت فاكرك المهندس اللي جاي يصلَّح التليفزيون ». ودلني على أن يوسف إدريس يسكن العمارة المجاورة .
نزلت وتوجهت إلى العمارة المجاورة « عمارة الهلالية رقم 100 شارع النيل « قرأت اللوحة النحاسية المكتوبة حفرا مملوءا بلون أسود ، فتذكرت ما غام في ذهني بفعل الغياب ، وشققت طريقي موقنا من أنني لن أخطئ هذه المرة ، صعدت إلى الطابق المعلوم وقرأت الاسم المكتوب بالأبيض على أرضية سوداء في إطار صغير أنيق « يوسف إدريس « ، ضغطت جرس الباب متنهدا في ارتياح ، ومُتأهبا لاستقبال عيد من أعياد الإبداع والمحبة ، فلطالما اعتبرت اقترابي من هذا العملاق الجميل منحة قدرية، حيث لايقف جماله
عند حدود وسامة الملامح ، بل يتعداه إلى وسامة الروح لأحد أكثر من أنجبتهم مصر موهبةً،ومغامرةً إبداعية ، وتوهجا وطنيا وإنسانيا.
يومها لم أخبر يوسف إدريس بالمفارقة التي عرضت لي عندما أخطأت العنوان ، فمن ناحية كان لدينا الكثير مما نتكلم فيه عن العالم الذي عشته هناك والعالم الذي عاشه هنا ، ويومها غمرتنا السيدة الكريمة صاحبة البيت بما منحنا مزيدا من الطاقة لساعتين من مسرة الحديث . ربما لهذا لم أتوقف عند لمحة المفارقة الأخيرة في ذلك اللقاء الخطأ ، بل اللقاء الصواب من وجهة نظر فنية ، فقد شعرت فور انفكاك عقدة ذلك اللقاء ، بأنني وقعت على قصة وأنا في الطريق للقاء أحد ملوك القص العظام ، والقصص كما يعرف صانعوها،تخبئ نموها في غيمة ، وفي لحظة تعلن عن اكتمالها وأوان ولادتها ، سواء بعد فترة قصيرة قد لاتستغرق دقائق ، أو تطول فلا تولد إلا بعد أشهر أو حتى سنوات . وقد وُلِدت هذه القصة بعد شهرين على النحو الذي آلت إليه ، وكان مآلا يكتنز مفارقة مدهشة كشف عنها يوسف إدريس ، وأرجئها حتى أتكلم عن يوسف إدريس نفسه .
على غير ماهو شائع ، لم يكن يوسف إدريس هو الذي اكتشفني ، فثمة كرام عديدون وعديدات قاموا بهذا الدور ، لكن دوره معي كان أكبر من مهمة اكتشاف كاتب جديد ، بل أكبر من الكتابة التي لا أعتبرها مُعادلا للحياة كما يذهب كثيرون ، لأن الحياة التي أدركها عيانيا ومعرفيا ، بدءا من الكائنات وحيدة الخلية حتى أجرام الكون العميق ، مرورا بالنباتات والحيوانات والأشجار والأنهار والبحار والسحب والعواصف والضوء والظلمة العظمى للمادة والطاقة اللامرئتين وإن كانتا تشكلان أكثر من 90% من الكون الذي ندركه . هذه الحياة هائلة جدا ، والكتابة مجرد إفراز بشري متواضع جدا ، وإن كان مهما وجميلا للغاية في حياتنا البشرية . ليست لدي أى أوهام عن الكتابة كبديل للحياة ، ولا أى أوهام عن خلودها . الكتابة من منظوري ، وحتى قبل أن أعمل بالطب النفسي أو أهتم بعلم النفس ، هي نوع من الدفاع النفسي لاحتمال أثقال الوجود المحدود للبشر ، نوع من التحليق في سموات مفتوحة للإطلال على شجون وفتون حياتنا الأرضية ، وهذا التحليق لا أجنحة له إلا الشعور بالحرية ، هنا بالضبط يتبلور دور الفنان العظيم ، ويوسف إدريس كان فنانا عظيما ، لأنه مُحرِّر عظيم ، أكد بتحليقه الإبداعي ليس حريته وحده ، بل حفز حرية وتحليق الآخرين إبداعيا ، أو كما عبرت مرة : الكاتب الكبير لايتعاظم دوره بإنتاج نسخ متكرره من الكُتَّاب الطالعين ، بل بجعل الكتاب الطالعين يفتحون أقفاص صدورهم ليطلقوا طيور أرواحهم الحبيسة لتتسامى بالعلو والتحليق . يوسف إدريس فعل بمغامرته الإبداعية ذلك معي ومع غيري ، لكن قربي منه كان جرعة مضافة للتحرير، فيوسف إدريس كائن شديد النزوع للحرية الخلاقة ، إبداعيا ، ووطنيا ، وإنسانيا ، ومن هنا بالضبط تولدت آلامه عبر الاصطدام المتكرر بالعبيد ومُكرِّسي العبودية ، ولأن ذلك كذلك ، فإنني أفهم صرخته « إن كل الحرية المتاحة في العالم العربي لاتكفي كاتبا واحدا لممارسة فعل كتابته بالجسارة التي يحلم بها « ، ولم يكن يوسف إدريس يحلم بالجسارة فقط ، بل كان يحيا بها ، إبداعيا وحياتيا ، وكان لايكف عن دفع الثمن الباهظ مقابل العيش بهذه الجسارة .
يوسف إدريس كان ملكا من ملوك القصة ، وما كانت تنفسح له هذه المكانة إلا عبر تشبثه بالحرية والجسارة ، يقول « الأنا الحقيقية تتحرر في الكتابة فحسب ، وفي لحظة من لحظات الكتابة التي أحس فيها أنني نفسي فعلا ، ولذلك لا أستطيع أن أكتب إلا حين ألغي العالم كله وأنصهر في الأنا الكل ، وبالطبع ليس سهلا الوصول إلى هذه الحالة ،هذه ليست عزلة ، إنها الاتصال الحقيقي والصادق بالحياة» ، وقد يبدو ذلك ضربا من المبالغة ، لكن الواقع يقول أن لامبالغة هناك ، وأتذكر أنني ، وقد كنت مستثنيا من الانتظار حتى ألقاه ، وأدخل إليه فور وصولي إلى مكتبه بالأهرام ، دخلت فرأيته منكبا يكتب ، رفع رأسه فلم يرني ، لم يكن موجودا خارج العالم الذي يكتب عنه ، كان متحررا من ربقة العالم محل الاعتراض ، ومتصلا بالعالم المستجيب لشروط اعتراضه ، جلست صامتا واخرجت شيئا أقرأ فيه ، ولم يرني أو ينتبه لوجودي إلا بعد نصف ساعة من الغوص بعيدا وعميقا فيما كان فيه .
بهذه الحرية الجامحة ، المُحقِّقة للانفصال عن العالم بما هو كائن والاتصال بالعالم كما ينبغي أن يكون ، كان يوصف بأنه يكتب عن شخصيات قصصه من داخلها ، من أعمق أعماقها ، وقد راقني للغاية وصف تقنيات غوصه في سبر الأعماق النفسية لشخصياته ، والأعماق الاجتماعية لوقائع قصصه ، بأنه كما « بَرِّيمة « الحفر في الأعماق ، حيث تتوالي طبقات من الوحل والصخر وخزانات المياه مطلقة الصفاء والغازات الحبيسة سريعة الاشتعال وحمم الصدوع الأرضية ، ويحضرني من ذلك تيار وعي بطلة « النداهة « لحظة اغتصابها، ومونولوج حرمان السجين المتسمع على جدار السجن في «مسحوق الهمس» وشلال التذكر الأليم للطبيب الضحية في «العسكري الأسود» .
هذه الجسارة ، وليدة الشوق العارم إلى الحرية والاستعداد لدفع الثمن لقاء هذه الحرية ، نلمس آثارها حتى في تقنيات الكتابة شكلا وموضوعا ، فقد انتقل بسرعة مما يسمى الواقعية في نماذج مبكرة كأرخص ليال إلى الفانتازيا في الرجل والنملة وهناك مرحلة في إبداعه أسميها غنائية الدراما ، في قصص تكاد تكون مقطوعات لحنية لها جذور في قصة « مارش الغروب « وفروع وغصون في قصص شديدة العذوبة مثل «أنصاف الثائرين» و» أمه « . وكانت آية جسارته ، منظورا إليها في زمن بزوغه في الخمسينيات، لغة تلتقط مفردات العامية لتخضعها لأجرومية الفصحى ، لهذا برز بلغة متميزة تماما ، ومن المدهش أن لها أصولا عميقة الفصاحة كالهجوم بالجار على المجرور وتدوير الجمل بتقديم الخبر على المبتدأ للتعبير عن حركية ما يصفه . أما ما لفت نظري بشدة ، فهو آلية التشويق في القص بتقنية أظنها إدريسية خالصة ، فإذا كان القول بأن «القصة القصيرة هي النهاية» مما تواتر كثيرا ، فإن يوسف إدريس شطر هذ النهاية الذروة ، ليصنع بشطر منها بداية مشوقة ، وبالشطر الآخر نهاية كاسحة ، وهكذا يغلق « دائرة القص» ببداية تتصل بالنهاية عبر مسارٍ محيط .
لقد قلت إنني لم أخبر يوسف إدريس بما حدث معي من خطأ في طرق باب شقة مُناظِرة في عمارة مجاورة ولقاء برجل غريب هناك ، كما أنني لم أخبره بالقصة حال كتابتها ، بل فاجأته بنشرها ، وبالطبع كنت أحقق بها بداية مشروع لم أنجزه ، أن أُمجِّد أساتذتي وزملائي بقصص تحمل أسماءهم وبعض عطرهم وإن كانت مفعمة برسالتها العامة ، لم أنجز منها غير هذه القصة وقصة عن نجيب محفوظ وقصة فقدتها عن ابراهيم أصلان . وقد وصل هذا المعنى ليوسف إدريس حال قراءة القصة، وأذكر أنني بعد نشرها بأيام ذهبت لأراه في مكتبه بالأهرام ، وكنت بعمق المحبة وإدراك الود ، أذهب إليه بلا ميعاد ، لم أكن أعرف أنه تأخر في الوصول إلى الأهرام ، وبينما كنت أنتظر المصعد وسط مجموعة من الناس أقبل يوسف إدريس فأفسحوا له مكانا ورآني ، فرفع ذراعيه مفتوحتين هاتفا « يامحمديافنان « واحتضنني وسط دهشة الوجوه ولمعة الحبور في العيون أمام المصعد ، وفي المكتب راح يحكي لي عن هذا الرجل الذي التقيته في لحظة خطأ واقعي ، ولحظة صواب فني « مُلهمة « كما وصفها ، أخبرني أن هذا الرجل هو الوحيد الباقي من أسرة إقطاعية كبيرة ، وهو يعيش وحده منذ سنوات ويكاد لايخرج من شقته ، وأنه بالفعل يتصيد من يقصدون شقته خطأً على اعتبار أنها شقة يوسف إدريس ، ليتعزى بالحديث معهم ولو لنصف دقيقة . واندهشت !
اندهشت للكيفية التي يذهب بها الخيال والتعاطف الإنساني في الأدب إلى إكمال صورة واقع نابض بحياة مؤثرة وإن لم يبدُ منها غير طرف طرف خيط ، وبالطبع لم أستبعد أن يكون ما أخبرني به يوسف إدريس ليس إلا الواقع البديل للواقع الذي ينفصل فيه الأدباء بعرامة الشوق إلى التحرر من الواقع الزائف والوعي الزائف ، ليتصلوا بحُرقة التوق إلى عالم آخر ، حقيقي أكثر ، حيث يمكنهم ملامسة جوهر الحياة. أليس ذلك هو تشخيص طبيب القصة بارق الموهبة : الدكتور يوسف إدريس ؟ النجم الذي ولد في 19 مايو 1927 بقرية البيروم مركز فاقوس شرقية؟ والذي كما النجوم ، تمضي ، ويظل ضوؤها يأتينا ، ليؤنس وحشتنا في الليل ، كل ليل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.