تعرف على عقوبات خرق الصمت الانتخابي وفقًا للقانون    إطلاق فولكس فاجن تايرون موديل 2026 رسميًا في السوق المصرية، اعرف السعر والمواصفات    تقرير معمل السموم لعينة دم عاطل تسبب في تناول ابنته الحشيش    أحمد سعد يشعل أجواء حفل ختام مهرجان الجونة ب "اليوم الحلو" و"خلينا هنا" (فيديو)    رئيس الوزراء: المتحف المصرى الكبير بُنيانٌ يروي قصة إرادة الدولة المصرية    تعليق مفاجئ من حمدي الميرغني بعد انتهاء الخلافات بينه وبين زوجته    بعت نصيبي من ورث والدي فقاطعني إخوتي هل عليا ذنب؟ الإفتاء ترد    سائحة بريطانية تشيد بالخدمة الطبية فى مستشفى الخارجة التخصصي بعد إسعافها    كل ما تريد معرفته عن محفظة فودافون كاش: الحد الأقصى للتحويل ورسوم السحب والإيداع وخدمات الدفع    الأهلي يخطط لضم فيستون ماييلي من بيراميدز بعرض يتجاوز 80 مليون جنيه    استقرار أسعار الخضار والفاكهة اليوم السبت 25 أكتوبر 2025 في الأسواق المصرية    عمرو أديب يرد على شائعة انتقال محمد صلاح إلى الأهلي: «سيبوا الراجل في حاله»    حادث تصادم في نهر النيل.. باخرة سياحية تصطدم بكوبري    اليوم.. شبورة مائية وطقس حار نهارا على أغلب الأنحاء والعظمي بالقاهرة 31    عاجل- القبض على مالك المنزل المتهم بالاعتداء على مستأجر مسن بالسويس    إصابة 9 أشخاص فى حادث انقلاب ميكروباص علي طريق بنها شبرا الحر بالقليوبية    إيهاب توفيق يحيي حفلًا غنائيًا في أمريكا بعد نجاحه في مهرجان القلعة    موعد مباراة ميلان القادمة عقب التعادل أمام بيزا والقنوات الناقلة    استقرار طفيف بأسعار الخشب ومواد البناء في أسوان اليوم السبت 25 أكتوبر 2025    سعر التفاح والموز والفاكهة في الأسواق اليوم السبت 25 أكتوبر 2025    90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 25 أكتوبر 2025    تفاصيل بيان الفصائل الفلسطينية للتشديد على وقف إطلاق النار وبدء إعمار غزة    المبعوث الروسى ل CNN: قمة بوتين ترامب ستتم وسيوجد حل دبلوماسى لحرب أوكرانيا    ترامب: علاقاتي مع زعيم كوريا الشمالية جيدة وآمل لقاءه خلال جولتي الآسيوية    ماذا حدث فى حريق مصنع ملابس بقليوب؟ التفاصيل الكاملة من موقع الحادث.. صور    مستوطنون يهاجمون المغيّر ويحرقون 3 مركبات    وظائف البنك الزراعي المصري 2025 للخريجين الجدد.. سجل الآن    21 يرتفع من جديد.. تحديث ل أسعار الذهب اليوم السبت 25-10-2025    «مجانًا وبجودة عالية».. القنوات الناقلة مباشر ل مباراة الأهلي وإيجل نوار في دوري أبطال أفريقيا    شيكو بانزا يدعم محمد السيد بعد هجوم جماهير الزمالك: لا تستمع لأى شخص    أحمد فهمي وهشام ماجد إخوات رغم انفصالهما فنيا.. اعرف ماذا حدث فى فرح حاتم صلاح    شاهد لاعبو بيراميدز يحتفلون بالكؤوس الثلاثة    فلكيًا.. موعد شهر رمضان 2026 وأول أيام الصيام    إمام عاشور عقب أنباء تحسن حالته الصحية: اللهم لك الحمد حتى ترضى    الصين تعتمد يوم 25 أكتوبر ذكرى وطنية لاستعادة تايوان    «بوابة أخبار اليوم» تكشف حقيقة تداول صور لثعبان الكوبرا بالغربية| صور    «عمود إنارة» ينهى حياة لص بالصف    خمسة مسلسلات في عام.. محمد فراج نجم دراما 2025    اليوم.. محاكمة رمضان صبحي بتهمة التزوير داخل معهد بأبو النمرس    الشرطة المصرية.. إنجازات أبهرت العالم    «الأزهر العالمي للفتوى» يرد| قطع صلة الرحم.. من الكبائر    الإفتاء تُجيب| تحديد نوع الجنين.. حلال أم حرام؟    الإفتاء تُجيب| «المراهنات».. قمار مُحرم    تطبيق لائحة الانضباط يواجه مخاوف التسرب من التعليم.. أزمة فصل الطلاب بعد تجاوز نسب الغياب    لماذا تتزايد حالات النوبات القلبية بين الشباب؟    مادورو يتهم واشنطن باختلاق حرب جديدة ضد فنزويلا بذريعة مكافحة المخدرات    جماهير ليفربول تدعم صلاح بأرقامه القياسية أمام الانتقادات    عبد الحميد كمال يكتب: بطولة خالدة.. المقاومة الشعبية فى السويس تنتصر على القوات الإسرائيلية    "أسير لن يخرج إلا ميتًا".. الدويري يكشف عن لقاءه مع رئيس "الشاباك" في تل أبيب    أسهل وصفة للتومية في البيت.. سر القوام المثالي بدون بيض (الطريقة والخطوات)    فضائح التسريبات ل"خيري رمضان" و"غطاس" .. ومراقبون: يربطهم الهجوم على حماس والخضوع للمال الإماراتي ..    «حرام عليك يا عمو».. تفاصيل طعن طالب في فيصل أثناء محاولته إنقاذ صديقه    إنزاجي يشيد بلاعبى الهلال بعد الفوز على اتحاد جدة    «زي النهارده».. «الكاميكازي» يضرب الأسطول الأمريكي 25 أكتوبر 1944    عاجل | تعرف على أسعار الذهب في ختام تعاملات اليوم الجمعة    بمشاركة 150 طالبًا.. جامعة قناة السويس تطلق معسكر صقل وتنمية مهارات الجوالة الجدد    26 أكتوبر، جامعة أسيوط تنظم يوما علميا عن الوقاية من الجلطات    مؤتمر حميات الفيوم يناقش الجديد في علاج الإيدز وفيروسات الكبد ب 12 بحثا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلقة الثالثة.. جلال الدين الرومي.. دين العشق ليس له طريق موحد فالطرائق بعدد أنفاس الخلائق.. سلطان العارفين بدأ فى القرن الثالث عشر خطيبا مفوها وتحول إلى داعية عشق إلهى
نشر في صوت الأمة يوم 08 - 04 - 2023

ما من أمنية أعظم من العمار، بينك وبين ربك، وبينك وبين المحبين، وبينك وبين ذلك الخل الوفي، وبين ذلك السارح الممسك بمسبحته، يستغفر ويحمد ويدعو الله، عساه يريح ذلك القلب المجهد والروح التائهة.
الشوق أحد منازل العمار، إن لم يكن جُله، والهيام، والشعر، والموسيقى أيضًا.. لن يهم أحد الوسيلة بل الأهم غايتك في الرحلة، وتجمل روحك وراحك، وتدرك بذلك ماهية الحب غير المشروط، أن تحب، بلا توجس، وبلا انتظار، وبلا سبب، كل ما عليك أن تجود بالوصل، أو تدين بالحب، ولله در الإمام محي الدين بن عربي: "أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ ركائبه.. فالحب ديني وإيماني".
ومما كتب في الوصل، ما قاله الإمام أبو الحسن التستري، أحد شعراء الأندلس: "كلما قلتُ بقربي تنطفي نيرانُ قلبي.. زادني الوصلُ لهيبًا هكذا حالْ المحبِ.. لا بوصلي أتسلى لا ولا بالهجر أنسى.. ليس للعشق دواءٌ فاحتسبْ عَقلا ونفسا.. إِنني أسلمتُ أمري في الهوى معنى وحسّا.. ما بقي إِلا التفاني حبذا في الحب نحبي".
ويريد أن يقول: "إنه لا يمكن للعارف أن يقول إنه وصل أو شَرِبَ وارتوى لأن الحب شُربٌ بلا ري، وهو تجلي إلهي على عباده الصالحين والعارفين ومن لم يذقه شرباً ما عرفه، لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها".
على مدار شهر رمضان الكريم، نطرق أبواب المحبين علنا نصل، وعلّ نيران الشوق تنطفئ، ولهيبها يُخمد، نجول في عقلوهم، ونخطو على مهل نحو العمار، ساعين في الوصال والحب والإمدادات الروحانية، نجول بتلك الرحلة مع العارفين، نتذوق معهم معنى العشق الإلهي، لنرى بعيونهم، ونشعر بوجدانهم، ما ذاقوا خلال رحلاتهم، وإن كانت مختلفة، فهي متشابهة للبحث عن الذات، عن روح الله التي بثها في نفوسنا.

جلال الدين الرومي.. دين العشق ليس له طريق موحد فالطرائق بعدد أنفاس الخلائق
"مولانا" صاحب الطريقة "المولوية"، العالم بفقه الحنفية والخلاف وأنواع العلوم ارتقت روحه لمتصوف غزل العشق كما يُغزل الحرير
سلطان العارفين استحواذ على قلوب الناس بدأ في القرن الثالث عشر خطيبًا مفوهًا تحول إلى داعية عشق يفضل العشق الإلهي على متع الحياة
وصفه شمس التبريزي بقوله: الرومي على حق فهو ليس من الشرق ولا من الغرب إنه ينتمي إلى مملكة الحب إنه ينتمي إلى المحبوب

على ضفاف بحيرة ضحلٌ ماءها، تراصت أشجار الصفاف، يداعبها نسيم الربيع، تتراقص حبا وتسمو عبادة، فكما قال "مولانا": "لا يفنى في الله مَنْ لا يعرف قوة الرقص، أشعة الشمس تنير ما حولها وتدفئ تلك القلوب المتعبة، تتراص الأشجار باختلاف ألوان ورودها لترسم تلك اللوحة الربانية".
الكل يرى، لكن لن يصل لجمال معنى هذا المشهد سوى بالحب، فبه وحده، بمدد من الله، تستطيع رؤية ذلك الجمال الكوني، والتناغم الإلهي، بنفس مطمئنة، نفس محب، كروح مولانا جلال الدين الرومي، العابد المحب.
هي بضعة خطوات فقط، نجوب معها في رحلتنا مع "مولانا" صاحب الطريقة "المولوية"، العالم بفقه الحنفية والخلاف وأنواع العلوم، ارتقت روحه لمتصوف غزل العشق كما يُغزل الحرير، فتجملت به ومعه أرواح العاشقين، درجة اختفت "دفوهات" النفس، واشتد قوامها، فهو في الأصل محمد، جعل الله له من اسم سيد الخلق نصيب، فكان دواء للمنهكة أرواحهم، يأخذ بيدهم إلى سلم الجمال.
"كم هم سعداء أولئك الذين يتخلصون من الأغلال التي ترسخ بها حياتهم".. جلال الدِّين الرُّومي شاعر، اسمه في الأصل محمد بن حسين بهاء الدين البَلَخي الْبَكْرِيّ، وبالفارسية "جلال ‌الدين محمد بلخى"، ولد في 604 هجرية، و1207 ميلادية.
وليتخلص المحب من الأغلال، عليه فقط أن يعلم أن "العشق يزهر من تلقاء نفسه بإرادة مستقلة، فالعشق لا يمكن أن يكتسب أو يلقن، ولا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟".. ولد ذلك العاشق في بلخ، أفغانستان وانتقل مع أبيه إلى بغداد، في الرابعة من عمره، فترعرع بها في المدرسة المستنصرية حيث نزل أبوه.
لم تطل إقامته فقد ارتحل أبوه رحلة واسعة ومكث في بعض البلدان مُددًا طويلةً، وهو معه، ثم استقر في قونية سنة 623 ه في عهد دولة السلاجقة الأتراك، فبرع في الفقه وغيره من العلوم الإسلامية، وتولى التدريس ب"قونية" في أربع مدارس، بعد وفاة أبيه سنة 628 ه ثم ترك التدريس والتصنيف والدنيا، في 642 ه لتبدأ بذلك رحلته نحو العشق.
وصل ذلك المُشغول بالرياضة وسماع الموسيقى ونظم الشعر وإنشاده، إلى النور، برحلة كان فيها شغوف، جسد حروفها بقوله: "أينما كان النور فأنا الشغوف به، وأينما كانت الزهرة فأنا الفراشة، وأينما كان الجمال فأنا العشاق، وأينما كانت الحكمة فهي ضالتي".
والوصول للحب في عقل "العارف بالله" مرهون بالسعي، فهو القائل: "إن السعي وراء الحب يغيرنا، فما من أحد يسعى وراء الحب إلا وينضج أثناء رحلته، فما أن تبدأ رحلة البحث عن الحب، حتى تبدأ تتغير من الداخل والخارج"، لكنه اشترط أن ينبع النور من القلب، وقتها لن يضل أحد ولا يشقى، فتخرج من ذاتك الحسية إلى مكنونك القلبي، عليك فقط أن تدع الماء يسكن، وسترى نجومًا وقمرًا تنعكس في كيانك، تفعل ما تمليه عليك روحك، تشعر بهذا النهر العذب يتدفق داخلك، إنها البهجة الخالصة، فقط لا تجزع إن ذابت وانطفأت كل شموع العالم، واجعل من نفسك الشرارة التي تبدأ النار. وفق "جلال الدين".
عرف "سلطان العارفين" حدوده من القراءة والكتابة، ولم يسع في الفراق، فهو يرى الإنسان مجرد فكر، ما بقي منه غير عظام وجلد: "اظهر كما أنت وكن كما تظهر، ارتقي بمستوى حديثك لا بمستوى صوتك، إنه المطر الذي ينمي الأزهار وليس الرعد".
ذلك الشاعر الصوفي انتزع بحُسن ديباجته الشعرية مقاليد الاعتراف من المستشرقين، الذين أقروا بأنه الشاعر الصوفي الأعظم في كل الأزمان، وهو المُنَظِّر القانوني، والفقيه الديني الذي لُقب "بخداوند كار" التي تعني (شيخنا)، والأديب الماهر الذكي الذي ستظل عبقريته حديث الإبداع في كل الأزمان.
لقب ب"الرومي" لأنه قضى جُلَّ حياته في حضرة سلاجقة الروم في تركيا الحالية.. يقول: "إذا كنت مثل القشة لا مبدأ لك تميل مع كلّ نسمة، فإنّك لن تعدّل قشّةً حتى ولو صرت جبلًا، فالمرحلة المأزومة تدلّ على فرسانها من المدّعين المنافقين والمهترّين مع كلّ ريح، والجاهل وإن يبدي لك الودّ، فإنّه في النهاية يصيبك بالجراح من جهله، قد تجد الحب في كل الأديان، لكن الحب نفسه لا دين له".
عليك أيضًا أن تختر لقلبك من يجالس، فلا تجالس إلا الذين يفهمونك ويعرفون حقيقتك، يا قلب، ولا تجلس إلا تحت الشجرة المزهرة، فإن في كل قلب كونًا مخفيًا، إن القمر يبقى مضيئًا، حين لا يهرب من ظلمة الليل، أيا كان ما يشعرك بالنقاء، فهو الطريق الصحيح".
مولانا والتبريزي.. وللعشق قواعد أربعون
بينما كان "جلال الدين" في إحدى خلواته ينظم الشعر، التقى بشيخ كبير تظهر عليه ملامح الإجلال والاحترام، فجلس معه ونظر إليه دون أن يتحدث، فقال له الشيخ: ماذا تفعل هنا يا بني وحيدًا؟ ابتسم جلال الدين بحياء ومهابة وقال: "أبحث في عالم الشعر والخيال، واستلهم الوحي والجمال، وأتأمل بهذه المجودات التي أوجدها موجدها، فيختلط علّي فلا أشعر كيف السلوك إلى معارج الحقيقة الكامنة خلف هذه الموجودات".
هذه الرحلة نقلت مولانا جلال - وفق الدكتور مصطفى غالب، في كتابه "جلال الدين الرومي"- إلى رحلة امتد أثرها حتى بعد قرون عدة، فالشيخ أخذ بعضًا مما كتبه الرومي وألقاه في الماء، وقال له: أنا من يدلك على ما تبحث عنه، وهنالك جرى بينهما التعارف الذي جعل جلال الدين يقول له في النهاية: "لن أدعك تذهب دون أن تكمل، وأخذه الرومي إلى داره وبقيًا معًا لا يفترقان مدة عامين، وبعدها تحول جلال الدين الرومي لشخص آخر".
استحواذ جلال الرومي على قلوب الناس بدأ في القرن الثالث عشر، وقتها كان خطيبًا مفوهًا، سحبه التبريزي بعيدًا عن الصراعات الدينية والطائفية آنذاك، وتحول إلى داعية عشق، يفضل العشق الإلهي على غيره من متع الحياة.
كان اللقاء في 1244 ميلادية، بعدها جاشت العواطف، وتمسك بغترته الصوفية، وابتدع رقصة الدراويش، تحرر من قيود الدنيا لتتجسد فيه قواعد العشق الأربعون، يقول "شمس" عن صاحبه: الرومي على حق، فهو ليس من الشرق ولا من الغرب، إنه ينتمي إلى مملكة الحب. إنه ينتمي إلى المحبوب.
في كتاب قاعد العشق الأربعون، تجسدت ملامح العلاقة بين الرفيقين، وظهرت أسس التحول، فكلاهما اتفقا على أن "الطريقة التي نرى فيها الله ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا، فإذا لم يكن الله يجلب إلى عقولنا سوى الخوف والملامة فهذا يعني أن قدرًا كبيرًا من الخوف والملامة يتدفق في نفوسنا، أما إذا رأينا الله مفعمًا بالمحبة والرحمة فإننا نكون كذلك".
لقد مر جلال إلى رحلته للحقيقة من خلال قلبه، وجعل منه دليله الرئيسي، حتى تغلب في النهاية على نفسه- هكذا علمه صديقه شمس تبريز، وعلمه أيضًا أن معرفته بنفسه ستقوده إلى معرفة الله، فإن كل قارئ للقرآن الكريم يفهمه بمستوى مختلف بحسب عمق فهمه، وأن هناك أربعة مستويات من البصيرة: يتمثل المستوى الأول في المعنى الخارجي وهو المعنى الذي يقتنع به معظم الناس، ثم يأتي المستوى الباطني. وفي المستوى الثالث يأتي باطن الباطن، أما المستوى الرابع فهو العمق ولا يمكن الإعراب عنه بالكلمات، لذلك يتعذر وصفه.
"الله" في قلب جلال، لا ينحصر وجوده سبحانه في المسجد أو في الكنيسة، وهو القائل: "فإذا كنت لا تزال تريد أن تعرف أين يقع عرشه بالتحديد، يوجد مكان واحد فقط تستطيع أن تبحث فيه عنه، وهو قلب عاشق حقيقي. فلم يعش أحد بعد رؤيته ولم يمت أحد بعد رؤيته، فمن يجده يبقى معه إلى الأبد".
ألم تحول إلى عشق
لقد كان اختفاء شمس الدين في فتنة حدثت في قونية، ومعه ابن جلال الأكبر "علاء الدين" نقطة تحول في حياة مولانا العاشق، وسببت ألم كبير عاناه الرومي، فكتب قصائد خلت من النحيب، وأسماها ديوان شمس تبريز، فيقول: "من ذا الذي قال إن شمس الروح الخالدة قد ماتت؟ ومن الذي تجرأ على القول بأن شمس الأمل قد تولت؟ إن هذا ليس إلا عدوًا للشمس وقف تحت سقف، وربط كلتا عينيه ثم صاح: ها هي ذي الشمس تموت".
نقل كتاب "جلال الدين الرومي"، عن الدكتور "كفافي" تعليقه على هذه الأبيات: "هذه المحبة القائمة على الوفاق الروحي بين الشاعر وبين التبريزي، كانت ذا أثر عظيم في إنتاج الشاعر. وقد تجلت ثمارها العظيمة حين تمخضت عن ديوان من الغزل الصوفي الرائع.
"لم يكتف شاعرنا بإطلاق اسم صديقه على ديوانه، وإنما كان في كثير من غزليات هذا الديوان يتلخص باسم "شمس تبريز" فكأنه ينسب إليه الفضل في هذا الشعر، بما أثاره في روحه من وجد وحنين، ومحبة بلغت بالروح غاية الصفاء، وخرجت بها عن عالم الحسن إلى عالم وراء الحسن، فيه من الجمال والرونق ما يفوق كل ما حواه هذا الكون المشهود".
صار جلال وحيدًا، واعتكف في منزله لا يخرج منه إلا في الملمات ينظم ويصنف ويبحث وينقب، يزوره بعض المخلصين المقربين من طلابه، فكان يجد فيهم بعض السلوى عن فقدان حبيبه شمس تبريز، وأول من يذكر شاعرنا من صلاح الدين زركوب الصائغ.
اتخذ جلال الدين صديقًا آخر، هو تلميذه حسن حسام الدين، وخلد اسمه في كتابه "المثنوي"، حيث نسب إليه الفضل في تشجيعه على القيام بهذا العمل الضخم، كما أنه لزم الرومي خلال نظمه لسنوات، وكان يكتب عليه ما يمليه عليه ثم يعود فيقرأه عليه، أو ينشده بصوته الجميل.
شمس الطريقة المولوية تشرق بجلال
ما كان للطريقة المولوية أن تكون، لولا الحب، حب جلال لشمس الدين تبريز، فالصديق الروحي، هو ذلك الذي يأخذ بيدك من غياهب الكره إلى نور الحب، ك"هبة" تحنو على قلبك فتشرق شمسه، وتعود لهذه الشجرة اليابسة.. عليك أن تبحث عن شخص، شخص يكون بمثابة مرآة لك، تذكر أنك لا تستطيع أن ترى نفسك حقًا، إلا في قلب شخص آخر، وبوجود الله في داخلك. وفق مولانا جلال.
"استمع إلى صوت الناي، كيف يبث آلام الحنين، مُذ قُطعت من الغاب وأنا أحن إلى أصلي".. لقد جعل "ابن الرومي" قباء شمس تبريز شعارًا لأتباع هذه الطريقة، يرتدونه فيتميزون به عن غيرهم. وكانت مجالس أتباع الطريقة تتسم بذلك الحنين الروحي، وتتردد في جوانبها ألحان الناي بما يشيع فيه من أنين وأشواق".
حب انكشفت بها ثنايا الوجد
تركت أشعار جلال الدين الرومي ومؤلفاته الصوفية والتي كتبت أغلبها باللغة الفارسية وبعضها بالعربية والتركية، تأثيراً واسعاً في العالم الإسلامي وخاصة على الثقافة الفارسية والعربية والأردية والبنغالية والتركية، وترجمت في العصر الحديث إلى كثير من لغات العالم، ولقيت صدًى واسعاً جداً إذ وصفته ال"بي بي سي" عام 2007، بأكثر الشعراء شعبية في الولايات المتحدة.
"قد أشرقت الدنيا من نور حميّانا.. البدر غدا الساقي والكأس ثريّانا، الصبوة إيماني والخلوة بستاني.. والمشجر ندماني والورد محيّانا، من كان له عشق فالمجلس مثواه.. من كان له عقل إيّاه وإيّانا، من ضاق به دار أو أعطشه نار.. نهديه إلى عين يسترجع ريّانا".. تصنف أعمال "مولانا" إلى عدة تصانيف وهي: "الرباعيات، ديوان الغزل، مجلدات المثنوي الستة، المجالس السبعة ورسائل المنبر".. والرباعيات: منظومة أحصاها العالم الإيراني المعاصر بديع الزمان فوزانفر، كما وردت في طبعة إسطنبول، فوجد أنها تبلغ 1659 رباعية، أي 3318 بيتاً.
وأشرق الوجد في قلب جلال، وزاده جلالًا، فالفكر والحب يتكوّنان من مواد مختلفة.. الفكر يربط البشر في عقد، لكن الحب يذيب جميع العقد، إن الفكر حذر دومًا وهو يقول ناصحًا: "احذر الكثير من النشوة" بينما يقول الحب: "لا تكترث! أقدم على هذه المجازفة". وفي حين أن الفكر لا يمكن أن يتلاشى بسهولة، فإن الحب يتهدم بسهولة ويصبح ركامًا من تلقاء نفسه، لكن الكنوز تتوارى بين الأنقاض والقلب الكسير يخبئ كنوزًا.
دائرة الحب واكتشاف الروح الإلهية
وفق جلال الرومي، فإنه عندما تلج دائرة الحب، تكون اللغة التي نعرفها قد عفى عليها الزمن، فالشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات، لا يمكن إدراكه إلا بالصمت.
الرحلة إلى اكتشاف الروح الإلهية بداخل كل منا رحلة شاقة، يحمل كل منا مسؤولية الوصول، ففي عقل "جلال" يقع على عاتق كل منا اكتشاف الروح الإلهية في داخله حتى يعيش وفقها.
عليك أن تعبد الله حبًا، يقول الدكتور يسري جبر، العلامة المحدث، إمام وخطيب مسجد الأشراف بالمقطم، في خطبة الجمعة الماضية: "اعبدوا الله من أجل الله، أملًا في إرضاءه، واستشعروا حلاوة العبادة، وليس أملًا في الثواب وحشية العقاب، فالثواب مضمون للعابدين.
يرى "مولانا العاشق": "أن جهنم تقبع هنا والآن، وكذلك الجنة. توقفوا عن التفكير بجهنم بخوف أو الحلم بالجنة، لأنهما موجودتان في هذه اللحظة بالذات، ففي كل مرة نحب، نصعد إلى السماء، وفي كل مرة نكره أو نحسد أو نحارب أحدًا فإننا نسقط مباشرة في نار جهنم.. هل يوجد جحيم أسوأ من العذاب الذي يعانيه الإنسان عندما يعرف في أعماق ضميره أنه اقترف ذنبًا جسيمًا؟
مسك الختام لمن أراد السلام
يلخص جلال الدين الرومي رسالته، بقوله: "مهما حدث في حياتك ومهما بدت الأشياء مزعجة فلا تدخل ربوع اليأس. وحتى لو ظلت جميع الأبواب موصدة، فإن الله سيفتح دربًا جديدًا لك. احمد ربك! من السهل عليك ان تحمد الله عندما يكون كل شيء على ما يرام.. فالصوفي لا يحمد الله على ما منحه إياه فحسب، بل يحمده أيضا على كل ما حرمه منه".
يجيب مولانا الراحل في 17 ديسمبر 1273، والمدفون في مدينة "قونية"، عن سؤاله ماذا "ماذا يعني الصبر؟".. بقوله: "إنه يعني أن تنظر إلى الشوكة وترى الوردة، أن تنظر إلى الليل وترى الفجر، أما نفاد الصبر فيعني أن تكون قصير النظر ولا تتمكن من رؤية النتيجة".
وفي النهاية أتمنى أن تصل إلى أن العاشقين لا ينفذ صبرهم أبدًا، فكما يصبح الهلال بدرًا فستكتمل أنوار روحك يومًا إلى أن تهيم حبًا، فلا يوجد فرق بين الشرق والغرب، والجنوب والشمال، فكل الاتجاهات موصولة بذلك الرابط الخفي.
مهما كانت وجهتك ستصل لضالتك فاستمتع برحلتك، فإذا سافرت في داخلك، فسيكون بإمكانك اجتياز العالم الشاسع وما وراءه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.