الأحرار الاشتراكيين ل صدى البلد: الحركة المدنية تتخذ اتجاها معاكسا لمفهوم استقرار الدولة    معركة موازية على «السوشيال ميديا» بعد القصف الذي تعرضت له مدينة رفح    الأوقاف: افتتاح 21 مسجدًا الجمعة المقبلة    غدا، محافظة القاهرة تبدأ فتح باب تلقى طلبات التصالح في مخالفات البناء    وزارة السياحة والآثار تشارك في سوق السفر العربي بالإمارات    بعد غد.. انطلاق مؤتمر "إعلام القاهرة" حول التغيرات المناخية    شبكة القطار السريع.. كيف تغطي جميع أنحاء الجمهورية؟    المقاومة تطلق رشقات صاروخية على مستوطنات إسرائيلية فى غلاف غزة    المقاومة في العراق تستهدف بالطيران المسيّر قاعدة "يوهنتن" الإسرائيلية    مدينة برازيلية تغرق تحت مياه الفيضان    كريم شحاتة: تقدمت باستقالتي من البنك الأهلي حفاظا على كرامتي    بيان رسمي من نادي الزمالك بشأن أخطاء الحكام ضد الأبيض في الدوري الممتاز    تعرف على أسباب خروج «ديانج» من حسابات «كولر»    أخبار مصر اليوم: السيسي يدعو كل الأطراف للوصول إلى اتفاق هدنة بغزة.. قرار جديد بشأن طلبات التصالح في مخالفات البناء    الخميس.. إيزيس الدولي لمسرح المرأة يعلن تفاصيل دورته الثانية    اهم عادات أبناء الإسماعيلية في شم النسيم حرق "اللمبي" وقضاء اليوم في الحدائق    ليلى علوي تحتفل بشم النسيم مع إبنها خالد | صورة    محمد عدوية: أشكر الشركة المتحدة لرعايتها حفلات «ليالي مصر» ودعمها للفن    هل يجب تغطية قَدَم المرأة في الصلاة؟.. الإفتاء توضح    أدعية استقبال شهر ذي القعدة.. رددها عند رؤية الهلال    لذيذة وطعمها هايل.. تورتة الفانيليا    إزالة 164 إعلاناً مخالفاً خلال حملة مكبرة في كفر الشيخ    تفاصيل التجهيز للدورة الثانية لمهرجان الغردقة.. وعرض فيلمين لأول مرة ل "عمر الشريف"    التيار الإصلاحى الحر: اقتحام الاحتلال ل"رفح الفلسطينية" جريمة حرب    غارة إسرائيلية تدمر منزلا في عيتا الشعب جنوب لبنان    قدم تعازيه لأسرة غريق.. محافظ أسوان يناشد الأهالي عدم السباحة بالمناطق الخطرة    تناولها بعد الفسيخ والرنج، أفضل مشروبات عشبية لراحة معدتك    ضحايا احتفالات شم النسيم.. مصرع طفل غرقًا في ترعة الإسماعيلية    موعد إجازة عيد الأضحى 1445 للطلاب والبنوك والقطاعين الحكومي والخاص بالسعودية    أرخص موبايل في السوق الفئة المتوسطة.. مواصفات حلوة وسعر كويس    بعد فوز ليفربول على توتنهام بفضل «صلاح».. جماهير «الريدز» تتغنى بالفرعون المصري    قبل عرضه في مهرجان كان.. الكشف عن البوستر الرسمي لفيلم "شرق 12"    زيادة في أسعار كتاكيت البيّاض 300% خلال أبريل الماضي وتوقعات بارتفاع سعر المنتج النهائي    طلاب جامعة دمياط يتفقدون الأنشطة البحثية بمركز التنمية المستدامة بمطروح    في 6 خطوات.. اعرف كيفية قضاء الصلوات الفائتة    صانع الدساتير يرحل بعد مسيرة حافلة، وفاة الفقيه الدستوري إبراهيم درويش    مائدة إفطار البابا تواضروس    صحة الإسماعيلية.. توعية المواطنين بتمارين يومية لمواجهة قصور القلب    عضو ب«الشيوخ» يحذر من اجتياح رفح الفلسطينية: مصر جاهزة لكل السيناريوهات    رفع الرايات الحمراء.. إنقاذ 10 حالات من الغرق بشاطئ بورسعيد    أمينة الفتوى تكشف سببا خطيراً من أسباب الابتزاز الجنسي    عقوبة التدخل في حياة الآخرين وعدم احترام خصوصيتهم    برلماني يحذر من اجتياح جيش الاحتلال لرفح: تهديد بجريمة إبادة جماعية جديدة    لقاء علمي كبير بمسجد السلطان أحمد شاه بماليزيا احتفاءً برئيس جامعة الأزهر    المصريون يحتفلون بأعياد الربيع.. وحدائق الري بالقناطر الخيرية والمركز الثقافي الأفريقي بأسوان والنصب التذكاري بالسد العالي يستعدون لاستقبال الزوار    الصحة تعلن إجراء 4095 عملية رمد متنوعة مجانا ضمن مبادرة إنهاء قوائم الانتظار    التعليم العالي: تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    في العام الحالي.. نظام أسئلة الثانوية العامة المقالية.. «التعليم» توضح    نانسي عجرم توجه رسالة إلى محمد عبده بعد إصابته بالسرطان.. ماذا قالت ؟    في خطوتين فقط.. حضري سلطة بطارخ الرنجة (المقادير وطريقة التجهيز)    حبس المتهمة بقتل زوجها بسبب إقامة والده معها في الإسكندرية    مفوضية الاتحاد الأوروبي تقدم شهادة بتعافي حكم القانون في بولندا    مصر تحقق الميدالية الذهبية فى بطولة الجائزة الكبرى للسيف بكوريا    متى يُغلق باب تلقي طلبات التصالح في مخالفات البناء؟ القانون يجيب    "كبير عائلة ياسين مع السلامة".. رانيا محمود ياسين تنعى شقيق والدها    ضبط 156 كيلو لحوم وأسماك غير صالحة للاستهلاك الآدمي بالمنيا    طارق السيد: لا أتوقع انتقال فتوح وزيزو للأهلي    تعليق ناري ل عمرو الدردير بشأن هزيمة الزمالك من سموحة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عطر النبى فى مصر.. «زين العابدين» شهيد الكوفة المصلوب
نشر في صوت الأمة يوم 24 - 06 - 2017

أراد أتباعه أن يخفوا الجثمان الطاهر، حتى لا يصل إليه «الأمويون» فعملوا فى ستر الظلام وحجزوا الماء فى الساقية فى بستان وحفروا القبر ثم واروا الجثمان الشريف وأجروا عليه الماء، وتفرقوا قبل طلوع الفجر.. لكنهم لم يكونوا يعلمون أن هناك مَن سيفضح سرهم ويقود الجنود إلى قبره لينبشوه، ويستخرجوا الجثمان، ويفصلوا الرأس الشريف عن الجسد، وهذا قبل أن تنتهى رحلة الرأس لتستقر فى مصر. لم يكن زيد بن على زين العابدين بن الحسين السبط بن على بن أبى طالب، الذى قتل عام 122 ه، على يد رجال يوسف بن عمر القائد الأموى، مجرد إمام أحبه الناس واتبعوه، بل إن زيدا شبّهه الكثيرون حينها بجده على بن أبى طالب «رضى الله عنه»، نظرا لفصاحة المنطق وجزالة القول، اللذين عُرف وتمتع بهما زيد، حتى أن الجاحظ عدّه من خطباء بنى هاشم، ووصفه أبو إسحاق السبيعى والأعمش بأنه أفصح أهل بيته لسانا وأكثرهم بيانا.

زيد بن على، يشهد له أن هشام بن عبدالملك لم يزل منذ دخل زيد الكوفة يبعث الكتاب إثر الكتاب إلى عامل العراق، يأمره بإخراج زيد من الكوفة ومنع الناس من حضور مجلسه، لأنّه الجذّاب للقلوب بعِلمه الجم وبيانه السهل، وأن له لسانا أقطع من السيف، وأبلغ من السحر والكهانة ومن النفث فى العُقد.

ولد «زيد» بالمدينة بعد طلوع الفجر سنة 66 هجريا، وأمه أم ولد من السند، وهى أم إخوته عمر الأشرف وعليّ وخديجة، اشتراها المختار بن عبيد الثقفى أيام ظهوره بالكوفة بثلاثين ألفا، وبعث بها إلى الإمام زين العابدين. يقول عمر الجعفرى: «كنت أدمن الحج فأمر على بن الحسين؛ فأسلّم عليه، وفى بعض حججى غدا علينا على بن الحسين، ووجهه مشرق، فقال: «جاءنى رسول الله فى ليلتى هذه حتّى أخذ بيدى وأدخلنى الجنة وزوّجنى حوراءَ، فواقعتها، فعَلقَت؛ فصاح بى رسول الله: يا على بن الحسين، سمِّ المولود منها زيداً، فما قمنا من مجلس على بن الحسين رحمه الله ذلك اليوم وعليّ يقصّ الرؤيا؛ حتى أرسل المختار بن أبى عبيد بأم زيد هدية إلى على بن الحسين اشتراها بثلاثين ألفا؛ فلما رأينا إشفاقه بها تفرقنا من المجلس؛ ولما كان من قابل حججت ومررت على على بن الحسين لأسلّم عليه، فأخرج زيدا على كتفه الأيسر وله ثلاثة أشهر وهو يتلو هذه الآية ويؤمئ بيده إلى زيد: «هذا تأويلُ رؤيايَ مِن قَبلُ قد جعلَها ربّى حقاً».

نشأ زيد بن على فى أحضان والده زين العابدين وأخيه الأكبر محمد الباقر، ودرس على يديهما العقيدة المحمدية، فكانَ الإمام زيد مضرب المثل فى العلم بشهادة أخيه الأكبر محمد الباقر، فقد ذكر الرواة أنه طلب من أخيه محمد الباقر كتابا كان لجده على، فنسى أبو جعفر مدة من الزمن، ثم تذكر فأخرجه إليه، فقال له زيد: قد وجدت ما أردت منه فى القرآن، فأراد أبو جعفر أن يختبره وقال له: فأسألك؟ قال زيد: نعم، سلنى عما أحببت، ففتح أبو جعفر الكتاب وجعل يسأل، وزيد يجيب كما فى الكتاب، فقال أبو جعفر: «بأبى أنت وأمى يا أخى أنت والله نَسِيْج وحدك، بركةُ اللّه على أم ولدتك، لقد أنجبت حين أتت بك شبيه آبائك».

ويقول زيد عن نفسه: «والله لا تأتوننى بحديث تصدقون فيه إلا أتيتكم به من كتاب الله»، ويضيف: «من جاءك عنى بأمر أنكره قَلبُك، وكان مباينا لما عهدته منى، ولم تفقهه عَنِّى، ولم تره فى كتاب اللّه عز وجل جائزا، فأنا منه برىء، وإن رأيت ذلك فى كتاب اللّه عز وجل جائزا، وللحق مماثلا، وعهدت مثله ونظيره منى، ورأيته أشبه بما عهدته عنى، وكان أولى بى فى التحقيق، فأقبله فإن الحق من أهله ابتدأ وإلى أهله يرجع»، ويقول أخوه الأكبر ومعلمه الفذ الإمام محمد الباقر فى حقه: «لقد أوتى زيدٌ علما لَدُنِيّا فاسألوه فإنه يعلم ما لا نعلم».

كان زيد معروفا بفصاحة المنطق وجزالة القول، والسرعة فى الجواب وحُسن المحاضرة، والوضوح فى البيان والإيجاز فى تأدية المعانى على أبلغ وجه، وكان كلامه يشبه كلام جدّه على بن أبى طالب، بلاغةً وفصاحة، فلا بِدعَ إِذاً إنْ عدّه الجاحظ من خطباء بنى هاشم، ووصفه أبو إسحاق السبيعى والأعمش بأنه أفصح أهل بيته لِسانا وأكثرهم بيانا.

وجوابه لهشام بن عبدالملك يوم قال له: «بلغنى أنّك تذكر الخلافة وتتمّناها ولست هناك وأنت ابن أمَة» شاهد عدل على تلك الدعوى التى لم تقع محل التشكيك؛ فلقد بان على هشام فى ذلك المجلس المحتشد بوجوه أهل الشام؛ العجز والانقطاع؛ حدث معمر بن خثيم عنه أنه يقول: كنت أمارى هشاما وأكايده الكلام ولم أترك له مخرجا؛ دخلت عليه يوما فذكر بنى أمية وافتخر بهم؛ فقال: كانوا أشد قريش أركانا، وأعلاهم مكانا وسلطانا؛ وكانوا رءوس قريش فى جاهليتها وملوكها فى إسلامها.

فقلت: على مَن تفتخر، على هاشم وهو أول من أطعم الطعام وضرب الهام وخضعت له قريش بإرغام، أم على عبدالمطلب سيد مضر جميعا؟! وإن قلت معد كلها صدقت، إذا ركب مشوا، وإذا انتعل احتفوا، وإذا تكلّم سكتوا، وهو مطعم الوحش فى رءوس الجبال، والطير والسباع والإنس فى السهل، حافر زمزم، وساقى الحجيج، وربيع العُمرتين، أم على بَنيه أشراف الرجال، أم على سيّد ولد آدم «رسول الله» المحمول على البُراق، أم على أمير المؤمنين وسيّد الوصيين على بن أبى طالب رضى الله عنه، ابن عم رسول الله، والمفرّج عنه الكُرب، وأوّل من قال «لا إله إلا الله» بعد رسول الله، لم يبارزه فارس قطّ إلا قتله، وقال فيه رسول الله، ما لم يقله فى أحدٍ من أصحابه ولا لأحد من أهل بيته، فاحمرّ وجه هشام وبُهِتَ ولم يُحِرْ جوابا.

من الجلى الواضح بطلان نسبة دعوى الإمامة لتلك النفس الطاهرة، وكيف نستطيع أن ننسب له ذلك ونحن نقرأ جوابه لولده يحيى حينما سأله عن الأئمّة الذين يلون الخلافة وعليهم النصّ من النبى، فإن فيه صراحة بالبراءة من دعوى الإمامة، واعتراف باستحقاق الاثنى عشر من أهل بيت النبيّ للخلافة.

وهذا نص الحديث الذى يحدثنا عنه الحافظ على بن محمد الخزاز الرازى القمى فى كفاية الأثر بإسناده إلى يحيى بن زيد قال: سألت أبى عن الأئمّة، فقال: الأئمّة اثنا عشر: أربعة من الماضين وثمانية من الباقين، قلت: فسمِّهم يا أبت، قال: أمّا الماضون فعلى بن أبى طالب والحسن والحسين وعلى بن الحسين، وأما الباقون فأخى الباقر وابنه جعفر الصادق، وبعده موسى ابنه، وبعده عليّ ابنه، وبعده محمد ابنه، وبعده على ابنه، وبعده الحسن ابنه، وبعده المهدى: فقلت: يا أبت الست منهم؟ قال: لا ولكن من العترة، قلت: فمن أين عرفت أسماءهم؟ قال: عهدٌ معهود عهده رسول الله.

وروى محمد بن بكير، قال: دخلت على زيد بن عليّ رحمه الله، وعنده صالح بن بشير فسلّمت عليه، وهو يريد الخروج إلى العراق، قلت: يا ابن رسول الله حدثنى بشىء سمعته من أبيك، قال: نعم، إلى أن قال له: يا بن بكير، بنا عُرف الله وبنا عُبِد الله ونحن السبيل إلى الله، ومنّا المصطفى والمرتضى، ومنّا يكون المهدى قائم هذه الأمّة، قلت: يا ابن رسول الله، هل عهد إليكم رسول الله متى يقوم قائمكم؟ قال: يا ابن بكير إنّك لن تلحقه، وإن الأمر يليه ستّة من الأوصياء بعد هذا الصادق عليه السّلام ثم يجعل خروج قائمنا فيملأها قسطا وعدلا كما مُلئت جورا وظلما، قلت: يا ابن رسول الله، ألست صاحب هذا الأمر؟ قال: أنا من العترة، فعدت فعاد إليّ، فقلت: هذا الذى تقوله، عنك أو عن رسول الله؟ قال: لو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير، ولكن عهد عهده إلينا رسول الله.

وحدث أبو خالد الواسطى، عن زيد بن على، عن أبيه على بن الحسين رحمه الله عن أبيه الحسين بن على رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا حسين أنت الإمام، والتسعة من ولدك أمناء معصومون والتاسع مهديهم، فطوبى لمن أحبهم والويل لمن أبغضهم.

أمّا ما ذُكر من دعواه الإمامة لنفسه، عن جد وعقيدة، فما هو إلا أساطير لفّقها دعاة الباطل للحطّ من كرامة تلك الذات الطاهرة، بُغضا وعدوانا، وإن تكن تلك الدعوى، فإنما الغرض منها استنقاذ الحقّ من أيدى المتغلّبين عليه ولاة الجور وأرباب الباطل وإعادته إلى أهله، كما يفصح عنه قول الصادق: كان زيد عالما وصدوقا، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد.

وهذا من أهم الوسائل إلى استحصال الحقّ المغصوب وإعادة سلطان العدل إلى أهله، ولو أعلن الدعوة للإمام الصادق، كما يريده ضعيف النظر، قاصر البصيرة، لرأيت هناك الأضرار البالغة التى تلحق الإمام من أئمّة الجور، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتَخِر الجبال هدّا، من هذا وأشباهه نشاهد الإمام الصادق رحمه الله تارة يظهر المدح والثناء عليه ويقول حين يسئل عن خروجه: «خرج على ما خرج عليه آباؤه»، وذلك لأن الثقة من أصحابه محفوظة، فلا خوف ولا تقية؛ وتارة يلقى الستر والحجاب ولا يتكلم إلا بالإبهام، ويقول لمن حاجج زيدا من أصحابه: أخذته من بين يديه ومن خلفه ولم تترك له مخرجا، وذلك لأن الخوف هناك والتقية أمامه.

ويشهد للتقية، ما يرويه فضيل الرسان، يقول: دخلت على الصادق بعد ما قتل زيد فأُدخلت بيتا فى جوف بيت فقال لى: يا فضيل، قتل عمى زيد؟ قلت: نعم جعلت فداك فقال: رحمه الله، أما أنّه كان مؤمنا وكان عارفا وكان صدوقا، أما أنّه لو ظفر لوفّى، أما أنه لو ملك لعرف كيف يضعها، فإنه رحمه الله لو لم يحذر ولم يخف من وصول الخبر إلى أئمة الجور لما أدخله تلك البيوت وسأله عما جرى على عمه.

بعث يوسف بن عمر القائد الأموى بعض رجاله إلى شوارع الكوفة لإثارة الرعب فى قلوب الأهالى، ودعوة الناس إلى الاجتماع فى المسجد الأعظم، وحظر التجول وحمل السلاح، وبث الشائعات عن الجيش القادم من الشام.

ولكن «زيد» توجه مع أنصاره لرفع الحصار عن أهل المسجد وطمأنة أهل الكوفة، وفى طريقه إلى المسجد وقعت بينه وبين جند الأمويين مواجهة عنيفة كان النصر فيها حليفه، ولما وصل إلى جوار المسجد نادى أصحابه بشعاره «يا منصور أمت» وأدخلوا الرايات من نوافذ المسجد، وكان نصر بن خزيمة رحمه اللّه ينادى: «يا أهل الكوفة اخرجوا من الذل إلى العز ومن الضلال إلى الهدى اخرجوا إلى خير الدنيا والآخرة فإنكم لستم على واحد منها»، ولكنهم اعتذروا بالحصار الموهوم.

وانتشر أصحاب زيد فى الكوفة وأمرهم أن ينادوا: من ألقى سلاحه فهو آمن، وأخذ يطارد بقايا جند الأمويين فى محاولة لتطهير الكوفة منهم، وفجأة ظهر جنود الأمويين القادمون من الحِيْرة؛ فاشتبك أصحاب زيد معهم واستبسلوا وقاتلوا قتالا شديدا حتى ردوهم على أعقابهم، ثم جمع الإمام زيد أصحابه ونادى فيهم: «انصرونى على أهل الشام فوالله لا ينصرنى رجل عليهم إلا أخذت بيده حتى أدخله الجنة، ثم قال: والله لو علمت عملا هو أرضى لله من قتال أهل الشام لفعلته، وقد كنت نهيتكم أن لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تفتحوا بابا مغلقا، وإنى سمعتهم يسبون على بن أبى طالب فاقتلوهم من كل وجه».

واستمرت المواجهة بين المعسكرين، وكان جنود الأمويين يتزايدون بينما كان جند زيد ينقصون، والتفت الإمام زيد إلى نصر بن خزيمة وقال له: يا نصر أخاف أهل الكوفة أن يكونوا قد فعلوها حسينية! فقال نصر: جعلنى اللّه فداك أما أنا فوالله لأضربن بسيفى بين يديك حتى أموت!

استبسل زيد وأصحابه وقاتلوا قتال المستميت، فلم يجرؤ أحد على مواجهتهم أو مبارزتهم، وحين شعر الأمويون أنه لا قدرة لهم على المواجهة تحصنوا خلف الكثب والجدران، وأخذوا يمطرون زيدا وأصحابه بوابل من السهام.

وأخذت الشمس فى الأفق تميل نحو الغروب، وأخذت تميل معها شمس التضحية والفداء، وألقى الليل بظلامه على التلال، ونشر أجنحته على السهول والجبال، وخرست الألسن ونطقت الأسنة وحمحم الموت، وباتت الكوفة كئيبة حزينة.

وأثناء ذلك الصمت الرهيب سُمِع فى مقدمة الجيش صوت الإمام زيد يرتفع قائلا: الشهادة.. الشهادة.. الحمدلله الذى رزقنيها! فهرعوا إلى مكان الصوت، فإذا بالإمام العظيم مُضَرَّجا بدمه، قد أصيب بسهم فى جبهته، ولما أحس بالسهم القاسى ارتفع صوته بتلك الكلمات الخالدة التى ترسم لنا بوضوح أهداف وآمال ذلك الرجل العظيم.

وجاء يحيى بن زيد إلى أبيه وهو يبكى وأكب عليه والدماء تنزل منه، والسهم نابت فى جبينه، فجمع يحيى قميصه فى يده ومسح به الدم من وجه أبيه، ثم قال له: أبشر يا ابن رسول اللّه، ترد على رسول اللّه وعلى وفاطمة وخديجة والحسن والحسين وهم عنك راضون، قال الإمام: صدقت يا بنى، فأى شىء تريد أن تصنع؟ قال يحيى: أجاهدهم إلا أن لا أجد الناصر، قال: نعم يا بنى، جاهدهم، فوالله إنك لعلى الحق، وإنهم لعلى الباطل، وإن قتلاك فى الجنة، وقتلاهم فى النار.

أراد أتباع زيد أن يُخفوا جسده الشريف حتى لا يصل إليه الأمويون فعملوا تحت جنح الظلام وحجزوا الماء فى الساقية فى بستان وحفروا القبر ثم واروا الجثمان العظيم وأجروا عليه الماء، وتفرقوا قبل طلوع الفجر.

وفى اليوم التالى أُعلِنَ فى الشوارع والأسواق عن جائزة مغرية لمن يدل على المكان الذى دُفن فيه، فدلّهم بعض ضعفاء النفوس على موضع قبره، فنبشوه واستخرجوا منه الجثمان العظيم، فَحُمل الجثمان على جمل وألقى به أمام قصر الإمارة، وهنالك فُصِل الرأس الشريف عن الجسد.

فأما الرأس فبعث به يوسف بن عمر الثقفى إلى الشام، وبعد أن وضع بين يدى هشام أمر أن يطاف به فى البلدان، لنشر الرعب والذعر فى نفوس الجماهير وقتل الحماس فى النفوس الأبية، ومر الرأس ببلدان كثيرة حتى وصل إلى المدينة المنورة، وأمام قبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وفى تحدٍّ سافر ونكران لفضل الإسلام نُصب الرأس الشريف، وطُلب أهل المدينة للحضور إلى المسجد وإعلان البراءة من على بن أبى طالب وزيد بن على، ثم أخذ إلى مصر ونصب فى الجامع الأعظم أياما ومنه أخذ سرا ودفن هنالك.

وأما الجسد فصلب فى كُنَاسة الكوفة عاريا، فجاءت العنكبوت تنسج الخيوط على عورته لتسترها، وكانوا كلما أزاحوا تلك الخيوط جاءت لتنسج غيرها؛ فكانَ منظر الجسد الشريف أمام الناس، يزوّد الإيمان وحب أهل البيت فى قلوبهم، على عكس ما كان بنو أمية يبتغون، فعملوا على التخلص من الجسد الشريف فعملوا على إنزاله وإحراقه، وذر رماده فى الفرات، وقد قال يوسف بن عمر الثقفى مقولته المشهورة: «والله يا أهل الكوفة لأدعنكم تأكلونه فى طعامكم وتشربونه فى مائكم»!

كانت حركة زيد أول شرارة لانفجار شعبى أطاح بالحكم الأموى الجائر، وقضى على معالم زهوه واستبداده، وهتك أقنعة الزيف التى كان يستتر وراءها، ورغم استشهاد زيد فإن حركته لم تنته باستشهاده، ولم تمت بموته، بل تحولت كل قطرة دم إلى شعلة نار، وما زالت أصداء كلماته ترن فى أذن التاريخ، كما أنّ الثورات العلوية الفاطمية تتابعت إثر خروج «زيد بن على» على ولاة الجور والظلم، وأولّها ثورة ابنه يحيى بن زيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.