ربما لا تكون من قيمة كبيرة ولا صغيرة لمرافعات فريد الديب محامى مبارك، ولا لحديث الرئيس المخلوع نفسه أمام المحكمة، فالقصة منتهية منذ بدأت، ولا ذنب للقضاة، فهم يحكمون بظاهر الأوراق، وفى حدود التهم المطروحة أمامهم، ولو انتهت القضية إلى تبرئة المخلوع، فلن تكون ثمة مفاجأة لأحد . نعم، الخلل فى طبيعة المحاكمة ذاتها، وليس فى القضاة، والذين أتاحوا لفريد الديب مواصلة عروضه المسرحية، وفى تكرار ممل للمرافعات التى أبداها فى المحاكمة الأولى، والتى انتهت إلى الحكم على المخلوع بالسجن المؤبد، وقبل أن تقبل محكمة النقض طعنا على الحكم، وتأمر بإعادة المحاكمة أمام دائرة أخرى، وتتيح للديب وغيره فرصة تكرار العروض، وبالبث التليفزيونى المباشر هذه المرة، وفى محاولة فجة لغسل سمعة مبارك، وعبر قنوات يملكها مليارديرات المال الحرام، تحتفى بالديب، وتستضيفه لتكرار مرافعاته أمام الجمهور، وبعد أن أبداها أمام المحكمة، وكأنها محاولة لتلقين الناس دروسا ملوثة، تصور مبارك فى صورة الطيب البريء الطاهر الوطنى النقى التقى، وتدين الثورة التى خلعته، وتسبح بحمد صفات المخلوع العلية، وتغسل سمعته مما علق بها من أدران الخلقة، ودون أن يتذكر الديب ما سبق من أقواله فى عز حكم مبارك، فقد وصف حكم المخلوع بالبلطجة والكذب والتزوير، وقال لمبارك وحكمه فى مقال نشر بتاريخ 26 نوفمبر 2005 «أأمنتم من فى السماء أن يخسف بكم الأرض»، وقد يجدر أن نذكر الديب ببديهة أن الكذب رذيلة، وأن المؤمن لا يكون كذابا، ثم أن الكذاب الشاطر هو الذى يتذكر سوابقه، وإذا كنت كذوبا فكن ذكورا، لكن الديب كذاب خائب، وينسى ما كتب بيمينه، وهو يحرك لسانه على نحو آلى تماما، ويندفع فى نوبات غسل سمعة مبارك، ودون أن ينتبه لأولوية غسل ضميره الشخصى، وهو الذى استحل لنفسه أتعابا بملايين الجنيهات من مليارديرات، ووعدهم بالبراءة، ثم قادهم إلى السجن المؤبد، وعلى طريقة ما فعل مع مبارك نفسه فى المحاكمة الأولى، ودون أن يهتز له رمش، ولا أن يلوم كفاءته المهنية التى لا يقوم عليها دليل، ولا أن يدقق، أوأن يحكم ضميرا حيا فى شهوة قبول الوكالة عن متهمين، تنفر الفطرة البشرية السوية من قبول الترافع عن أفعالهم، وكما يفعل المحامون الكبار حقا، وهو ما لا يفعله الديب، فالأولوية عنده للبيزنس، ولضمان تدفق الأتعاب بالملايين، وحتى لو كان المتهم جاسوسا للمخابرات الإسرائيلية، وعلى طريقة ترافع فريد الديب عن الجاسوس الإسرائيلى الشهير عزام عزام (!) . نعم، ليست القصة فى ضمير الديب، ولا فى اعتياده للفشل المهنى المزمن، ولا فى سلوكه الشخصى، فهو حر فيه، ولا فى ثروته الضخمة التى نطالب بفحص مواردها، ولا فى تناقض ما يقوله الآن مع ما كتبه من قبل، فلا أحد عاقل يعتد برأى فريد الديب، والذى يصول ويجول الآن فى أداء مسرحى بدائى، لا يتصور فيه أن أوراق قضية مبارك اختلفت، بل يعول على السياق السياسى الذى تجرى فيه إعادة المحاكمة، والذى يبدو مهيئا لتقبل تبرئة مبارك هذه المرة، وربما منحه جائزة (!)، رغم أن مبارك مدان قضائيا فى جريمة القصور الرئاسية، ومحكوم عليه بالسجن، ولم تنفعه مرافعات أمثال فريد الديب، ولو جرت تبرئة المخلوع فى قضية قتل المتظاهرين المنظورة، فلن يخلى سبيله، وثمة دعاوى أخرى تتلكأ فى أدراج جهاز الكسب غير المشروع، ولم تقدم للقضاء حتى هذه اللحظة . وبعيدا عن المحاكمة الجارية الآن، وعن منصة القضاء، وعن مرافعات فريد الديب وأشباهه، فإن قضية مبارك أوسع من أن تحتملها قاعة محكمة عادية، فلم يحاكم المخلوع أبدا كما يستحق، والتهم الموجهة إليه قضائيا جانبية جدا، وأشبه بمحاكمة حرامى حبل غسيل، بينما سرق مبارك عمر أمة بأكملها، وكان عنوانا لانحطاط تاريخى هوى بمصر إلى الدرك الأسفل، ونزل بغالبية شعبها إلى ما تحت خطوط الفقر والبطالة والعنوسة، ونشر داء الموت المستعجل الذى حصد أرواح الملايين، ليس فى القطارات المحترقة والعبارات الغارقة وحدها، بل على محفات التهاب الكبد الوبائى والسرطانات والفشل الكلوى، والذى جعل مصر رقم واحد فى الأمراض المميتة عالميا، وبسبب تلوث المياه وانهيار الخدمات والمرافق وتغول فساد مبارك وحكمه، وشفط المخلوع سلطة وثروة البلد، وجرف قواعدها الإنتاجية الكبرى، وحول «الخصخصة» إلى «مصمصة»، وحول البلد إلى حكر مخصوص، وإلى عزبة شخصية لعائلته وحوارييها من مليارديرات المال الحرام، ونشر البلطجة والعنف وداء التوحش فى المجتمع، وزور الانتخابات بانتظام، وحكم البلد لثلاثين سنة بقانون الطوارئ، وجعلها تعيش دائما فى الحرام الدستورى، وحول الدستور إلى منديل كلينكس، وكون مجالس ديكورية أصدرت قوانين لتشريع النهب العام، جعلت الحرام حلالا، وكونت طبقة لصوص صارت أغنى من طبقة مليارديرات الخليج، وحولت البلد إلى جحيم متصل إلى الآن، وخضع للمشيئة الأمريكية التى استعمرت البلد منذ عقد ما يسمى معاهدة السلام والمعونة الأمريكية الضامنة، وراكم فى سجل خدماته لأسياده الأمريكيين، وأعطى كما تؤكد وثيقة لمكتب المحاسبة الأمريكى أذون عبور جوى لطائرات أمريكية مقاتلة ذاهبة بالدمار لأفغانستان والعراق، ولمرات بلغ عددها 36 ألفا و553 طلعة جوية فى ثلاث سنوات فقط بين عامى 2001 و2004، وسعى لجلب الرضا الأمريكى عن عملية توريث الرئاسة لنجله، وأعطى لنجله قيادة الحزب الحاكم، وأعطى لزوجته قيادة وزارات الخدمات، وحول قصر الرئاسة إلى مكتب تشهيلات، وجعل محاسيبه وأصهاره من المليارديرات، وفى سياق من تفشى السرقات والنهب والشفط، لم تشهد مصر مثيلا له فى تاريخها الألفى، ولم تكن تربط مبارك بمصر سوى شهادة ميلاد وسابقة خدمة عسكرية، فقد جعل همه الأول خدمة الأمريكيين والإسرائيليين، وإلى حد أن وصفه شيمون بيريز بأنه المؤسس الثانى لإسرائيل بعد بن جوريون، وقال عنه الجنرال الإسرائيلى بنيامين بن أليعازر: إن مبارك هو «أعظم كنز استراتيجى لإسرائيل»، فقد كانت سياسة المخلوع باختصار هى إعطاء الأولوية المطلقة لمصالح أمريكا وإسرائيل فى مصر، ثم تأتى مصالح عائلته وطبقة مليارديراته السارقين فى المرتبة التالية، ثم يترك الغالبية الغاطسة من المصريين إلى مصائر الموت فقرا وجهلا ومرضا، وقد قال فى أول سنوات حكمه إن «الكفن مالوش جيوب»، ثم انتهى حكمه إلى أن عاش المصريون فى أكفانهم، وذهبت ثروة مصر إلى جيبه وجيوب حوارييه (!) . وجريمة واحدة من جرائم مبارك الحقيقية توجب إعدامه ألف مرة، لكن المخلوع لم يحاكم أبدا على جرائم حكمه، وتواطأ مجلس طنطاوى وعنان، ثم تواطأ الإخوان، لإنقاذ مبارك، فبعد الثورة الشعبية فى 25 يناير 2011، والتى خلعت مبارك فى 11 فبراير من العام نفسه، ترك المجلس العسكرى مبارك حرا طليقا، واكتفى بجلب جماعة الابن جمال مبارك للمحاكمة، بينما تركوا الأب ورجاله، وأعطوهم عهود أمان وحماية، فلم يقترب أحد من صفوت الشريف ولا من فتحى سرور، بل تركوا زكريا عزمى رئيس ديوان مبارك فى عمله، وتركوا مبارك فى منتجع شرم الشيخ مع زوجته سوزان «شجرة الضر»، ولم يقترب منهم أحد، لا الأب ولا رجاله، بمساءلة إلا تحت ضغط مليونيات ميدان التحرير، وبعد مرور شهرين كاملين على خلع مبارك، وبعد أن جرى حرق كل الوثائق، وتهريب كل الأموال المنهوبة، وطمس أدلة الجرائم، بعد أن تم ذلك كله، بدأت المحاكمة الهزلية، وهزليتها ليست فى إجراءاتها ولا فى قضاتها، بل فى كونها تجرى خارج منطق الثورة تماما، وبالمخالفة لحكم الشعب الذى أصدر قراره النهائى البات بإعدام مبارك سياسيا، وقد طالبنا وقتها بأن تجرى محاكمة ثورية لمبارك، أى محاكمة بقانون خاص يقوم عليها قضاة طبيعيون، وكان القانون قائما بالفعل ولا يزال، وهو قانون محاكمة رئيس الجمهورية بتهمة الخيانة العظمى لسنة 1956، ورفض برلمان الأكثرية الإخوانية والأغلبية «الإسلامية» تفعيل القانون، وفضلوا أن تبقى محاكمة مبارك كما هى، وحتى ينفتح الباب لتبرئته، وهكذا أكمل الإخوان سلسلة تواطؤ راحوا ضحيتها، ويأملون الآن أن يحاكم رئيسهم المعزول مرسى على طريقة محاكمة مبارك الهزلية، فقد قدموا له معروفا، ويريدون الثواب والأجر ورد الجميل. وليست القضية عندنا رغبة فى انتقام، ولا التشفى فى حسنى مبارك الذى يبدو هاربا من قبر، ولا فى إزهاق روح رجل تمتاز بالتناحة المفرطة، بل فى القصاص والتطهير والقطيعة مع زمن الانحطاط العام، والانتصار للثورة المغدورة بسكاكين الإخوان والفلول، فتبرئة مبارك لو جرت قد تعنى إدانة الثورة، أو ربما فرصة لإشعال ثورة جديدة .