تعرضت مصر وتعرض المصريون للمحاكمة مرتين فى يوم واحد، ففى يوم الأحد الفائت نشرت معظم الصحف المصرية أجزاء متفرقة من مرافعة فريد الديب محامى الرئيس المعزول حسنى السيد مبارك كانت أقرب إلى أن تكون محاكمة للمصريين، لملايين المصريين ليس فقط الذين انخرطوا فى ثورة 25 يناير 2011 التى أكد أنها «مؤامرة أمريكية- إخوانية» منذ عام 2005، لكن أيضا الذين يمكن اعتبارهم جماهير ثورة 23 يوليو 1952 التى ذكر أنها «كان اسمها فى البداية حركة الضباط، لكن أولاد الحرام قالوا إنها ثورة». أولاد الحرام هؤلاء هم عشرات الملايين من المصريين وأضعافهم من العرب والعالم كانوا وما زالوا على يقين بأن ثورة 23 يوليو هى ثورة الشعب المصرى المجيدة التى قادتها طلائع شباب الجيش، كما أن ثورة 25 يناير هى أيضا ثورة مجيدة قادها الشعب المصرى ودعمها الجيش العظيم. فريد الديب وهو يخطط لتبرئة موكله من التهم المنسوبة إليه فى القضية المنظورة الآن أمام القضاء، التى تتعلق بجرائم ارتكبت بحق المتظاهرين من أبناء الشعب المصرى فى الفترة من 25 يناير (يوم تفجر الثورة) حتى يوم سقوط رأس نظام الاستبداد والفساد فى 11 فبراير 2011، ولا تتعلق بجرائم ارتكبها مبارك ونظامه على مدى ثلاثة عقود كاملة بحق مصر والمصريين، تطاول كثيرا على مصر وشعبها، وضرب عرض الحائط بأرواح كل من استشهدوا على أيدى نظام مبارك وأجهزته الأمنية، بقدر ما تطاول على كل الملايين من المصريين التى خرجت تطالب بإسقاط النظام ومحاكمته وحولهم إلى دمى تلاعب بها الأمريكيون والإخوان وأعوانهم، كما تطاول على كل نضالات المصريين ضد نظام مبارك وكل نضالات الحركة الوطنية المصرية وبالذات ابتداءً من عام 2005 وهو العام الذى شهد التأسيس لمخطط توريث حكم مصر لنجل الرئيس المعزول، ولم يخف الديب أنه يهدف بمرافعته إلى محاكمة كل المسؤولين عن ثورة 25 يناير وكل منظمات قادة حركة الاحتجاج ضد نظام مبارك، بل لو استطاع أن يحاكم كل الشعب المصرى وكل ملايين المتظاهرين ومعهم المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى انحاز للثورة وللشعب، وأجبر مبارك على مغادرة الحكم ما تردد لحظة فى سبيل تبرئة موكله ضاربا عرض الحائط بكل جرائم مبارك ونظامه ضد مصر والمصريين، الذين وصفهم بأنهم «أولاد الحرام»، لأن هؤلاء هم من انحازوا إلى ثورة 23 يوليو ومن فجروا ثورة 25 يناير. هل هى الصدفة وحدها التى جمعت بين حرص فريد الديب على محاكمة المصريين وبين تعمد أخ عزيز من المملكة العربية السعودية هو الأستاذ خالد الدخيل محاكمة مصر ودورها فى مقاله بصحيفة «الحياة» اللندنية (السعودية) فى اليوم ذاته الذى نشرت فيه مقتطفات مرافعة فريد الديب؟ ربما يكون التزامن محض صدفة، لكنها صدفة ذات دلالة تؤكد جدية أن مصر مستهدفة ليس الآن فقط بل ومنذ سنوات طويلة، مستهدفة من الداخل كما هى مستهدفة من الخارج من أشقاء عرب ومن دول إقليمية وقوى دولية فى كل مرة تمتلك فيها مصر القدرة على قيادة مشروع عربى للنهضة يصطدم مع مصالح دول عربية متحالفة مع أعداء الأمة من الصهاينة والأمريكيين. الغريب أن مصر باتت مستهدفة أيضا وهى ضعيفة أو وهى مرهقة بأزماتها الداخلية والمخاطر التى تتهددها من الخارج تماما مثلما كانت مستهدفة دائما وهى قوية وقادرة على القيادة والمنازلة على نحو ما جاءت مقالة خالد الدخيل التى حملت عنوان: «انقضى زمن مركزية الدور المصرى» مستندا إلى ما يراه انكشافا لعجز وهشاشة هذا الدور فى مواجهة العدوان الإسرائيلى الإجرامى ضد قطاع غزة، حيث اعتبر أن «الحرب الإسرائيلية على غزة» كشفت، ضمن ما كشفت بل «أكدت أن ما يقال عن مركزية الدور المصرى فى النظام العربى، وتحديدا فى الصراع العربى- الإسرائيلى، هو من نوع الشعارات القديمة». شغل خالد الدخيل نفسه كثيرا بالتتبع التاريخى لتراجع مركزية الدور المصرى ابتداءً من عدوان يونيو 1967 الذى اعتبره «هزيمة» لم يشأ أن يتعرض فيها لمسؤولية دول عربية بعينها تحالفت مع الإسرائيليين والأمريكيين فى هذا العدوان للتخلص ونهائيا من مركزية الدور المصرى كى تتمكن هى من فرض مركزية دورها، لكنه اعتبرها هزيمة تمتد جذورها إلى أسس ومقومات نظام جمال عبد الناصر. كما أنه شغل نفسه كثيرا بافتقاد مصر الريادة الآن فى «مجالات الثقافة والفن والسياسة». لكن المهم أنه أرجع هذا التراجع إلى ثورة 23 يوليو ونظامها السياسى ليعانق بأفكاره مقولات فريد الديب عن «أولاد الحرام» الذين اعتبروا أن حركة الجيش عام 1952 ثورة. فقد اعتبر خالد الدخيل أن انتهاء الدور المصرى، رغم إرث مصر الطويل مع الدولة وغناها الاجتماعى والسياسى وأسبقيتها فى دخول العصر الحديث يرجع إلى أنها «لم تنج من مأزق الحكم الذى يعانى منه العالم العربى، بل كانت لمصر مساهمة كبيرة فى تعميق هذا المأزق من خلال انقلاب 1952». وهنا يلتقى مع فريد الديب فى الكراهية والعداء لثورة 23 يوليو. فريد الديب يعتقد أن بمقدوره تبرئة مبارك بتجريم الشعب المصرى كله، وخالد الدخيل يتصور أن غياب مصر ودورها سيفسح المجال لأدوار دول أخرى منافسة، لكن رهاناتهم خائبة، فثورة مصر لن تنهزم مهما كانت المؤامرات التى تحاك ضدها ومهما كانت معتقدات من يريدون محاكمة ثورة 25 يناير باسم ثورة 30 يونيو وعلى رأسهم فريد الديب، وفراغ غياب مصر ليس فى مقدور أحد أن يملؤه، لسبب مهم هو أن مصر لم تغب ولن تغيب.