فى اقتراب الانتخابات النيابية أزمات معلنة وأخرى مؤجلة. ما هو معلن أن الأحزاب السياسية تطلب تعديل القانون الذى تجرى على أساسه الانتخابات وتحاول فى الوقت نفسه توفيق أوضاعها للإفلات من مقاصله. من المرجح بحسابات النفوذ المحلى أن يحصد ممثلو «المجتمع التقليدى» بقبائله وعائلاته ونزعته لإبداء الولاء لمن يمسك مقاليد السلطة أيا كانت سياساته وتوجهاته أغلب مقاعد «الفردى». وباليقين فإن أية قوة سياسية لا تقدر بمفردها أن تتقدم بقوائم مغلقة تغطى أقاليم واسعة واثقة من أنها سوف تحصد مقاعدها، فاللعبة مصممة على قاعدة الفوز الكامل أو الهزيمة المطلقة. كأن القوائم صيغة معدلة من «الفردى» وسؤال إجبارى فى التحالفات الانتخابية حتى «لا تسحق سحقًا» على ما قال أحد اللاعبين الرئيسين فى المشاورات السياسية الجارية. فى «الفردى» فإن للعبة الانتخابية قواعدها المعروفة وتتفاوت حظوظ الأحزاب فيها بقدر ما تستطيع أن تستقطب ضمن مرشحيها شخصيات تتمتع بنفوذ قبلى أو عائلى. وهذا اختبار تتراجع فيه بفداحة الأحزاب الجديدة التى تحاول بالكاد أن تكسب أرضية فى الشارع والتى تناسبها الانتخابات بالقوائم النسبية حيث البرامج فوق العصبيات والسياسة قبل الخدمات بتراجع البرامج إلى خلفية المشهد الانتخابى تتراجع قيمة العمل السياسى بمعناه الحديث فى البرلمان كله الذى قد يصيبه التصدع المبكر ويستحيل إلى أطلال سياسية لا تعكس حركة المجتمع الفوارة ولا توازنات القوى فيه. فى صياغة القانون شيء من الاستهتار بالحياة الحزبية رهانًا على ضعفها لكنه يفضى إلى فراغ قاتل بانتقال مركز التفاعلات السياسية إلى خارج البرلمان. وهنا صلب الأزمات المؤجلة والثمن قد يدفع باهظًا. هناك طريقتان لملء الفراغ إما أن تتسق نصوص القانون مع فكرة التعددية السياسية التى يعنى غيابها تقويضًا محتملا للديمقراطية، فلا ديمقراطية بلا تعددية ولا تعددية بلا أحزاب.. وإما تنحية الأحزاب ومن نتائجها إفقار البرلمان من السياسة وإحالة فلسفة الدستور فى التوازن بين مؤسسات الدولة إلى التقاعد المبكر، فلا أكثرية نيابية بوسعها أن تتطلع إلى تشكيل الحكومة أو الرقابة الجدية على أعمالها. المشاورات والاتصالات التى تصاعدت وتيرتها لمحاولة توفيق أوضاع الأحزاب على نصوص القانون تكشف حقائق الأزمة السياسية فى مصر. أول ملامحها أنها تركزت حول موضوع انتخابى واحد لا غيره، فلا كلام عن برامج مشتركة تمثل أساسا لتفاهمات مستقبلية فى البرلمان إلا أن يكون ذلك درءا لاتهامات بأن التحالفات لا تستند على أساس سياسى أو فكرى وأنها محض مصالح انتخابية بعدها لكل حدث حديث، ولا كلام آخر له صفة الجدية عن قواعد خوض الانتخابات الفردية والتنسيق فيها رغم أنها تمثل الأغلبية الساحقة من مقاعد البرلمان القادم. المعنى أن القوائم المغلقة لا النظام الفردى محور التفاهم والتنافس بين الأحزاب السياسية بحثا عن حصة ما دون تطلع كبير لبناء قاعدة أوسع تسمح بتشكيل الحكومة المقبلة وفق النص الدستورى أو إحداث توازن سياسى يصون الحق فى أن تكون الرقابة البرلمانية جادة وحقيقية. وثانى الملامح عدم وضوح القواعد التى تحكم دخول التحالفات والخروج منها، فكل شىء ابن لحظته. وطالما أنه لا توجد أهداف تتجاوز الانتخابات إلى ما بعدها فإن الكلام عن «دعم الرئيس» أقرب إلى العموميات التى لا تعنى شيئا حقيقيا فالدعم السياسى لا يكون إلا على برنامج معلن للإنقاذ الوطنى. المثير أن أطرافا متناقضة ترفع الشعار نفسه دون أن يكون واضحا ماذا تقصد بالضبط؟ بعض الذين يعلنون دعم الرئيس تختلف توجهاتهم بفداحة، هناك من يطلب مصادرته لإعادة إنتاج النظام الأسبق بوجوه جديدة ومن يتكئ على شعبيته للحصول على حصة أكبر فى البرلمان ومن يعتقد فى ضرورة التوافق الوطنى لتجاوز المرحلة الصعبة وتحدياتها الثقيلة. هناك شبه ثلاثة معسكرات سياسية تتضارب مواقفها وخياراتها دون أن تكون هناك قواعد ديمقراطية تضمن احتكاما حقيقيا للرأى العام. المعسكر الأول، أطلال «جبهة الإنقاذ» بقواها وأحزابها المدنية التى لعبت الدور الأكبر فى إعداد المسرح السياسى لإطاحة جماعة الإخوان المسلمين. المثير أنه فى اللحظة التى تسلمت فيها مفاتيح أساسية فى السلطة بعد (30) يونيو بدأت قصتها فى الانهيار وغاب صوتها عن المشهد السياسى. توافقت ثلاثة أحزاب رئيسة من مكونات الجبهة على التحالف الانتخابى هى «الوفد» و«المصرى الديمقراطى الاجتماعى» و«المصريين الأحرار» غير أنها أجلت الإعلان إلى ما بعد صدور قانون الانتخابات النيابية. لم يتسن لهذا التحالف أن يعلن فقد كانت هناك تساؤلات تدور فى صمت حول حقيقة التحالفات الخفية لأحد أطرافه وتساؤلات أخرى عن الوزن الانتخابى لشريكيه المفترضين. ومن غير المستبعد إعادة طرح فكرة التحالف بين الأحزاب الثلاثة كنواة صلبة تضم إليها الشركاء الآخرين فى «جبهة الإنقاذ» الأقرب إلى يسار الوسط. من الأفكار الرئيسة المطروحة أن يجرى اختيار الاسماء وفق معايير متفق عليها تستبعد المحاصصات الحزبية لكن الفكرة حتى الآن لم تكتسب زخمها الضرورى. المعسكر الثانى، أطلال «الحزب الوطنى» بوجوه جديدة تتبنى الخيارات ذاتها التى أفضت إلى ثورة يناير. تتوافر له ملاءات مالية تسمح بخوض الانتخابات النيابية على جميع مقاعدها غير أن معضلته أنه يصعب أن يكون طرفا فى معادلة المستقبل وحضوره ذاته عبء على الرئيس وشعبيته والأحزاب الأخرى يصعب تصور أن تدخل معه فى تحالف يعرضها لتآكل مصداقيتها أمام قواعدها قبل الرأى العام. فى احتمال حصوله على نسبة كبيرة من المقاعد البرلمانية مشروع اضطراب واسع له ما بعده من نتائج وتداعيات وعواقب. المعسكر الثالث، أطلال التيار «الإسلامى» فالجماعة الأكبر متورطة فى العنف وتحت الملاحقة القضائية ويصعب أن يكون لها دور فى أية معادلة سياسية على مدى منظور أو متوسط ومن غير المستبعد أن تتقدم بوجوه غير معروفة فقد اعتادت خوض الانتخابات النيابية مهما كانت ظروفها لكن أدوارها سوف تكون هامشية. القوى والأحزاب الحليفة سوف تأخذ الهامش نفسه وحزب «النور» وصيف الجماعة فى الانتخابات النيابية السابقة أزمته مختلفة، دعم (3) يوليو الذى أطاح الجماعة دون أن يشارك فى (30) يونيو التى اعترضت على حكمها. وأيد الدستور ولم يحشد إليه وفى الانتخابات الرئاسية أبطل أنصاره فى صناديق الاقتراع أصواتهم رغم إعلان قياداتهم تأييد المشير رئيسا. فى الانتخاب حظوظه شبه غائبة فى أية تحالفات ومعضلته أن الجماعة سوف تحاربه بضراوة أكثر من خصومها فى القوى المدنية. فى شبه أطلال سياسية تدخل مصر إلى استحقاقها الثالث بلا يقين أنها سوف تقف على أرض نيابية صلبة والقانون كأنه ركام يسد طرق المستقبل.