أفرد مشروع دستور مصر الجديد بابا مستقلا يتناول المقومات الأساسية للمجتمع، وهو الباب الثانى منه، حيث أشار إلى مقومات ثلاثة يقوم عليها المجتمع المصرى، وهى المقومات الاجتماعية التى خصص لها الفصل الأول، من هذا الباب، ثم المقومات الاقتصادية وخصص لها الفصل الثانى، وصولا إلى الفصل الثالث الذى خصص للمقومات الثقافية. بداية تجدر الإشارة إلى أن المقارنة البسيطة بين الدساتير المصرية السابقة منذ عرفت مصر دستور 1923 وحتى دستور 1971، وبين مشروع الدستور الجديد، تشير إلى أن هذه هى المرة الأولى التى ينص فيها دستور مصرى على مواد تتعلق بالمقومات الثقافية للمجتمع المصرى باعتبارها أحد العناصر الرئيسية فى تكوين وبنية المجتمع المصرى. وقد جعل الدستور الجديد من المقومات الثقافية للمجتمع مكونا أو بالأحرى مقوما أساسيا من مقومات المجتمع المصرى، هذا بالاضافة إلى المكون أو المقوم الاجتماعى والاقتصادى ليشكل فى النهاية مثلثا أضلاعه الثلاثة، هى المقوم الاجتماعى، والمقوم الاقتصادى، والمقوم الثقافى. ••• هذا، وسوف أقصر حديثى فى هذه المداخلة على الضلع الثالث وهو ضلع المقومات الثقافية باعتبارى واحدا من المهتمين بالشأن الثقافى. يقع الفصل الثالث «المقومات الثقافية» فى أربع مواد هى المواد 50،49،48،47، وهى وان قارناها بعدد المواد الأخرى المتعلقة بالمقومات الأساسية للمجتمع لوجدنا أن الفصل الأول والخاص بالمقومات الاجتماعية يقع فى 19 مادة، بينما يقع الفصل الثانى الخاص بالمقومات الاقتصادية فى 20 مادة، ومعنى ذلك أن فصل المقومات الثقافية يمثل خُمس مواد كل فصل من الفصلين الآخرين تقريبا، وهى نسبة ربما تشير إلى طبيعة وحجم كل مقوم من المقومات الثلاثة فى بنية المجتمع المصرى، أو ربما تشير إلى اعتبارات أخرى رأتها لجنة الخمسين عند وضعها لمواد الدستور. على أى الأحوال فالدراسة العلمية لا تعتد بالكم مقياسا على مدى تحقيق مواد الدستور الخاصة بالمقوم الثقافى أو غيره من المقومات لتطلعات الشعب، وإنما العبرة فى النهاية باتخاذ الآليات والوسائل التى تحقق المبادئ والأسس التى وضعها الدستور. وكما هو معلوم، فإن نصوص الدستور تضع الأسس والمبادئ العامة التى تسير عليها الدولة من أجل تحقيق هذه الأسس وتلك المبادئ من خلال برامج تنفيذية ورؤى تأخذ طريقها إلى الواقع الذى نحياه. أشارت المواد الأربع الخاصة بالمقومات إلى التزام الدولة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة، وأن الثقافة حق لكل مواطن تكفله الدولة وتلتزم بدعمه، كما تلتزم الدولة بحماية الآثار والحفاظ عليها، وجاءت المادة الأخيرة لتشير إلى التزام الدولة بالحفاظ على تراث مصر الحضارى والثقافى وإيلاء الدولة اهتماما خاصا بالحفاظ على مكونات التعددية الثقافية فى مصر. ولعل القارئ المدقق يلحظ أن المواد الأربع تأخذ طابع الدفاع عن الهوية الثقافية المصرية، وحماية الآثار، والحفاظ على تراث مصر الحضارى والثقافى، وهو أمر محل تفهم للظروف التى مرت بها مصر على مدى السنوات الثلاث السابقة منذ ثورة 25 يناير من اعتداء على الآثار وسرقتها إلى ما تعرضت له الثقافة المصرية بصفة خاصة على مدى العام الذى حكمت فيه جماعة الأخوان من عدم اهتمام بالشأن الثقافى ومحاولات بعض أنصار التيار الدينى من المتشددين الدعوة إلى هدم الآثار باعتبارها أوثانا. غير أننى أجد أنه كان يتوجب على الدستور باعتباره وثيقة الأسس والمبادئ التى تحكم عمل المجتمع المصرى فى السنوات المقبلة أن تستشرف المستقبل بحيث تضع الخطوط العامة لمسيرة الحياة الثقافية المصرية فى السنوات المقبلة، وهو أمر يمكن استدراكه من خلال البرامج التنفيذية والآليات والرؤى التى تسمح لنا بانعاش حياتنا الثقافية والتواصل مع ثقافات الشعوب الآخرى من العالم بحيث يكون لمصر المكانة التى تستحقها باعتبار شعبها من أقدم الأمم التى صنعت حضارة وثقافة وفكرا. ••• وان كنت لا اعتزم ان أضع تصورا أو أقدم رؤية شاملة لما يرجى من أجهزة الدولة ومؤسساتها الثقافية أن تقوم به كبرنامج عمل يحقق تطلعات شعب مصر فى حياة ثقافية وحضارية مزدهرة، إلا اننى سوف أسمح لنفسى بعرض بعض الأفكار التى ربما تكون ملائمة عند تخطيط حياتنا الثقافية فى السنوات المقبلة. ولعل أولى هذه القضايا هى قضية الأمية وتراجع مستوى التعليم فى كافة مراحله، وأعتقد أنه لا مجال للحديث عن الثقافة والمثقفين وعن الأدب والأدباء وعن الفن والفنانين وعن الآثار والأفكار الفلسفية والفكرية التى تعبر عنها قبل التخلص نهائيا من الأمية التى لا يزال يعانى منها قطاع كبير من أبناء الشعب. ولعل نظرة بسيطة على الدول حولنا تشير إلى أن فلسطين تحت الاحتلال تبلغ بها نسبة الأمية صفر، وسوف أذهب بعيدا إلى الجنوب الأفريقى فى زيمبابوى ونسبة الأمية بها صفر رغم أن شعبها من أفقر شعوب الأرض. الأمر يحتاج إذن من جميع أجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدنى لإطلاق حملة قومية حاسمة وعاجلة تتنهى معها ظاهرة الأمية باعتبارها خط الأساس لأى جهد يبذل بعد ذلك فى مجال الثقافة والتعليم. الأمر الثانى ما اسميه (المشروع القومى للثقافة المصرية) تقوم على اعداده ووضع الخطط التنفيذية له جميع أجهزة الدولة المعنية، خاصة أن الشأن الثقافى لا يقل أهمية فى تقديرى عن بقيه القضايا الأخرى وكلها تصب فى النهاية فى حسابات القوة الشاملة للدولة، ولعل نظرة على الدول الفاعلة على الساحة الدولية لندرك على الفور المدى الذى وصلت إليه تلك الدول على صعيد حياتها الثقافية. بل أضيف أن دولة من الدول الكبرى تقوم أولا بالترويج لثقافتها وحضارتها ثم تدخل بعد ذلك بمنتجاتها وسلعها، وقد بدأت الصين انتشارها الاقتصادى فى القارة الافريقية بالفرق الصينية المختلفة فى الفنون الشعبية والألعاب الاكروباتية حتى تم السيطرة على السوق فى تلك الدول. وفى هذا السياق فإننى وفى إطار المشروع القومى المقترح للثقافة المصرية أرى إيفاد الفرق الشعبية المصرية للفنون بكثافة إلى جميع دول العالم لتعبر عن ثقافتنا المصرية الأصيلة (فرق الفنون الشعبية فى البحيرة فرق الفنون الشعبية فى أسوان والنوبة وسيناء والشرقية وغيرها والتى تعبر عن تنوع ثقافتنا المصرية. وأرجو ألا يقتصر هذا المشروع القومى على توجيه رسائل إلى شعوب العالم فقط من خلال تلك الفرق، وانما يحتاج الأمر إلى ضرورة انعاش الأنشطة الثقافية المصرية فى الداخل من خلال برامج مدروسة ومكثفة. الأمر الثالث والذى أراه فى غاية الأهمية هو إعلان مصر عاصمة دائمة للثقافة العربية والإسلامية، وهو أمر يحتاج من أجهزة الدولة مجتمعة وضع الخطط التنفيذية لجعل هذا الاعلان حقيقة ملموسة من خلال عقد المهرجانات الثقافية الدولية فى الفنون والآداب بحيث تصبح مصر بحق محطة ثقافية عالمية. لقد تراجع النشاط الثقافى المصرى فى السنوات الأخيرة، وهو ما يحتاج من أجهزة الدولة المختلفة إلى السعى الحثيث لاستعادة هذه الأنشطة وتطويرها، وفى هذا السياق فإننى أدعو إلى إنشاء المعرض الدولى الدائم للكتاب تدعى للمشاركة فيه جميع دور النشر فى العالم بمختلف ثقافاته وحضاراته. كما أن الأمر يدعونى إلى الدعوة لضرورة أن يتولى وزارة الثقافة فى الحكومة الدائمة القادمة شخصية ثقافية يكون لها وزنها على المستوى القومى والعربى والدولى يلتف حولها المثقفون والأدباء والفنانون ورجال الفكر للنهوض بالثقافة المصرية ولعلنى أشير إلى نموذج الدكتور ثروت عكاشة ودوره فى حياتنا الثقافية فى عهود مضت. ••• الأمر الأخير ولن أطيل فما قصدت إليه لم يكن سوى قدح أفكار BRAIN STORM أدعو إليه جميع المشتغلين بالثقافة والفنون والآداب أن يدلوا بدلوهم فيه إثراء للحوار المجتمعى حول تعزيز هويتنا الثقافية المصرية والانطلاق بها إلى آفاق أوسع وأرحب، وهو موضوع الآثار المصرية وأهمية الانطلاق بها من مجرد الحفاظ عليها وصيانتها إلى توظيفها التوظيف الأمثل باعتبارها صناعة وثقافة وحضارة