إذا كنت تعتقد أن سياسات القمع والبطش والحل ستحل مشكلتك مع أنصار «تيارات الشعارات الإسلامية» فأنت حتما لم تقرأ هذا الكتاب. ربما جعلك عنوان الكتاب (يوما ما.. كنت إسلاميا) تظنه من نوعية الكتب التى هجر مؤلفوها الجماعات المتشددة التى كانوا ينتمون إليها وقرروا التطهر بكتابة كتب عن تجربتهم لعل الله يكافئهم على ذلك بتحقيق أعلى المبيعات، لكنك ستكتشف مع انتهائك من قراءته أن مؤلفه أحمد أبوخليل هجر صفوف ما يسميه «البناء الإسلامي» لأنه كره إقبال الإسلاميين على دنيا السياسة وهجرهم ذاتهم المميزة من أجل أن يندمجوا فى المجتمع فلم يعودوا «إسلاميين» كما ينبغى على حد تعبيره، وهو لا يقول ذلك من وجهة نظر تكفيرية كما قد تظن، فمشكلته أكثر تركيبا وهو يشرحها فى فصل بعنوان (ماذا حدث للإسلاميين)، يعلن فيه حنينه إلى الأيام التى كان فيها «البناء الإسلامى متماسكا بفعل القبضة الأمنية المحاصرة له والاضطهاد السياسى والإعلامى الذى يتعرض له عبر العقود المتعاقبة، كانت أفكارنا السياسية وتصوراتنا الإقتصادية ورؤانا الإستراتيجية حبيسة الكتب والأشرطة والمؤتمرات... وكانت الأجواء الاجتماعية والتربوية محاطة بقدر كبير من الانغلاق والعزلة التى تحافظ لها على نقائها، وتضاعف من اثرها ومفعولها البالغ الأثر فى النفوس. عندما جاءت الثورة على غير موعد معنا انفتحت شرانق كل هذه الأفكار وطارت فى النور تضرب بجناحيها فى فضاءات الحياة، وانفكت هذه التصورات من عقالها تركض فى البرية متخبطة بين الوهاد، وتحررت تلك الأجواء التربوية من أسر التحوط والتمترس أمام موجات المجتمع». لاحظ أن الطبعة الأولى للكتاب صدرت فى نوفمبر 2012 أى بعد أشهر من وصول «الإسلاميين» إلى الحكم، وهو الوقت الذى كان يلطم فيه بعض المثقفين على مصر التى ضاعت إلى الأبد، فى حين كان الكاتب يعدد مظاهر الخطورة التى أحدثها خروج الفصائل الإسلامية من شرنقة العمل السرى إلى أرض الواقع المربكة، سواءً على مستوى السلوك الشخصى الذى جعلهم يمارسون تصرفات كانوا يرفضونها من قبل لكى يثبتوا للناس أنهم ليسوا مختلفين عنهم، أو على مستوى الممارسة السياسية التى جعلتهم «يتخلصون من شعارات الماضى التى كانت من المسلمات ليتحدثوا عن خصوصية التجربة السياسية وحساسية المعادلات الدولية وموازين القوى العالمية». فى فقرة مهمة تذكر الإخوان وحلفاءهم بجريمة محمد محمود التى يحاولون «الغلوشة» عليها الآن بسخريتهم اللزجة، يقول الكاتب بحزن عميق «ارتكبت عشرات الأخطاء وربما الخطايا فى كل الحملات السياسية للمرشحين الإسلاميين، انقسمت الساحة الإسلامية فى الوقت الذى أقسمت ألا تفعل هذا فى أول عهدها بالسياسة، كل أخذ يتناحر وفق قواعد اللعبة الموضوعة سلفا، قواعد اللعبة التى يؤمن أغلبهم بعدم إسلاميتها أصلا.. طفا كل هذا اللغط فى الفضاء العام، ووجد الإعلام ضالته فى هذه البيئة، فتح الناس أعينهم على الإسلاميين الذين انفردت لهم المساحات الإعلامية العريضة فإذا بها تنفتح على مشهد إحجامهم فى معارك محمد محمود ومجلس الوزراء، كانت خطوط النار خالية منهم إلا حفنة ممن خرجوا عن كل التيارات... كانت الصدمة بالغة، حاولت فى معارك محمد محمود أن أتعلل لهم ولأدمغتهم التى صدمها الخروج للنور فأعشاها عن البصيرة ... لكننى لم استطع الصمود وأنا أتلفت يمينة ويسرة فى جنازة الشهيد عماد عفت فلا أرى إسلاميين لا شيبا ولا شبانا، ولا ارى إلا ممثلين بوفود رسمية لا يزيد عدد أفرادهم على عدد القساوسة الذين جاؤونا متضامنين مع القضية، بكيت بكل حرقة يومها، بكيت على الحق الذى أضعناه بأيدينا وعلى الدماء التى أهدرناها بموقف متخاذل كهذا، فلا بارك الله فى «إسلامية» يكون هذا نتاجها بعد كل سنين البذل والظلم والحلم». يختم أحمد أبوخليل كتابه بالتعبير عن افتقاده ل«الحالة الإسلامية» التى كانت موجودة قبل الثورة وعن حزنه على أنه لن يكون قادرا على الإنشاد بكلمات أنشودة «غرباء ولغير الله لا نحنى الجباه.. غرباء وارتضيناها شعارا فى الحياة»، لا أدرى كيف سيكون شعوره الآن بعد كل ما جرى من دماء فى النهر، لكن ما أنا متأكد منه أن ما حدث منذ غشومية فض اعتصام رابعة سيعيد كثيرا من أنصار تيارات الشعارات الإسلامية للتلذذ ليس فقط بكلمات نشيد (غرباء) بل بالفكرة التى يمثلها هذا النشيد والتى تشعر من ينتمى إلى تلك التيارات يحمل خصوصية تميزه عن بقية المجتمع وتدفعه للمزيد من بذل التضحيات من أجل تأكيد تميزه، صحيح أن هذه الفكرة لم تعد قابلة للتاثير على الجماهير الغفيرة، لكنها فى ظنى سيتم توظيفها مجددا من قبل قادة تيارات الشعارات الإسلامية الذين ستريحهم حالة السرية وتفاصيل الاضطهاد من مواجهة متطلبات العمل العلنى التى كانت سببا فى أقسى هزيمة تعرضت لها هذه التيارات فى تاريخها، وهى هزيمة كان يمكن أن يتم حسمها وتأكيدها من خلال صندوق الإنتخابات على أيدى القوى السياسية التى تقدم للناس فكرا حضاريا واقعيا عمليا متقدما، لكن قاتل الله الاستسهال الذى جعلنا نفضل العودة إلى الحالة التعيسة التى كنا عليها أيام مبارك، حين كانت الدولة الأمنية تستخدم قمعها لتلك التيارات كذريعة لتبرير نفوذها وتغولها وبطشها بكل من يسعى لأن تكون مصر دولة مدنية بحق وحقيق، لا أن تكون عزبة لقائمة من أصحاب النفوذ تتغير رتبهم وأسماؤهم ولا تتغير أبدا طبيعتهم وممارساتهم. لن أمل من قولها مرارا وتكرارا: من أراد مصلحة مصر حقا وصدقا عليه ألا يسمح لحملة الشعارات الإسلامية بالعودة إلى جحور العمل السرى لأن الواقع بقسوته وتناقضاته كفيل بتحجيم نفوذهم بحيث لا ينالون أكثر مما يستحقون وبحيث يطور العمل السياسى ممارسات من صلحت نواياه منهم ويقضى على من تحجر وتجمد، أما ما سوى ذلك فليس سوى إعادة لفيلم بايخ لن تكون إعادته باعثة على السخرية هذه المرة، بل ستكون جالبة للمزيد من الدم والدموع، يا ليت قومى يعقلون. [email protected]