عبد الوهاب عيساوي في 2010 تُوِّج الروائي البيروفي ماريو بارجس يوسا (1936) بجائزة نوبل للأدب بعد مسيرة أدبية وصحفية قاربت الأربعين سنة، ألّف خلالها العديد من الروايات والكتب النقدية التي حفرت عميقا في فن الرواية. منذ بداياته اشتغل يوسا بالبحث عن أشكال جديدة للتعبير، بادئًا رحلته الاستكشافية لإيجاد طرائق وأوعية يمكنها استيعاب رؤيته للعالم لاقت رواياته الأولى إعجابًا كبيرًا من النقاد على سبيل المثال «المدينة والكلاب» (1963). «البيت الأخضر» (1966) و»حوار في الكاتدرائية» (1969) وبالرغم من ذلك ظلّت الهواجس نفسها تطارده. مثلما طارده السؤال: كيف يمكن تفادي تكرار الأشكال والتقنيات القديمة وابتداع أخرى جديدة، أكثر تعقيدا واستيعابا لوجهات نظرٍ أكثر عمقا لتَمَثُّل الواقع بحرية في الفضاء المتخيل؟ تأسيسات أولى فى المرحلة الأولى وأثناء رحلة البحث الطويلة حاول يوسا تحرير القصة من أي تدخلٍ للمؤلف تأثرًا بمعلمه فلوبير، وقدّم فى الوقت نفسه تلاعبًا جماليا مكثفًا ليجعل لكل رواية حياة منفردة منفصلة عن مؤلفها مع المحافظة على تلك المسافة بينه وبين العوالم المتخيلة، بما يمكن الاصطلاح عليه بالموضوعية الواقعية، تجلى ذلك فى روايته "المدينة والكلاب" حينما سمحت له هذه التقنية بترك عنصرٍ يُثري الدراما ويعقد المؤامرة. فى ثنايا الرواية يُطرح السؤال عن وفاة العبد: هل كانت حادثًا أم فعلا انتقاميا لخيانة رفاقه؟ يُعطي السؤال للقارئ الحرية فى تطوير نظريته الخاصة حول السؤال الأخلاقي. بينما فى رواية "البيت الأخضر" يعمل الروائي على خلق خلفية من الغموض وأفقٍ غير واضح، عندما يتقاطع العنصر الأسطوري مع الصور الواقعية. فى المرحلة الثانية ليوسا كان أقرب إلى الواقع، وهي الفترة التي كتب فيها روايته "بنتاليون والزائرات"( 1973) و"العمة خوليا والكاتب" (1977)، إذ تنفتح الروايتان على فضاء جديد، ترجمته الأولى عبر واقع مليء بالاحتقان والتوتر لدى الشخصيات كردّ فعلٍ على بيئةٍ اجتماعيةٍ مضغوطةٍ، يلجأُ الروائي فى سبيل مجابهتها إلى بث أجواءٍ من السخرية داخل الرواية. بينما يلجأ فى الرواية الثانية إلى اتخاذ موقفه الذاتي مرجعيةً شخصيةً لأحداثها. تحدَّث يوسا فى كتابه "رسائل إلى روائي شاب" قائلا: "الحياة الواقعية أقل مصداقية من العالم المتخيل". كان هناك نوع من الحسم لدى الروائي أنه لا يمكن تغيير الواقع، واستعاض عن الاشتغال بأزمات سابقة من الواقع الحقيقي بخلق أزمات فى الواقع الحقيقي للمؤلف (المتخيل)، وظهر ذلك فى رواية "قصة مايتي" (1984)، حيث يُحاول الراوي كتابة سيرة زميل قديم له فى الدراسة أصبح فيما بعد مناضلا سياسيا. أثناء بحثه عن هذه السيرة يبدأ الراوي بزرع الشكوك حول هذه الشخصية، ليُفاجئ القارئ فى نهاية الرواية أن الكثير من الحقائق التي حدّثه عنها ليست صحيحة، وأولها قصة زمالته له. تقنية جديدة مربكة فى رواية "حوار فى الكاتدرائية" يوظِّفُ يوسا تقنية جديدة على الفن الروائي، إذ يطوِّر العديد من القصص التي ترتبط مع جهات اتصال مفاجئة، تتخلّلها قفزات فى الحدث وحواراتٍ متزامنة. تروي الرواية قصة شاب صحفي يدعى سانتياجو ثابالا، وُجد بالصدفة فى مستودع تابعٍ للبلدية لإيداع الكلاب، رفقة السائق السابق لوالده (امبروسيو) المحبِّ له. عن طريق الفلاش باك يعودان بالذاكرة لأكثر من عشر سنوات، حينما التقيا. يتوجهان إلى حانة الكاتدرائية حيث تستمر محاورتهما حوالي أربع ساعات، يحاول فيها الصحفي دفع أمبروسيو ليروي له ما حدث لوالده فى الحقبة المظلمة من حياته. انطلاقا من هذه المحاورة التي تبدأ فيها الشخصيتان التذكر والبحث فى الذكريات لتشييد ماضٍ مظلم، ليس فقط لعائلة ثابالا بل للبيرو كلها. يتم الاستعانة بتقنية جديدة تعمل على توسيع الذكريات بمساعدة الراوي لبناء حياة الرجال الثلاثة (سانتياجو، أمبروسيو، ثابالا الأب). عبر هذه التقنية تشتبك القصص المختلفة، والشخصيات التي ليست معًا -لا فى الزمان ولا فى المكان نفسه- ولكن يُشار إليها فى الصفحة نفسها (يختلط الماضي والحاضر، زمن الحكي وزمن القصة). يلاحظ القارئ العادي أن هناك خللاً فى البناء المنطقي للرواية إذ تُستعاد ذكريات عديدة حدثت فى عشرين سنة دون احترامِ التسلسل الزمني (فترة الجامعة لسانتياجو، حياة كايوييرموديس قبل السياسة، موت فيرمن ثابالا، حياة أمبروسيو...الخ) التقنية الجديدة بعيون نقدية يعود يوسا فى روايته "ليتوما فى جبال الأنديز" (1993) ، إلى استعمال التقنية نفسها (فى رواية حوار فى الكاتدرائية) مع بعض التعديلات، إذ بُنيت الرواية من عدّة سلاسل حوارية (إحدى عشر سلسلة من الثلاثين المكونة للرواية). تتقاطعُ فيها الحوارات مُشكِّلة العديد من البيانات النصية المشتركة، مُنشئة نظامًا واعيًا أطلق عليه الكاتب الإسباني خوسيه لويس مارتين(1930-1991) نظام الروابط المشتركة، شارحًا إياه بالقول: (يتكون هذا النظام انطلاقًا من سلسلة من الروابط المشتركة، تبنى من ثنائيات مختلفة. بهذا الشكل نقول إن الرابط "أ" والرابط "ب" يمكن أن يكونا وجهتيْ نظر سرديتين مختلفتين، أو حوارين متوازيين مختلفين، أو تجاورات زمنية أو مكانية متباينة فى نظام معقَّد يمكن تعريفه كالآتي: أ- ب ، أ1 – ب1 ، أ2 – ب2، أن – بن). يتضح أكثر مفهوم هذه التقنية عند الناقد البيروفى خوسيه ميجيل أوفيدو (1934-). الذي أطلق عليها مصطلحًا جديدًا الحوار التيلسكوبي ويُعرفه: ِ(يتمثل فى إدخال الصوت ج على المحادثة الحالية الحاضرة بين شخصين أ، ب. يمدّ الصوت ج جسرًا زمنيًا من الماضي، ويتحاور مع أ فقط، دون انتقال سردي. يمكن للمورد أن يكون أكثر تعقيدا فى الحوار بين أ و ب، وذلك بدمج حوارٍ آخر بين ج ود). تتلخص قصة "ليتوما فى جبال الأنديز" باختفاء ثلاثة أشخاص من سكان قرية اسمها ناكوس، يشرع ليتوما العريف فى الحرس الوطني ومساعده توماس فى التحقيق فى القضية التي تُتّهم بها جماعة الدرب المضيء الدموية. قبل التحاق توماس بمركز الحراسة بالجبال بأشهر يعيش قصة حب عنيفة فى المدينة مع امرأة اسمها مرسيدس، فى مركز الحراسة يقضي أوقات فراغه يحكي قصتها لزميله ليتوما. فى الزمن الحاضر يروي توماس للعريف ليتوما قصة حبِّه لمرسيدس، ومن جهة أخرى لدينا فى نفس السلسلة الحوارية، حوار ثانٍ مسترجع يتحاور فيه توماس ومرسيدس. ويحتل الحواران الصفحة نفسها. هذا المشهد يمثله الأستاذ أنطونيو مانويل لوك لاجونا (جامعة قرطبة) فى البيان التالي: حوار حاضر (توماس+ ليتوما). حوار مسترجع (توماس+ مرسيدس). حوار حاضر 1 (توماس+ ليتوما). حوار مسترجع1 (توماس+ مرسيدس). حوار حاضر2 (توماس+ ليتوما). حوار مسترجع2 (توماس+ مرسيدس). حوار حاضرن (توماس+ ليتوما). حوار مسترجعن (توماس+ مرسيدس). ثم يورد الأستاذ أنطونيو مثالا توضيحيًا من متن الرواية: "عاهدني بألا ترتدي أبدًا ومدى الحياة زي الشرطي -قالت مرسيدس- على الأقل حين نكون معًا". "أعدك بكل ما تطلبين –قال الفتى مفرطًا فى العذوبة (توماس)". "وها أنت ترى –تنهّد ليتوما-لقد عدت إلى ارتداء الزي، وأنت هنا لا تستطيع أن تخلعه. فسوف تموت وأنت تنتعل جزمتك يا توماسيتو. أرأيت مثل هذا الفيلم؟" فى هذا المقطع لا يخبرنا الراوي أن توماس قد حدَّث ليتوما بمسألة الوعد الذي قطعه لمرسيدس، ولكن ليتوما يعرف أمر الوعد ثم يمازح صديقه. هكذا نلاحظ أن الحوار المسترجع (الخاص بالوعد) قد شغل مكان الخطاب الذي ينقص الحوار الحاضر (وهو إخبار توماس ليتوما بقصة الوعد). بهذا الشكل يمكن قراءة السلسلة من البداية إلى النهاية دون الإضرار باستمرارية المعنى، باستيعاب فكرة ضمنية المعلومات مع ظهور نظامٍ لحوارٍ بديل. يتكرر استعمال هذه التقنية (الحوار التلسكوبي) فى حوار آخر فى الرواية: - كم عمرك؟ سألته المرأة فجأة. (مرسيدس) فهتف ليتوما: - وأنا أيضا أشعر بالفضول لمعرفة عمرك. فأنت لم تخبريني بذلك من قبل. كم عمرك ياتوماسيتو؟ حوار (توماس+مرسيدس) مسترجع من الماضي أثناء حوار (توماس+ ليتوما) فى الحاضر، والحواران مُدمجان فى سلسلة واحدة. الراوي هنا لا يخبرنا أيضا باللحظة التي أخبر فيها توماس صديقه عن سؤال المرأة، لكنه استغنى عنه وجعل مكانه الخطاب المسترجع (سؤال المرأة لتوماس)، وبقي السؤال ضمنيًا (من أين عرف ليتوما السؤال؟ أو من الذي أخبره عنه؟). بهذه الطريقة يتكرر استعمال هذه التقنية المستحدثة فى الحوارات، مما يُشكِّل إرباكًا للقارئ، مع أن الروائي يلجأ إلى ربط الخطابات بعضها ببعض (الحاضرة/ المسترجعة) عن طريق عناصر معجمية مشتركة من أجل بناء متواليات حوارية متصلة. اعتمادا على حوارٍ بين شخصين، وباستعمال هذه التقنية يمكن استدعاء خطابات متحاورين (من الماضي) قد يصل عددهم إلى ثمانية عشر محاورًا وهو المستوى الأقصى الذي وصل إليه يوسا وذلك فى روايته " محاورة في الكاتدرائية". على الرغم من أنها كانت من بين نصوصه الأولى إلا أنها شكّلت الذروة فى الشكل الروائي عنده. فى الثمانينيات مالَ يوسا إلى القضايا السياسية التي شغلت القارة الأمريكية، مُستعيدًا النموذج الكلاسيكي للرواية الديكتاتورية فى "حرب نهاية العالم" (1981). لكنه يعود فى رواية "ليتوما فى جبال الأنديز" إرضاءً للرغبة الشكلية والتقنية، كفترة استراحة ثم واصل بعدها الخوض فى قضايا الديكتاتوريات والموضوع السياسي فى "حفلة التيس"(2000 ). ثم ماذا بعد التقنية؟! فى جوابه عن سؤال صحفي -إن كان لا يزال مهتما بالشكل (التقنية)-، قال يوسا: "لم يكن يهمّني الشكل فى حد ذاته، صرت أعي الآن أنّ الوضوح يمكن أن يكون أفضل من التعقيد، وأن سردَ أحداث قصة جيّدة هو درس تعلّمته مع التجربة. ربما يمكن مقارنة ذلك بالحاجة إلى الوقوع فى الخطيئة لمعرفة أية قيمة يحملها الزواج." ثم يجيب صحفيا آخر يسأله عن وصفه للرواية الجيدة قائلا: "لا أعتقد بوجود وصفات تجعل الرواية جيدة، فهي مزيج من عدة أشياء، أعتقد أن هناك عوامل كثيرة تُساهم فى كتابة رواية جيدة، ولكن قبل كل شيء لا بدّ من العمل الجاد، والصبر الكبير، والعناد، والاتّسام بالروح النقدية يمكن القول إن عُشرَ وصفة الرواية الناجحة إلهامٌ، وتسعة الأعشار الباقية هي اشتغالٌ".