دومينجو روديناس ترجمة: أسامة الزغبى لقد كان ماريو بارجاس يوسا «ألفة الصف»، كما سماه خوسيه دونوصو، وربما كان أكثر حالات الموهبة السردية التى لا يمكن أن تُقهر من جيل «اليوم» حصاده من الروايات والمقالات وفرة صادمة من الروائع التى كان يمكن لكل منها على حدة أن يوازى هيبة حياة أدبية كاملة. أقترح هنا عدة عناوين للبدء بقراءتها، وهى مكتبة مختارة خضعت فيها لذوقى الخاص. المدينة والكلاب (1963) من ذكريات مراهقته فى مدرسة ليونسيو برادو العسكرية وقراءاته النهمة (سارتر ومالرو وفوكنر وكل الجيل الضائع)، ولدت هذه الرواية الأولى والمدوية الحائزة على جائزة «بيبليوتيكا بريبي» عام 1962، والتى كانت رأس جسر ازدهار الرواية فى أمريكا اللاتينية. بأصوات وأزمنة متبدلة ولعبة متكررة من الازدواجية، يمثل بارجاس يوسا فى مدرسة ليونسيو برادو نموذجاً للمجتمع البيروفى واستعارة خالدة للداروينية الاجتماعية، لفرض القوى على الضعيف. يثخن العنف والإذلال والخوف أجواء المدرسة الداخلية العسكرية حيث أنشأ الطلاب نظامهم الطبقى الخاص بهم (الرؤساء والكلاب والعبيد). يطلق الموت الغريب لأحدهم (العبد) سلسلة من الإيحاءات والإخفاءات، التى تضع صديقه (الشاعر) فى مواجهة القاتل المفترض، (الفهد)، وتتحدى القوانين العسكرية (الاحتيال والخداع) التي، مع ذلك، تنتهى إلى أن تنتصر فى النهاية. البيت الأخضر (1966) رواية متاهة متقنة ومبنية بدقة هندسية متناهية باستخدام أدوات سردية جريئة تعلمها إلى حد كبير من فوكنر. كُتبت فى باريس بين عامى 1962 و1965، وهى عبارة عن جولة سردية تتشابك فيها خمس قصص مختلفة، اثنتان منها تدور أحداثها فى مدينة بيورا وثلاث فى الغابة، حيث يقع بيت الدعارة المشار إليه فى العنوان. فى هذا السرد الحكائى من المراوغات الروائية، سلسلة من الأصداء والتكرارات، من البيانات الغامضة والخفية، تسمح للحبكات الخمس، رغم تناوبها وتشابكها، بالتدفق نحو التقائها فى وحدة عليا تنتصر فيها الهمجية (أو القوى البدائية) على الحضارة. وفى هذه المجموعة المتنوعة من الشخصيات والقصص، تبرز شخصية المومس سيلفاتيكا وليتوما (التى سيستعيدها المؤلف فى رواية «ليتوما فى جبال الأنديز» عام 1980)، وكذلك الروح المتمردة لزعيم من الهنود الحمر (جوم) الذى يثور ضد فظائع عمال المطاط، أو المغامرة التى يرويها مهرب يابانى يسافر إلى نهايته فى مستعمرة للمصابين بالجذام. وهو عمل غرائبى روى بارجاس يوسا كيفية كتابته فى كتابه «تاريخ سرى لرواية» (1971). محادثة فى الكاتدرائية (1969) تحفة فنية أخرى، ونموذج للتنفيذ المتقن والتوفيق بين الشهادة النقدية لمجتمع ممزق، مجتمع بيرو فى ظل ديكتاتورية مانويل أودريا (1948-1956)، والتطبيق المبهر للأدوات الفنية للرواية الحديثة. من خلال محادثة دامت أربع ساعات فى حانة «الكاتدرائية»، بين ثاباليتا - الصحفى الذى يحمل فى طياته أجزاء متساوية من خيبة الأمل والإحباط - وأمبروسيو - سائق والده السابق الذى يعمل الآن فى خدمة كايو بيرموديث القاسي، وهو ترس رئيسى فى عجلة الديكتاتورية - يقوم بارجاس يوسا بتشريح دقيق للعفن الأخلاقى الذى انتشر فى جميع أنحاء الجسد الاجتماعى البيروفي. إن تعدد القصص، من الميلودرامى إلى الملحمي، إلى جانب تعدد الأصوات التى تصل إلى أقصى تعبيراتها، يربط بين المجالين العام والخاص، ويبين كيف أن الانحطاط العام منتشر فى ظل أى نظام ديكتاتوري، وهو انحطاط أخلاقى يشمل أولئك الذين يحتمون - بدافع الخوف أو الحساب - بالكبت أو توسط الكفاءة للتأقلم مع الأوضاع. رواية مثيرة للإعجاب. العربدة الأبدية (1975) تحليل شديد الدهاء لرواية «مدام بوفاري»، ولورشة عمل فلوبير، وفوق كل ذلك، إعلان شديد اللهجة عن شغف أدبى «حصرى واستثنائي». إذا كانت رواية «محادثة...» محاولة ناجحة فى الرواية الكلية، فإن طموح الكلية يطبق هنا على النقد.. يبدأ بارجاس بقراءة المجلدات الثلاثة عشر لمراسلات فلوبير (التى اشتراها بالمال الذى حصل عليه من رواية «المدينة والكلاب») ليغوص فى أسرار ومفارقات كتابات الفرنسي. وتصبح العلاقة القائمة على الإعجاب بخصائصها اعترافًا بشاعريته الخاصة: الواقعية قبل إغراء الغرائبية أو العجائبية (على الرغم من أن «تاريخ مائة عام من العزلة» - أطروحته للدكتوراة - كانت تحليلًا مفصلاً لكتاب «مائة عام من العزلة») الدقة المتناهية فى التركيب والإجراءات والأسلوب، والملاءمة بين الموضوع والمعالجة الشكلية، رفض الارتجال أو الإيمان بالعبقرية، والقدرة غير العادية على السرد المتعدد، وتقدير الفعل الميلودرامي، وأخيراً رسوخ الرواية فى تجربة الكاتب الحياتية. حرب نهاية العالم (1981) إعادة بناء ذات أبعاد تولستوية لحرب كانودوس عام 1897، حيث قامت جمهورية البرازيل الفتية، التى تحداها تمرد دينى بقيادة مخلص متواضع المكانة، أنطونيو كونسيليرو، بسحق المتمردين بطريقة دموية. يتحدى جهل وفقر السكان الأصليين فى شمال شرق البلاد، وهم وقود سهل للتعصب، مشروع الدولة التحديثي، كما أن الاستجابة التى يثيرونها فى أوساط السياسيين والمثقفين تثير التساؤل حول دور ودوافع كليهما. يحشد بارجاس يوسا مرة أخرى فيلقًا من الشخصيات من جميع الفئات الاجتماعية، مع إيلاء اهتمام خاص لأتباع المخلص التعساء، ويصورهم بواقعية نابضة بالحياة. من بين هؤلاء، يعلق بالذاكرة الصحفى قصير النظر، وهو نسخة روائية من إقليدس دا كونيها مؤلف السرد غير الروائى «الأراضى النائية» (1902)، التى تُعد رواية « حرب نهاية العالم» إعادة كتابة متميزة لها. إنه سفير بارجاس فى هذا العالم المختل. تاريخ مايتا (1984) لا تزال قيمة هذه الرواية التى تدور حول مصير الشباب الثورى فى أمريكا اللاتينية - الذى كان المؤلف عضوًا فيه - بحاجة إلى إعادة اكتشاف، وهى تُروى هنا كتقرير استقصائى عن أليخاندرو مايتا بواسطة راوٍ هو نسخة من بارجاس يوسا نفسه. تتراوح الأزمنة والأماكن من الحاضر الذى تتم فيه مقابلة الشهود الناجين (السبعينيات فى بيرو التى سحقها البؤس والفساد) إلى الأيام التى كان فيها مايتا يتدرب كمقاتل حرب عصابات مستقبلى (الخمسينيات). لكن يظل من الصعب الوصول إلى شخصيته، مثل تجسيد غامض للمثالية اليسارية التى اعتقدت أنها قادرة على تغيير الواقع من خلال التضحية والسلاح. فى مواجهة مايتا، يصبح الراوى بشكوكه وأساليبه مرئيًا، ليفترض بشكل ميتافيزيقى أن الطريقة الوحيدة للوصول إلى حقيقة مايتا هى اختراعها: «الكذب مع معرفة السبب»، كما يقول. حفلة التيس (2000) مع هذه الرواية التى تتناول سقوط ديكتاتورية رافائيل ليونيداس تروخيو فى جمهورية الدومينيكان، عاد بارجاس يوسا إلى إعادة بناء التاريخ بشكل معمارى وإلى التفكير فى السيكولوجيات المعقدة، ولكن قبل كل شيء إلى إدانة الدناءة العميقة والملوثة التى تولدها كل سلطة استبدادية. يشكل الاستعراض البطيء للأشخاص الذين تم إعدامهم معرضًا للرعب: ذلك المسخ الأخلاقى الذى خلقه هذيان السلطة السياسية غير المقيدة. وفى مقابل هؤلاء، يمثل الشباب المخدوعون الذين يدبرون مؤامرة ضد الديكتاتور المثالية الثورية المحكوم عليها بالتدمير الذاتي. تساعد الحركية الزمنية والبؤرية للسرد، والتأرجح من الخاص إلى السياسي، والصدق المدوى للأصوات والنفسيات، على إنتاج صورة محطمة لأى نظام استبدادي. لا يهم أن الرواية تستند إلى أحداث حقيقية، لأن تروخيو كان من الممكن أن يكون اسمه خوان بيسنتى جوميث أو ستروسنر أو بيرون أو كاسترو. أهديك صمتى (2023) يودّع بارجاس يوسا الرواية بهذا الاحتفاء الجميل بالموسيقى الشعبية البيروفية التى هى فى الوقت نفسه سخرية لاذعة من الطوباوية القومية. يجسده عالم الفولكلور الحزين والفقير، تونيو أزبيلكويتا، الذى يتشبث بفكرة ساذجة مفادها أن موسيقى الكريول هى الصخرة التى تتحطم عليها الاختلافات العرقية والطبقية فى بيرو: إن الهواشافيرية (وهى انفعال عاطفى غير عقلاني) هى المشاعر التى توحد الوطن. إن المقال الذى يعرض فيه أثبيلكويتا أطروحته هو جزء لا يتجزأ من قصة حياته اليومية البائسة، التى لا يكاد صدى إرهاب حركة الطريق المستقيم يلامسها، فى تناقض حاد بين المثالى والواقعي، بين ما نعتقده ونريده أن يكون عليه الواقع وبين وجهه المتجهم والساخط. ومع ذلك تمكنت الرواية من الحفاظ على إيقاعات (الهواينو والفالسيتوس والمارينيراس) فى الهواء فوق الهزيمة.