يكفى أن تتبع رائحة الورود والزهور لكى تصل إلى يسرى فودة. مساء الإثنين ذهبت وزميلى أحمد الصاوى إلى مستشفى دار الفؤاد، فى الدور الثانى كان ممر المستشفى يكاد ينسد من كثرة «بوكيهات الورد»، وكلها تحمل معنى واحدا وهو سلامتك يا يسرى.
حادث انقلاب السيارة الذى تعرض له يسرى فودة على طريق الغردقة الجونة قبل نحو اثنى عشر يوما كان مؤلما ونجاه الله بأعجوبة، لكن ربما أكد ليسرى معنى مهما جدا وهو ان الناس يحبونه بأكثر مما يظن لأنه مهنى ومحترم.
هناك مشاهير كثيرون فى الحياة، يمكنهم ان يكونوا ملء السمع والبصر ، لكن المعادلة الصعبة هى ان كل مشهور ليس بالضرورة محترما. يسرى فودة هو واحد من هؤلاء الذين جمعا الشهرة واحترام الذات، وقبل ذلك وبعده المهنية والاحتراف والإجادة.
عندما وصلنا المستشفى رأينا طوابير من الزائرين تريد ان تطمئن عليه، شباب من نشطاء مدينة 6 أكتوبر، ثم وفد من شباب مركز مطاى بالمنيا، أولاد وبنات فى عمر الزهور، مسلمين ومسيحيين، ثم جاء وزير الآثار محمد ابراهيم، خرج ودخل بعده شباب آخرون.
فى عيون هؤلاء الزائرين معنى واحد أنهم يحبون ويحترمون هذا الشخص.
يسأل البعض سؤالا يبدو سهلا جدا لكنه فى منتهى الصعوبة وهو: كيف يكون الشخص محترما؟!.
الإجابة هى عندما تحترم نفسك وتحاسبها حسابا عسيرا يحترمك الآخرون حتى لو اختلفوا معك.
عرفت يسرى فودة من أكتوبر 1982 عندما التحقنا معا بكلية الإعلام جامعة القاهرة، ثم تخرجنا معا فى مايو 1986، فى دفعة صارت تمثل ملمحا بارزا فى تاريخ الإعلام المصرى، ويكفى ان من بين أفرادها ياسر رزق ودينا عبد الفتاح وعمرو أديب ومجدى الجلاد وحمدى رزق وجمال محمد غيطاس ومحمد على خير وجميلة إسماعيل وحسين جبيل وأنور الهوارى ومجدى شندى والسيد حسن وأسامة البهنسى وطارق الشامى ومحمد رضوان وعبدالحكيم الأسوانى ونجوى طنطاوى، وعشرات آخرون تضيق المساحة عن ذكرهم، فأرجو معذرتهم.
كان يسرى منذ السنة الأولى شاعرا، عين معيدا، ثم سافر إلى لندن للحصول على الدكتوراه لكن نداهة الإعلام سرقته، وحسنا فعلت، فمصر لا ينقصها أساتذة الجامعة، بل تحتاج إعلاميين محترفين ومحترمين. سافر كثيرا فى كل بلاد العالم، حقق نجاحات مهنية كثيرة، تعرض لحملة تشويه هائلة، واخيرا عاد إلى وطنه.
امتلك أدوات مهنته، له وجهة نظر بالتأكيد، لكن يصعب ان يضبطه أحد متلبسا بالانحياز الأعمى الذى صار «موضة» فى اعلامنا، ولذلك يحترمه خصومه قبل أصدقائه، لأنه يرهق فريق الإعداد الذى يعمل معه، يذاكر جيدا، ويحضر كثيرا.
الكلمات السابقة ليست فى مدح يسرى الزميل والصديق وهو يستحقها بالتأكيد لكنها فى الأساس موجهة لمدح يسرى النموذج الذى نفتقد أمثاله كثيرا فى الإعلام المصرى.
لا نحتاج إلى شتامين وسبابين وفتوات وهجامين ورداحين، لأننا نملك منهم الكثير للاسف، نحن نحتاج إلى أكثر من يسرى فودة فى إعلامنا الراهن. نموذج يناقش بالعقل والمنطق والمعلومة والتقرير والتحقيق الاستقصائى، وكل فنون الصحافة القديمة والحديثة بحثا عن ابلاغ الناس بالحقيقة وتنويرهم ليكون لديهم فرصة أن يعرفوا وبالتالى يقرروا.
قضيت مع يسرى نحو 45 دقيقة كانت معنوياته فى السماء، يتعافى بسرعة، ويستعد لمغادرة المستشفى خلال ساعات، تركته وتمنيت له السلامة وتأكد لى أنه لا شىء أهم من الاحترام وتذكرت مقولة «ما قيمة ان تملك كل العالم.. وتخسر نفسك».