قبل عشر سنوات تبنى المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، مشروعا بحثيا دائما لرصد العلاقة بين النظام التعليمي والعدالة الاجتماعية والتنمية في المجتمع، وتنبأت نتائج الدراسات الميدانية المستمرة حتى الآن، بما يحدث من انقسام في المجتمع المصري، استنادا إلى الطريقة التي يسير بها نظام التعليم، وتفاصيل ما يحدث يوميا داخل الفصول المدرسية خلال تلك السنوات. "الشروق" التقت الدكتورة ناهد رمزي، مديرة مشروع التعليم بمركز البحوث الاجتماعية، والتي أبدت تخوفها من الدستور الجديد، متهمة إحدى مواده ب"نسف" مجهود سنوات من العمل لمحاربة عمالة الأطفال وتسربهم من التعليم، مؤكدة في الوقت ذاته أن صناعة التعليم خلال السنوات الماضية أدت إلى الانقسامات الحادة الجارية في المجتمع الآن بين الإسلاميين وغيرهم من التيارات الأخرى، كما أشارت إلى أن تلك الانقسامات أدت إلى تغذية التصلب الفكري.. وإلى نص الحوار
- لماذا تبنى المجلس القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية قضية العدالة في التعليم؟ لأن أغلب الندوات والمؤتمرات التي عقدت، وأُنفق عليها الكثير من المال والجهد والوقت، للتوصل إلى استراتيجية لعلاج مشكلات التعليم، لم تتطرق بشكل جاد لقضية غياب العدالة الاجتماعية في التعليم. وأضافت قائلة: وتركزت أهداف المشروع في قياس مدى قدرة التعليم المصري على تحقيق العدالة والإنصاف بين المواطنين، في استفادتهم من موارد المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، ورصد العقبات التي تحول دون تحقيق هذه العدالة في التعليم قبل الجامعي، وذلك من خلال أبحاث ميدانية في كل محافظات مصر، تم التواصل خلالها مع المسئولين عن التعليم والمعلمين والمديرين، وأيضا مع الطلاب والأسر.
- وما أهم المؤشرات التي توصلتم إليها في بداية مشروعكم؟ توصل المشروع إلى أن الأطفال غير الملتحقين بالتعليم الأساسي، من عمر 6 سنوات إلى 15 سنة، يمثلون ثلاثة أضعاف الأطفال الذين ينتمون إلى أسر تعيش تحت خط الفقر، بحسب تقديرات تقارير التنمية البشرية ومعهد التخطيط القومي لأعداد هذه الأسر. وتابعت: وهذا معناه أن الفقراء يتلقون نصيبا أقل من إجمالي الإنفاق على التعليم، وأن هناك عدم عدالة في توزيع الفرص التعليمية على كل المواطنين دون تمييز، بما يعني الانتقاص من حقوق هؤلاء في الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. خطورة الأمر التي قد لا يعيها الكثيرون أن التعليم ليس منحة من الدولة تقدمها لمواطنيها المحتاجين اليها، ولكنه حق من حقوق الإنسان من المفترض أن يكفله الدستور، لأنه استثمار للمجتمع وليس للفرد فقط، ولأنه جزء من الأمن القومي، الذى يختل إذا اتسعت هذه الفجوة بين أبناء المجتمع. بداية الانقسام - وهل يعى المعلمون والمسئولون عن التعليم هذه التفاوتات؟ المعلمون ومديرو المدارس المشاركون في العملية التعليمية من مختلف المحافظات، أقروا بأنه لا يوجد توزيع عادل للفرص، بين الوجهين البحري والقبلي، وبين المحافظات المختلفة، ما أدى إلى تكدس الفصول، وتعدد الفترات، بما يعني أن ما تقدمه المدارس الحكومية من خدمات، لا يرقى إلى مستوى ما تقدمه المدارس الخاصة، وأن فرص تعليم اللغات التي يتيحها التعليم الأجنبي، وتفتح أمام الملتحقين به مستقبلا أفضل، لا يتاح للملتحقين بالتعليم العام، وأن هناك نوعا من التمييز بين البنين والبنات. وكذلك ذكر 75% من المعلمين ومديري المدارس أن للتعليم تكلفة لا تتحملها الأسر ذات الدخل المحدود، وأنها أحد أسباب التسرب من التعليم، وأيدت الأسر أيضا نفس النتيجة. واتفق مسئولو التعليم والأسر والطلاب على أن مجموعات التقوية لم تقدم حلولا جذرية، لمشكلة الدروس الخصوصية، التي ينفق عليها 75% مما تنفقه الأسرة على التعليم، وترتفع إلى 85% في الشهادات العامة، بالإضافة إلى ما ينفق على الكتب الخارجية. - وما نتيجة هذا الوضع؟ النظام التعليمي الآن منقسم إلى قسمين كبيرين، لا يمت أحدهما للآخر بصلة، الأول: تعليم خاص مرتفع التكلفة يتمتع به أبناء الفئات الميسورة، والثاني تعليم حكومي سيئ النوعية، يحظى به الأغلبية من أبناء ذوي الدخل المحدود، وهذا النوع نفسه يصبح حلما بعيد المنال، بالنسبة لأبناء الأسر الأشد فقرا، في ظل مجانية شكلية، ومصروفات مستترة، للدروس الخصوصية والمجموعات المدرسية والكتب الخارجية. والنتيجة هي أن المستقبل المهني، والحياة الأفضل، سيكون في الغالب من نصيب أبناء الأغنياء، وأملا بعيد المنال بالنسبة لأبناء الفقراء، ما يعني فقد التعليم لدوره في الصعود الاجتماعي، وتحوله إلى توريث الفقر لأبناء غير القادرين، حتى إن كانوا من الموهوبين أو النابغين. ويظهر الفرق أكثر مع الفتيات في الأسر الفقيرة، ومع أبناء القرى البعيدة عن العمران، والمحرومة من الخدمات الضرورية، حيث يقل عدد المدارس، وتنخفض كفاءة التعليم، "حتى لما بيفكروا يبعتوا حد من المدرسين يتدرب برة، ما حدش بيفكر في مدرسين الريف في الصعيد، اللي فيه أكبر نسبة أمية وتطرف". وبنبرة منفعلة تقول الدكتورة ناهد: "لما يكون واحد حاسس إنه ذكي، وبيطلع في الآخر أي حاجة، والثاني عشان بيدرس تعليم فيه لغات بيلاقي فرص أكثر ومرتبات أعلى، هاتصب النتيجة على طول في أمن المجتمع، لأن التمييز دلوقتي بدأ من الحضانة". مشكلة أخرى وضع الفريق البحثي يده عليها في غياب العدالة في التعليم، هي أن نظام التعليم لا يأخذ في اعتباره من يتركون التعليم في منتصف الطريق، وضرورة أن يسلحهم، بالمهارات التي تعينهم على الحياة. حافظ مش فاهم - هل هذا يعني أن الانقسام الحاصل الآن هو بين أصحاب الفريقين؟ هذا الوضع هو جذر الانقسام، لكن ما ينمّي الانقسامات ويعمّق التصلب الفكري بين من انتظموا في التعليم لعدة سنوات على الأقل، هي تلك التفاصيل الصغيرة في طريقة التعليم داخل الفصول، وطرق الامتحانات. وأضافت: التعليم الحالي يؤدي إلى التصلب الفكري، الذي يعوق تبني الأفكار الجديدة المفيدة وقبولها، بسبب طريقة التلقين والحفظ التي تسيطر على النظام التعليمي، وافتقاد التلاميذ لفرص الحوار وإبداء الرأي بلا قيود أو معوقات. وتكمل: الدراسة الميدانية كشفت عن غياب دور المدرسة الحكومية في اكتشاف قدرات الإبداع لدى التلاميذ وتنميتها، بسبب نقص المباني وتكدس الفصول، وإهمال النشاط الفني، لعدم توافر أدوات أو قاعات مخصصة للموسيقى، وفنون الرسم، والتمثيل المسرحي، والنشاط الثقافي، مما أثر سلبا على قدرة الطلاب على إعطاء أفكار غير تقليدية في المواقف المختلفة، وعلى تناول الموضوع بأكثر من زاوية، بشكل غير نمطي، وعلى طلاقة التعبير. "لو اتعلمنا صح ماكنش حصل اللي بيحصل ده، وكان كل واحد قدر يقبل الثاني، لأنه عارف إن الحقيقية مفيش واحد يقدر يملكها، وماكناش سمعنا إن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار". ويؤكد هذا أيضا ما قاله المسئولون عن التعليم في الدراسة من حاجة المناهج إلى ملاحقة التطورات العلمية والتكنولوجيا الحديثة. - وهل يتمثل علاج هذا الانقسام في أن يتعلم جميع التلاميذ نفس التعليم الحكومي؟ لا طبعا، لكن على الأقل نوفر تعليما جيدا في مدارس الحكومة، " زي ما كلنا اتعلمنا، مش لازم نتعلم في مدارس أجنبية فيها حمامات سباحة، ويكون فيه ضمير، ويكون ترك المعلم لحصته خيانة زي زمان، وده الموضوع اللي كان دمّل وسابوه لما بقى خرّاج صعب". وتكمل: الدراسة التي يعمل بها فريق المشروع الآن، تركز على طلاب السنتين الأولى والثانية في الجامعات، لنعرف ما هي ثغرات النظام التعليمي، في تنمية قدرات الطلاب على المعرفة بالمفاهيم الاجتماعية والسياسية، ومتابعة الأحداث، والإبداع في المواقف المختلفة. وكشفت المؤشرات الأولية لها عن أن نسبة كبيرة من الطلاب في هذه المرحلة، في عينة ممثلة لطلاب مصر في الجامعات المصرية في المحافظات المختلفة، يفتقدون إلى معرفة الكثير من الشخصيات العامة في حياتنا، سواء العلمية أو الثقافية أو السياسية، والمفاهيم العلمية، بصرف النظر عن تفوقهم، وأنهم لا يتابعون أغلب ما تنشره الصحف أو ينقل عبر نشرات الأخبار، وأن وسيلة المعرفة الأولى لديهم هي متابعة ما يُكتب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عبر الإنترنت. وتتوقف الدكتورة ناهد لتشير إلى أن هذه النتيجة تعني ضرورة أن تهتم وزارة التربية والتعليم، بتوفير الوسائل التكنولوجية المتصلة بالإنترنت، لتكون متاحة أمام جميع الطلاب بدون تمييز، لأن عدم توافرها لدى البعض سيخلق انقسامات أخرى أكثر حدة بين أبناء الجيل القادم. - وكيف ترين مواد التعليم في الدستور الجديد؟ للأسف هذه المواد تشجع الأسر الفقيرة على إخراج أطفالهم من التعليم، فهو دستور يسمح للفتاة بالزواج في سن الطفولة، قبل 18 سنة، وبالتالي تترك التعليم، كما يسمح للأطفال بالعمل في سن 15 سنة، أي يشجعهم أيضا على ترك التعليم، لتأتي مادة واحدة في الدستور لتنسف كل الجهود التي بذلت لمنع عمالة الأطفال خلال سنوات طويلة.