عبرت التظاهرة التى نظمها اتحاد النقابات المستقلة أمس أمام مجلس الوزراء عن حالة الغضب الواسعة بين العمال بسبب حالات الفصل التعسفى، التى يرون أن أصحاب الأعمال يستخدمونها كأداة لتحجيم مطالب العمال بتحسين ظروف العمل. وفى المقابل كانت تعليقات رجال الأعمال فى المؤتمرات الاقتصادية التى انعقدت بعد انتقال السلطة لرئيس منتخب، تحتج على انخفاض مستوى إنتاجية العمال وتأثير ذلك على تنافسية منتجاتهم فى الأسواق الدولية. وبين الشد والجذب من الطرفين تستمر علاقات العمل فى الاحتقان فى السوق المصرية، الأمر الذى يستلزم إعادة النظر فى سياسات التشغيل، والبحث عن طريق لسياسات جديدة تضمن فرص عمل منتجة بأجور كريمة. يعمل المصريون لساعات طويلة مقارنة ب غيرهم فى أماكن مختلفة من العالم، على عكس الاعتقاد الشائع بأن نظم العمل فى مصر متراخية، فبحسب بيانات منظمة العمل الدولية يصل متوسط ساعات العمل الأسبوعية فى مصر إلى 55 ساعة، بينما تقتصر فى أسواق ناشئة مثل ماليزيا على 46.9 ساعة، والبرازيل 41.3 ساعة، وتتفوق على دول متقدمة مثل إنجلترا التى يصل عدد ساعات العمل الأسبوعية فيها إلى 39.4 ساعة.
إلا أن الناتج النهائى الذى يخرج من ساعات العمل الطويلة تلك يعد منخفضا قياسا بالمعدلات العالمية، فحجم القيمة المضافة التى يقدمها العامل المصرى الحاصل على «مؤهل عالى» يقدرها البنك الدولى بنحو 7.308 دولار فى الأسبوع، بينما ينتج أصحاب المؤهلات المتوسطة ما قيمته 10.894 دولار أسبوعيا، أما حملة المؤهلات دون المتوسطة فينتجون ما قيمته 2.795 دولار، وهى معدلات منخفضة عن دول مثل البرازيل التى يقدم صاحب المؤهل العالى فيها قيمة مضافة أسبوعية ب16.888 دولار والمؤهلات المتوسطة ب18.599 دولار والمؤهلات الدنيا ب5.084 دولار. ويزداد الفارق فى أسواق الدول المتقدمة، حيث تصل القيمة المضافة فى بريطانيا لحملة المؤهلات الثلاثة على التوالى إلى 75.957 دولار، و88.189 دولار، و56.013 دولار.
يفضل فريق من الاقتصاديين المصريين أن يفسروا هذا الفارق فى القيمة المضافة بأن الإنتاجية تتأثر سلبا بعدم انضباط بعض العمال وميلهم للدردشة والتدخين أثناء فترات العمل الرسمية، بينما لا توجد مؤشرات كمية تؤكد صحة تلك التقديرات، إلا أنه لا خلاف بين الخبراء على مساهمة عوامل أخرى فى انخفاض إنتاجية العامل المصرى، تقع ضمن مسئوليات الحكومة وأصحاب العمل فى مصر، وليس العمال.
من أبرز تلك العوامل مستوى تكنولوجيا الإنتاج فى مصر، حيث إن «انخفاض انتاجية العامل فى مصر مقارنة بالدول المتقدمة ليس مرتبطا بالضرورة بنباهة العمال فى تلك الدول، لكن الفارق الكبير فى تقدم مستوى التكنولوجيا يجعل تلك الدول أقدر على الاستفادة من ثروتها البشرية» تقول نجلاء الأهوانى، أستاذة الاقتصاد بجامعة القاهرة. وجدير بالذكر أن نسبة الانفاق على البحث والتطوير فى مصر تقتصر على 0.2% من الناتج الإجمالى بينما تصل إلى 3.4% فى كوريا على سبيل المثال، وفقا لبيانات البنك الدولى.
هذا إلى جانب ضعف كفاءة الإدارة فى مواقع الإنتاج المصرية، الذى يتسبب فى إهدار طاقات الثروة البشرية، وهو العامل الذى يساهم فى وضع مصر بين الدول الأسوأ فى العالم فى مؤشر «كفاءة استغلال المواهب» فى تقرير التنافسية العالمى.
التعليم ليس من أولويات الدولة
مستوى التعليم قد يكون معاونا للعامل على رفع الإنتاجية إذا نجحت الحكومة فى تحسينه أو يكون مكبلا للإنتاج إذا فشلت الحكومة فى ذلك، حيث يرصد تقرير حديث لبنك كريدى سويس، صدر فى العام الجارى، نجاح دول مثل الصين وكوريا الجنوبية فى تنمية إنتاجية العمالة لديها خلال الفترة من 1980 إلى 2008، بنحو 7% و4.5% على التوالى، مقابل نمو لا يتجاوز ال2% فى مصر خلال نفس الفترة. ووضع التقرير على رأس توصياته لتحسين انتاجية العمالة تحسين مستويات التعليم والتدريب، حيث يقدر أن التعليم كان أكثر العوامل المساهمة فى كفاءة الاقتصاد الكورى، وثانى العوامل المساهمة فى كفاءة الصين بعد سياسات الادخار.
«التعليم فى مصر اهتم منذ عقود بالجانب النظرى لكى يخرج موظفين للحكومة وتطويره سيكون عاملا فارقا فى تطوير الإنتاجية» برأى هناء خير الدين، أستاذة الاقتصاد بجامعة القاهرة، وتقتصر نسبة المتخرجين فى مصر فى مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة على 18% من جملة الخريجين، بينما تتراوح النسبة المماثلة بين 30% و40% فى العديد من الأسواق الناشئة.
وترصد دراسة للمركز المصرى للدراسات الاقتصادية اتجاه الإنفاق على التعليم فى مصر للانخفاض كنسبة من الناتج الإجمالى، حيث تراجعت تلك النسبة من 4.9% عام 2003 إلى 3.8% عام 2008.
الرؤية الغائبة عن سوق العمل
والمتابع لتطورات سوق العمل فى مصر خلال العقود السابقة يلاحظ أن عملية التحرير الاقتصادى لم تراع تأهيل سوق العمل للفلسفة الاقتصادية الجديدة، الأمر الذى أثر على مستويات معيشة العمال وإنتاجيتهم بشكل سلبى، وأورث اقتصاد ما بعد ثورة يناير وضعا معقدا يحتاج للإصلاح.
فالسياسة الاقتصادية لمصر خلال الخمسينيات والستينيات توصف بأنها كانت تسعى إلى «التشغيل الكامل» من منطلق التزام الدولة بتوظيف الخريجين، وهى السياسة التى نجحت فى الحفاظ على معدل منخفض للبطالة، اقتصر على 2.2% عام 1960، إلا أن تلك السياسة دفعت الدولة آنذاك لتعيين أعداد كبيرة من العمالة بأكثر مما تحتاجه الطاقة الإنتاجية، فيما قدرته منظمة العمل الدولية ب750 ألف وظيفة فى الفترة من 1960 إلى 1967، وهو ما ينعكس سلبا على إنتاجية تلك العمالة.
ومع الاتجاه لاقتصاد السوق كان من المفترض أن تتحسن مستويات إنتاجية العمالة كما يهدف هذا النموذج الاقتصادى، إلا أن فشل سياسات التحرير فى إيجاد فرص عمل جديدة تستوعب العمالة الفائضة أجبر القطاع العام على أن يستمر فى استحواذه على نسبة كبيرة من قوة العمل، حيث يوظف حاليا نحو ربع الأيدى العاملة، وهو ما جعل سوق العمل فى الوقت الراهن يجمع بين سوءتى النظام القديم ونظام السوق، بارتفاع أعداد العمالة فى بعض القطاعات وارتفاع معدلات البطالة، التى تدور حول 10%.
ورغم أن أوضاع العاملين فى القطاع العام تتميز بمستويات أفضل نسبيا من الأجور فإن ذلك لا يعبر عن مجمل وضع العمالة فى مصر، حيث إن العاملين فى القطاع الخاص، يلتزمون بساعات عمل أطول تصل فى المتوسط إلى 58 ساعة أسبوعيا، مقابل 52 ساعة فى القطاع العام، ويحصلون على أجور أقل، حيث يصل متوسط أجور القطاع الخاص إلى 299 جنيه أسبوعيا مقارنة ب542 جنيها لعمال القطاع العام.
«كان من المفترض أن ترتبط الأجور بالإنتاجية، ولكن سوق العمل الخاص يتسم بالعشوائية، فهناك من يحصلون على أقل مما يستحقوه أو العكس» تقول الأهوانى.
وما يزيد من الضغوط على أجور العمال وفرصهم فى تحسين أوضاعهم المعيشية أن طبيعة فرص العمل بالسوق المصرية مرتفعة الطلب على العمالة الماهرة، فى قطاعات مثل القطاع المالى، مقابل انخفاض الطلب على العمالة المتوسطة المستوى، مما ينعكس فى مستويات الأجور. فخلال الفترة من 2000 إلى 2009 ارتفع نصيب أجور القطاع المالى ب12% من إجمالى الأجور، مقابل تراجع أجور العاملين فى الصناعة ب 10%، «وهو الوضع الذى ساهم فى إحداث تفاوتات كبيرة فى مستويات الأجور، وإيجاد حالة من التوتر السياسى» بحسب الاستنتاج الذى انتهت إليه دراسة للمركز المصرى للدراسات الاقتصادية.
وبغض النظر عن اختلاف مستويات الأجور فإن إجمالى نصيب العمال من ثمار النمو الاقتصادى يعد متواضعا إذا ما قورن بدول نامية أخرى، حيث يصل نصيب الأجور من الدخل الإجمالى إلى نحو 26%، مقارنة باستحواذ عمال أسواق ناشئة مثل البرازيل على نصف كعكة الاقتصاد، بنسبة 49%، ووصول تلك النسبة فى دول متقدمة مثل إنجلترا إلى 60%.
عمال بلا حقوق
تأتى حقوق العمال فى التنظيم والتفاوض مع أصحاب العمل ضمن أبرز بنود سياسات التوظيف، حيث يؤثر توافر حقوق العمل على قدرة العامل على تحسين مستوى دخله، وأكد البنك الدولى فى تقريره السنوى الأخير، الذى كان عنوانه الوظائف، على أن توفر فرص العمل اللائقة، وفقا لمعايير منظمة العمل الدولية، من أبرز التحديات التى تواجه الدول النامية لتحقيق الاستقرار والتماسك الاجتماعى.
وبالرغم من أن تشريعات العمل المصرية تضم العديد من النصوص التى تهدف لحماية حقوق العمال فإن «الدعاوى القضائية التى يقيمها العمال ضد قرارات أصحاب العمل تكشف عن إتاحة التشريعات الحالية المجال للعديد من أشكال الانتهاكات لحقوق العمال التى ينص عليها القانون» برأى خالد على المحامى الحقوقى البارز.
فبالرغم من تجريم قانون العمل للفصل التعسفى فإن هناك العديد من أشكال الضغط على العمالة، كما يوضح على، تشمل منعها من دخول موقع العمل وادعاء أن العامل تغيب 10 أيام متصلة بدون إذن، مما يتيح له فصله، هذا إلى جانب وضع العامل تحت تهديد دائم بالفصل، من خلال التعامل معه بعقود مؤقتة أو إجباره على توقيع ايصالات أمانة بمبالغ كبيرة، وفى حالة اضطرار صاحب العمل إلى توقيع عقد دائم يمارس ضغوطا على العمالة التى تطالب بحقوقها القانونية كنقلها إلى أماكن بعيد عن مكان سكنها.
«ما يسهل على أصحاب العمل فصل العمال تعسفيا هو طول أمد التقاضى أمام المحكمة، حيث تتراوح مدد التقاضى بين 6 أشهر و7 سنوات وحتى فى حالة الحصول على حكم بالعودة إلى العمل يستطيع صاحب العمل عدم تنفيذ الحكم إذا صرف للعامل تعويض شهرين من أجره عن كل سنة عمل» كما يقول على.
ويشير على إلى أنه بالرغم من أن قانون العمل يعطى للعمال الحق فى الإضراب لكى يتمكنوا من تحسين امتيازاتهم فى مواجهة صاحب العمل، فإنه يجعل له شروطا تجعله مستحيلا عمليا، حيث يربط القانون حق الإضراب بتنظيمه عن طريق النقابة، ولا يراعى القانون عدم وجود نقابات فى العديد من المنشآت، علاوة على ضرورة اخطار صاحب العمل بالإضراب قبل القيام به ب10 أيام، وهو ما يتيح لصاحب العمل ممارسة الضغوط على العمال لإفشال الإضراب.
«بصفة عامة يساهم قانون العمل الحالى فى تحويل علاقات العمل من علاقات اجتماعية إلى علاقات تجارية، يتم فيها استخدام وسائل مختلفة للضغط على العمال وتشغيلهم بأقل التكاليف الممكنة»، كما يضيف على.
كيف ينتهى الاحتقان
فى سوق العمل؟
يحذر بعض الاقتصاديين من تأثير ارتفاع أجور العمالة فى بعض الحالات على تنافسية بعض المنتجات المصرية فى الأسواق الدولية، إلا أن الأهوانى تشير إلى أنه «فى كثير من الأحيان يكون تأثير ارتفاع الرواتب على تكلفة الإنتاج محدودا إذا ما قورن بتأثير العوامل السلبية المتعلقة ببيئة الاستثمار التى على الدولة تيسيرها».
قد يختلف الأجر العادل من قطاع لآخر بحسب مستوى أرباحه، وهو ما يتطلب شفافية بيانات موازنات الشركات برأى خالد على، حتى يستطيع العمال التفاوض على أساس تلك المعلومات، «كما يجب أن تكون تلك الاتفاقات التفاوضية التى يتم التوصل إليها ملزمة لصاحب العمل، لأن هناك حالات عديدة تتراجع عن وعودها بعد توقيع الاتفاقية».