التعليم العالي تعلن مواعيد وأماكن اختبارات القدرات لطلاب الشهادات المعادلة    تراجع شبه جماعي للبورصات الخليجية بعد نتائج أرباح أضعف من التوقعات    مسئولون أمريكيون: ترامب متحمس للقاء بوتين وجهًا لوجه    بعد تغريدة محمد صلاح عن وفاة سليمان العبيد، تحرك جديد من "يويفا" تجاه أطفال غزة    صافرة مصرية تدير مباراة أنجولا والكونغو في أمم إفريقيا للمحليين    أفقدها عذريتها، إحالة ميكانيكي للمحاكمة بتهمة الاعتداء جنسيا على ابنة خاله بالحوامدية    ضبط المتهم بحرق محل زوجة والده فى الطالبية    وفاء عامر: أشجع على الطلاق وإنهاء الحياة الزوجية في هذه الحالة    مساعد وزير الصحة ومحافظ الأقصر يتابعان معدلات الإنجاز وتطوير المشروعات الصحية بالمحافظة    «يصلهم الفُتات».. إسرائيل تبني مجاعة غزة على أوجاع البطون الخاوية    انتشار حرائق الغابات بجنوب أوروبا.. وفاة رجل إطفاء وتضرر منازل ومصانع    الصحة تستكمل المرحلة الرابعة من تدريب العاملين بمطار القاهرة على أجهزة إزالة الرجفان القلبي (AED)    باستثمارات 100 مليون.. محافظ المنوفية يفتتح مدرسة الروضة الخاصة بكفر الخضرة    رئيس الوزراء يؤدي صلاة الجنازة على الدكتور علي المصيلحي بمسجد الشرطة    روبيو: لا أفق للسلام في غزة مع بقاء حماس في السلطة    بريطانيا وفرنسا وألمانيا يهددون بإعادة فرض عقوبات على إيران    إلغاء جلسة لجنة الخارجية والأمن بالكنيست لعدم توفر أغلبية للمصادقة على تمديد أوامر استدعاء الاحتياط    التنمية المحلية: مسار العائلة المقدسة من أهم المشروعات التراثية والدينية    الداخلية الكويتية: جميع جنسيات العالم مرحب بها في البلاد باستثناء «جنسية الاحتلال»    أتالانتا يقدم عرضًا ب40 مليون يورو لضم رودريجو مونيز من فولهام    موراتا: متحمس لبدء مشواري مع كومو    مصر تحرز ذهبية تتابع السيدات ببطولة العالم للخماسي الحديث تحت 15 عامًا    بالمواعيد.. تعرف على مباريات ربع نهائي بطولة العالم لليد تحت 19 عامًا    وزير الرياضة يهنئ منتخب السلة بالفوز على مالي في افتتاحية بطولة الأفروباسكت    تفاصيل توقيع بنك القاهرة وجهاز تنمية المشروعات عقدين ب 500 مليون جنيه لتمويل المشروعات متناهية الصغر.. صور    الغرف التجارية: تخفيضات الأوكازيون الصيفي تصل إلى 50%    حبس البلوجر «البرنسيسة نوجا» بعد قرار الإفراج عنها لعدم قدرتها على دفع الكفالة (تفاصيل)    محافظ الفيوم يبحث تطوير منظومة المتابعة والتقييم للمشروعات بالتعاون مع التنمية المحلية    «شرم الشيخ للمسرح» يعلن تفاصيل مسابقة عصام السيد في دورته العاشرة    ثنائي العود يحيي أمسية في حب فيروز وزياد الرحباني بقصر الأمير طاز    عمرو يوسف يوضح حقيقة تشابه فيلم «درويش» مع مسلسل «جراند أوتيل» |فيديو    تفاصيل أول مشروع ل راغب علامة بعد حل أزمته مع نقابة الموسيقيين    هذه الأبراج دائما مشغولة ولا تنجز شيئا ..هل أنت واحد منهم؟    المخططات الإسرائيلية للهجوم على غزة بين الموافقة والتمدد    محافظ شمال سيناء يبحث استدامة خدمات مياه الشرب بالمدن والقرى    رئيس الوزراء: "مصر لن تغفل حقها في مياه نهر النيل فهي مسألة حياة للمصريين"    محافظ المنوفية يفاجئ مكتب صحة الباجور للتأكد من انتظام سير العمل    افتتاح وحدة العلاج الإشعاعي بمستشفى الأورام الجامعي في المنيا    "تراجع المستعمل لا يتوقف".. بيجو 301 موديل 2020 ب570 ألف جنيه    مفتي القدس: مصر تسعى جاهدة لتوحيد الصفوف وخدمة القضية الفلسطينية والوصول بها إلى برِّ الأمان    3 أيام من البحث.. انتشال جثة مندوب أدوية غرق بعد انقلاب سيارته في ترعة بسوهاج    في أقل من 24 ساعة.. الأمن يضبط 3 متهمين بسرقة هاتف طالب بالإكراه في الجيزة    مجلس الوزراء يوافق على إعفاء سيارات ذوى الإعاقة من الضريبة الجمركية    "خايف عليك من جهنم".. مسن يوجه رسالة مؤثرة لشقيقه من أمام الكعبة (فيديو)    كيف نخرج الدنيا من قلوبنا؟.. علي جمعة يضع روشتة ربانية للنجاة والثبات على الحق    بشروط صارمة.. «الإدارة الروحية الإسلامية» بروسيا يُجيز استخدام حقن «البوتوكس»    أوقاف سوهاج تختتم فعاليات الأسبوع الثقافى بمسجد الحق    «أتعرض لحملة تشويه».. الشناوي يوجه رسالة حادة ل مسؤول الأهلي (إعلامي يكشف)    رئيس الوزراء يوجه الوزراء المعنيين بتكثيف الجهود لتنفيذ الوثائق التي تم توقيعها بين مصر والأردن وترجمتها إلى خطط وبرامج على الأرض سعياً لتوطيد أطر التعاون بين البلدين    رغم انخفاض الأمطار وسد النهضة.. خبير يزف بشرى بأن مياه السد العالي    شروط تقليل الاغتراب لأبناء مطروح الناجحين فى الثانوية العامة    رئيس منطقة سوهاج الأزهرية يتفقد اختبارات الدارسين الخاتمين برواق القرآن    وزير التعليم يكرم الطلاب أوائل مدارس النيل المصرية الدولية    وزير الخارجية يبحث مع نظيره السعودي تطورات الأوضاع في غزة    الصحة: حريق محدود دون إصابات بمستشفى حلوان العام    غدًا آخر فرصة لحجز شقق الإسكان الأخضر 2025 ضمن الطرح الثاني ل«سكن لكل المصريين 7» (تفاصيل)    أرباح تصل إلى 50 ألف دولار للحفلة.. تفاصيل من ملف قضية سارة خليفة (نص الاعترافات)    كسر خط صرف صحي أثناء أعمال إنشاء مترو الإسكندرية | صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من وقائع الفرص الضائعة: مصر وصندوق النقد الدولى
نشر في الشروق الجديد يوم 05 - 09 - 2012

من مآثر ثورة 25 يناير 2011 هو ذلك الاهتمام المتزايد من المصريين، على اختلاف طوائفهم، بالمسائل الاقتصادية بعد أن كانت لا تتعدى متابعة الأسعار والأسواق، ولم تعد موضوعات فنية معقدة مثل علاقة مصر بصندوق النقد الدولى استثناء لهذه القاعدة، وفى كل مرة تعلن الحكومة عن نيتها فى الاقتراض من الصندوق حتى يحتدم النقاش، ويدور حوار وطنى بين مؤيد ومعارض.

هذا ما حدث فى الأسبوع الماضى حينما جاءت مديرة الصندوق على رأس بعثة بدعوة من الحكومة المصرية لتجديد طلب قرض من المؤسسة المالية مع ارتفاع قيمة القرض من 3.2 مليار دولار إلى 4.8 مليار دولار نظرا لتفاقم الأزمة المالية، وصرح رئيس الوزراء ووزير المالية بأن مصر تقدمت ببرنامج للإصلاح المالى والاقتصادى، وأن السياسة المالية هى شأن داخلى، لكنه أضاف فى تصريح للتليفزيون المصرى بعد الاجتماع مع كريستين لاجارد أن «القرض شر لابد منه»، وصرحت مديرة الصندوق ردا على سؤال لجريدة «الشروق» فى مؤتمر صحفى يوم 22 أغسطس بأنه «سيكون هناك برنامج إصلاح مالى واقتصادى على المدى القصير والآخر على المدى الطويل، وستتم مراقبة الموازنة العامة للدولة على فترات مختلفة لرصد عملية إصلاح تلك الموازنة».

جاءت ردود الأفعال بين مؤيد ومعارض، المؤيدون يشيرون إلى ضرورة الاقتراض لسد عجز الموازنة الذى بلغ هذا العام 135 مليار جنيه (أى 7.6٪ من الناتج المحلى الإجمالى)، ونظرا لتراجع نمو الاقتصاد (حيث يصل معدل النمو إلى 1.9٪ فقط) وتباطؤ المعونات والاستثمارات الخارجية. وفى المقابل نظمت بعض الحركات الثورية، خاصة اليسار، تظاهرة أمام مجلس الوزراء ودعت إلى تظاهرات يوم الجمعة 31 أغسطس بميدان طلعت حرب بالقاهرة وميدان القائد إبراهيم بالإسكندرية، وتتلخص مخاوف المتظاهرين فى فقدان مصر لاستقلالها الاقتصادى وتكبيلها بالديون الخارجية، وذلك مع ظهور تيار جديد يرى أن دفع الفوائد على الديون هو نوع من الربا الذى يحرمه الإسلام.

فى وسط هذا الخضم جاءنى صوت «الفلاح الفصيح» من دهشور، وهو متابع جيد للأحداث، ولديه فراسة يحسده عليها الكثيرون من أهل القاهرة، وقال لى إن الأمور اختلطت عليه فهو على ما يذكر أننى تقدمت بطلب لمثل هذا القرض عندما كنت وزيرا للمالية ولكنه رفض، ونحن نأتى اليوم بعد 15 شهرا لنطلب قرضا أكبر، فلماذا كان تضييع كل هذا الوقت؟ ألم نكن نحن المستفيدون إذا حصلنا على هذا القرض واستثمرناه فى إعادة دوران عجلة الإنتاج؟

•••

من هذا المنطلق، وفى غياب المعلومات الكافية، رأيت أنه قد يكون من المفيد أن نرجع إلى التجربة التى خضناها فى 2011 حتى لا تغيب الحقائق وحتى نضع علاقة مصر بالصندوق فى إطارها الصحيح بعيدا عن المهاترات والمزايدات، وابتغاء للخروج بالاقتصاد المصرى من أزمته الحالية. إن أهم ما يهدد الحوار الوطنى هو اختزال الأمور، فنحن نختزل موضوع الأجور مثلا فى تحديد الحد الأدنى والحد الأقصى دون التنبه إلى أن القضية أشمل من ذلك لأن المطلوب هو إصلاح هيكل الأجور برفق. كذلك يتم اختزال قضية القرض فى هل تذهب إلى الصندوق أم لا نذهب، فى حين أن المسألة أشمل من ذلك إذ إن التحدى هو تمويل النمو الذى يحقق التشغيل وتدبير مصادر هذا التمويل سواء من الصندوق أو غيره. من هنا فإن العرض السريع لتجربة 2011 قد يلقى الضوء على كيفية صياغة السياسات العامة على أساس مدروس مما يساهم فى ترشيد الحوار الوطنى واضفاء نوع من العقلانية على النقاش المحتدم الآن.

•••

جئت إلى وزارة المالية بعد أسبوع من اندلاع ثورة 25 يناير، ومنذ اليوم الأول اتضحت جسامة المركز المالى للبلاد. فمن ناحية بدأت السياحة (التى كانت تدر مليار دولار شهريا) فى التوقف، وتراجعت الاستثمارات الأجنبية، وبدأت المصانع فى التعطل عن العمل، وزادت صعوبات التصدير. وفى المقابل كانت هناك التزامات دفع الرواتب والمعاشات وتدبير الواردات من القمح والوقود، ومواجهة ما كان يسمى بالمطالبات الفئوية. وعلى الفور تم إعداد تصور للمطالب الضرورية والمتسارعة وكيفية تدبير التمويل اللازم لها دون اللجوء إلى زيادة عجز الموازنة العامة. كما أصدر رئيس الوزراء قرارا بتشكيل «اللجنة الوزارية للمتابعة» برئاسة وزير المالية وعضوية الوزراء المعنيين بالشئون الاقتصادية والاجتماعية لرسم وتنفيذ السياسات اللازمة لمواجهة الموقف. وقد اعتمدت اللجنة خطة على مستويين، الأول: مواجهة المطالب العاجلة، والثانى: رسم خطط متوسطة الأجل لإعادة عجلة الإنتاج للدوران، ولقد نجحت هذه اللجنة فى إدارة الأزمات فى الشهور الأولى للثورة، وساهمت مساهمة فعالة فى تخفيف الاحتقان الناجم عن «ثورة التطلعات» لدى قطاعات كبيرة من الشعب مادام تم حرمانها من ثمار النمو السريع فى العقد السابق، وكذلك توفير الاحتياجات الأساسية خاصة الخبز والبوتاجاز، مع عدم إغفال التحدى الرئيسى، وهو عودة الاقتصاد للعمل، وكان من أنبل قرارات هذه اللجنة إقرار معاش استثنائى يعادل 1500 جنيه شهريا وهو أعلى معاش فى الدولة لأسر الشهداء، وكذلك إنشاء صندوق لتعويض أصحاب المحال والمركبات التى تحطمت فى الأحداث التى واكبت الثورة.

بدأت الأمور تتضح فى شهرى مارس وأبريل باستمرار حالة الطوارئ، وتزايد المطالبات الفئوية وارتفاع صوت المتعطلين، وكان لابد من رسم سياسة مالية وسياسة نقدية لمواجهة هذا الموقف مع الحفاظ على الثوابت الرئيسية لهذه السياسات وخاصة عدم تفاقم عجز الموازنة العامة، الحفاظ على سعر صرف الجنيه والسيطرة على تضخم الأسعار، ومما سهل مهمة مواجهة هذه التحديات هو التوافق بين السياسة المالية (ممثلة فى وزارة المالية) والسياسة النقدية (ممثلة فى البنك المركزى)، وكان للدكتور فاروق العقدة المحافظ الموهوب للبنك المركزى) مقولة يرددها وهى أن هذه هى المرة الأولى التى يحدث فيها هذا التوافق، وهذا التناغم بين وزير المالية ومحافظ البنك المركزى!

•••

كان علينا إذن أن نبلور هذه السياسات عند إعداد الموازنة العامة للدولة للعام 2011/2012، واضعين فى الاعتبار المتغيرات التاريخية التى فجرتها ثورة 25 يناير، وتم تحديد هدفين أساسيين للموازنة: أولا: الاستجابة للمطالب العادلة للأغلبية العظمى من العاملين عن طريق استخدام الموازنة العامة كأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية التى كانت مطلبا أساسيا من مطالب الثورة عيش، حرية، عدالة اجتماعية، وذلك أسوة بتجربة أمريكا اللاتينية بعد سقوط الحكومات العسكرية الدكتاتورية هناك. ثانيا: تحفيز الاقتصاد المصرى لاستعادة عافيته وذلك عن طريق ضخ استثمارات عامة فى البنية الأساسية والتعليم والصحة والإسكان، مسترشدين فى ذلك بتجربة ما بعد الكساد الكبير فى أمريكا وأوروبا (1929 1932) والأزمة الآسيوية (1997 1998) والأزمة المالية العالمية (2008).

كان من أهم ملامح هذه الموازنة على جانب الإنفاق إقرار علاوة 15٪ لأصحاب الرواتب والمعاشات (نحو 15 مليون رب أسرة)، إقرار الحد الأدنى للأجور ب700 جنيه وضخ 40 مليار جنيه استثمارات عامة فى التعليم والصحة والإسكان الاجتماعى والبنية الأساسية خاصة فى الزراعة، وعلى جانب الإيرادات تم استحداث شريحة جديدة للضرائب على الدخل قدرها 25٪ على ما زاد على 10 ملايين جنيه. كانت الموازنة توسعية، وبلغ العجز المتوقع فيها نحو 12٪ من الناتج القومى الإجمالى، ولكن كانت هناك خطة لزيادة الموارد (عن طريق الإصلاح الضريبى) وتخفيض النفقات (عن طريق وقف الهدر فى الإنفاق على الدعم وخاصة دعم الطاقة الذى يذهب 90٪ منه إلى 20٪ فقط من مرتفعى الدخل).

وافق مجلس الوزراء على هذه الموازنة التوسعية، ولكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة (الذى كان مصدر التشريع فى غياب البرلمان) اعترض بشدة على هذه الموازنة تخوفا من العجز الكبير، وطالب بإعداد موازنة أقل طموحا، أو حتى العمل بموازنة العام السابق! وقد بذل موظفو المالية جهودا خارقة لإعداد تلك الموازنة فى فترة قياسية وقد وافق عليها مجلس الوزراء بعد أربع جلسات عاصفة هدد خلالها بعض الوزراء بالاستقالة نظرا لقصور الموازنة عن تلبية احتياجات الشعب خاصة فى التعليم والصحة والإسكان، بل وذهب بعض الوزراء عن حق بأن هذه الموازنة ترسل للمصريين رسالة خطيرة وهى «أن شيئا لم يتغير»، لكن كان هناك إجماع على دعم موقف وزير المالية.

•••

كان التحدى التالى هو تقدير الفجوة المالية وكيفية تمويلها، جاءت الموازنة المعدلة بحجم مصروفات يصل إلى 476.3 مليار جنيه، وإيرادات تقدر ب349.6 مليار جنيه، وعجز كلى يصل إلى 120.1 مليار، أى 7.9 من الناتج القومى الإجمالى، وكان السؤال هو: كيف يمكن تغطية هذا العجز؟ كان المنطقى والذى نادى به ما يسمون بالخبراء أن نتجه إلى تقليص الإنفاق، ومن الصحيح أن هناك هدرا غير قليل فى الانفاق العام، كذلك فإن دولا أكثر ثراء فى الاتحاد الأوروبى كانت تتجه إلى برامج تقشفية بتخفيض الرواتب والمعاشات. هل كان هذا ممكنا فى مصر فى 2011؟ الإجابة بالنفى، حيث إن أى برنامج تقشفى سوف يقع بالضرورة على الفئات الضعيفة، وهو ما يزيد درجة الاحتقان، كذلك فإن الموازنة تتسم بعدم المرونة حيث إن ربع الانفاق يذهب للأجور، وربع للدعم، وربع لخدمة الدين، ولا يبقى سوى ربع فقط للانفاق على الصحة والتعليم والإسكان والثقافة. الطريقة الفعالة لتخفيض النفقات كانت فى تخفيض الدعم الذى يصل إلى 130 مليار جنيه، منها 95.5 مليار للوقود فى حين يصل نصيب دعم الخبز والسلع الأساسية 20 مليار جنيه فقط، وقد تم إعداد خطة لقصر الدعم على مستحقيه، لكنها تحتاج إلى وقت طويل وحكمة فى عدم الإضرار بالطبقات الفقيرة.

هل كان يمكن زيادة الموارد فى الحال؟ الإجابة أيضا بالنفى لأن الاقتصاد كان ينزف بمعدل 40 مليار جنيه (3٪ من الناتج القومى) والإصلاح الضريبى يتطلب بعض الوقت باستثناء الضريبة التصاعدية التى تم تطبيقها بما لا يخنق القطاع الخاص.

وكان السؤال الثانى: هل يمكن تمويل الفجوة من المدخرات المحلية؟ والإجابة نعم فى حدود ضيقة. لقد بلغ معدل الادخار والاستثمار 15٪ من الدخل القومى (المفروض أن يكون 23 25٪)، كذلك فإن الاقتراض الداخلى قد وصل إلى حدود خطيرة، حيث وصل الدين الداخلى إلى 895 مليار جنيه (58.4٪ من الدخل القومى) من إجمالى الدين الذى بلغ 1.1 تريليون جنيه.

وفى ظل هذه الظروف تم تقدير الفجوة التمويلية المطلوبة من الخارج بما يتراوح ما بين 10 و12 مليار دولار. وكان تقدير وزارة المالية والبنك المركزى أنه يمكن تدبير ذلك بالمعونات العربية والأجنبية إلى جانب قرض من البنك الدولى (2.2 مليار دولار) وصندوق النقد الدولى (3.2 مليار دولار). وبدأنا فى تنفيذ هذه الاستراتيجية.

•••

كان موقف العالم من مصر بعد ثورة الربيع العربى أكثر من مشجع، بدأت القيادات الدولية تحج إلى ميدان التحرير ولنا على مدى الأسبوع، الكل يريد أن يساعد فى إنجاح التحول الديمقراطى فى مصر باعتبارها الركيزة فى المنطقة العربية، والجميع جاهز بخطط استثمارية طموحة، وقد وصل التعبير عن هذا الدعم ذروته حينما دعيت مصر وتونس إلى قمة الثمانين فى مدينة دوفيل بفرنسا، وكان استقبالا رائعا للدكتور عصام شرف ووزير ماليته من قادة الدول الغنية، وتم توزيع تقرير مصرى بعنوان «مصر: الطريق إلى الأمام» تمت دراسته بعناية من سكرتارية المؤتمر، وبعد أن ألقى الدكتور/ عصام شرف كلمة مصر طلب الرئيس أوباما فرصة ينفرد فيها بالحديث معنا، وقال: «نحن نتابع ما يحدث فى مصر.. نحن معكم.. ليس من حقكم الفشل». وانتهى المؤتمر بتخصيص 20 مليار دولار معونة لدول الربيع العربى. وعدنا إلى مصر تحدونا الآمال العريضة، ولكن تأرجح عملية التحول السياسى أدت إلى تغيير ملحوظ فى مواقف هذه الدول التى فضلت أن تنتظر لحين وجود استقرار سياسى.

وكان من الطبيعى أن نطرق باب الأشقاء فى دول الخليج الذين قابلونا بترحاب شديد وقررت السعودية خدمة بمقدار 3.750 مليار دولار والإمارات 3 مليارات دولار، وقطر 10 مليارات دولار، ووعود طيبة من الكويت. لكن ما جاء بالفعل حتى آخر عام 2011 كان 500 مليون من السعودية.

•••

فى ظل هذه الظروف كان القرض من البنك والصندوق الدوليين أكثر واقعية وأكثر إغراء إذ إن سعر الفائدة كان 1.5٪ فقط يحسب على ما يتم استخدامه فقط، مع فترة سماح 36 شهرا والسداد على 20 عاما، وقد تم استقبال الوفد الاقتصادى المصرى المؤلف من محافظ البنك المركزى، وزيرة التعاون الدولى ووزير المالية استقبالا حافلا، وتمت الموافقة المبدئية على القروض بلا شروط تقليدية، وكان ذلك فى أبريل 2011 . وجاءت بعثة الصندوق إلى مصر وعملت مع مجموعة من خيرة الخبراء المصريين من المالية والبنك المركزى والتخطيط، وكان الصندوق سعيدا بأن البرنامج المقدم هو برنامج مصرى 100٪، وأجرينا ستة حوارات مجتمعية فى حضور البنك والصندوق كان التعبير فيها بين الرفض والقبول. كانت صورة الصندوق ورفضه تمويل السد العالى فى عام 1956 وكذلك كأداة لخدمة الدول المتقدمة مازالت حاضرة فى الأذهان، كذلك كانت هناك نزعة رومانسية بأن مصر يجب أن تعتمد على الذات. وتم عرض كل ذلك على مجلس الوزراء مع توزيع نص الاتفاق مع البنك والصندوق وتمت الموافقة وعقد مؤتمر صحفى مع ممثلة الصندوق للإعلان عن التوصل لاتفاق الاقتراض بمبلغ 3.2 مليار دولار، وكان ذلك فى 6 يونيو 2011. جاءت الخطوة الأخيرة وهى موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على القرض باعتباره اتفاقية دولية، وتم رفض القرض! وكان السبب الذى أبداه المشير طنطاوى أنه «لا يود أن يترك إرثا من الديون لمن يأتى بعده».

وقد حاولت أن أشرح أسباب اللجوء إلى قرض الصندوق لإنقاذ الاقتصاد المصرى من حالة الكساد التى بدأت تتهدده، وفى هذا السياق قدمت الحجج الآتية:

أولا: إن التمويل الداخلى أصبح أكثر صعوبة لتناقص السيولة فى الجهاز المصرفى، ولارتفاع تكاليف الاقتراض حيث وصل سعر الفائدة المطلوب على أذون الخزانة 14٪ بل و16٪، كما أن توسع الحكومة فى الاقتراض بات يهدد القطاع الخاص بتجفيف مصادر التمويل من الجهاز المصرفى.

ثانيا: أن مصر عضو فى صندوق النقد الدولى منذ إنشائه، حيث أصبحت مصر عضوا فى 24 ديسمبر عام 1945، وبذلك فلها الحق فى اقتراض ضعف حصتها التى تبلغ 1.5 مليار دولار، كما أن لها الحق فى أن تقترض ما يصل إلى 9 مليارات دولار فى حالة الطوارئ مثل ما تمر به مصر.

ثالثا: إن دعم الأشقاء العرب قد يأخذ وقتا لأنهم يريدون الاطمئنان على الحكومة المقبلة، وهم حريصون على أن توقع مصر الاتفاق مع الصندوق لأن هذا يطمئنهم على أن السياسات المالية والاقتصادية فى مصر تسير فى الطريق الصحيح.

رابعا: إن البنك والصندوق الدوليين قد تغيرا جذريا عن الستينيات والسبعينيات، فقد باتوا مهددين بانصراف الدول النامية عنهم فى ظل توافر التحويل فى أسواق المال الدولية بلا شروط، والأهم من هذا وذاك بروز الصين وآسيا كلاعبين أساسيين على المستوى الدولى، فدول الجنوب تستحوذ على 6.8 تريليون دولار من الاحتياطات الدولية (مقابل 3.5 تريليون للدول الصناعية)، كما ارتفع نصيبهم من التجارة الدولية من 22٪ عام 1965 إلى 42٪ فى 2010، وهذه القوى الصاعدة تطالب بإصلاح نظام الحكومة فى البنك والصندوق. وفى النهاية فإن المحك الرئيسى هو وجود برنامج مصرى 100٪ صاغه خبراء لا يقلون عن خبراء البنك والصندوق.

رغم كل هذه الأسباب قوبل موضوع القرض بالرفض من المجلس الأعلى، وحدثت أشياء غريبة مثل خروج وزيرة التعاون الدولى التى وقعت طلب القرض من البنك لتقول إن القرض يتنافى مع الكرامة الوطنية! عندها أحسست أن بناء الأوطان لا يمكن أن يتم بهذه الطريقة، وأن رؤيتى للاقتصاد المصرى لن تتحقق على الأقل فى ظل هذه الإدارة.

•••

ويأتى «الفلاح الفصيح» ليعاتبنى: لقد رفضتم القرض وأنتم الآن تعودون بعد ضياع الوقت وفى ظل ظروف أكثر قسوة وشروط أكثر حدة كأن يطلبوا تخفيض قيمة الجنيه. وأقول له: على ما يبدو يا صديقى أننا لا نفوت فرصة لإضاعة القرض، لقد نزف الاقتصاد المصرى 21 مليار دولار خلال الخمسة عشر شهرا الماضية نتيجة ضياع الفرصة لإعادة الاقتصاد للعمل منذ أبريل 2011.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.