صاحب نظريات فى العلوم الاجتماعية خاصة فى فلسفة الزمن ناضل لتمصير الحركة الشيوعية وتخليصها من العنصر اليهودىالأجيال الحالية والتى عاشت المشهد السياسى والثقافى الفكرى منذ مطالع السبعينيات حتى اللحظة الراهنة، لم يعرفوا الراحل الكبير أنور عبد الملك سوى من خلال كتاباته السياسية فى الأهرام، والتى كان يتابع من خلالها متابعاته البانورامية لأحوال العالم السياسة، والتحولات التى تطرأ على الظواهر الفكرية، ولو حاول البعض التعمق فى المعنى الذى ينطوى عليه عبدالملك، سيتعرف على مفكر كبير من طراز خاص جدا، تتجاوز قامته مفكرين غربيين فى علوم السياسة والاجتماع المعاصر، وهذا بفضل مؤلفاته المكتوبة باللغات إنجليزية وفرنسية، ثم ترجمت إلى معظم لغات الكون الحية، ووصلت إلى جميع بقاع الأرض فعلت تأثيرها البالغ فى أجيال متعددة.شعبان يوسف أعد كثيرون أن عبدالملك رجل صاحب نظريات فى العلوم الاجتماعية، وخاصة فى فلسفة الزمن، ويعد كتابه (الجدلية الاجتماعية) هو أحد المرجعيات الرئيسية فى تنظيره للزمن الاجتماعى إذا صحت الترجمة، بالإضافة طبعا لكتبه (نهضة مصر وريح الشرق وتغيير العالم والفكر ورجل الشارع ودور الجيش فى السسة) وغيرها من كتب ذات تأثير وانتشار واسعين، وبالتأكيد سيعرف القارئ الشغوف بمسيرة أنور عبد الملك أنه كان مرتبطا فى مرحلة من مراحل عمره بالنضال اليسارى، وكان له دور كبير فى هذا المجال، وأنه اعتقل فى نهاية الأربعينيات مع سلامة موسى ومحمد مندور وإدوار الخراط ومحمد زكى عبدالقادر وآخرين، وأنه ناضل من أجل تمصير الحركة الشيوعية المصرية وتخليصها من العنصر اليهودى، والذى كان يعرف أنور عبدالملك، سيكتشف مدى القلق الذى كان يساوره من الصهاينة، وكان يعتقد أنهم يترصدون له فى كل مكان.
هذه الخلاصة هى التى تتوافر فى المادة المحيطة بالدكتور أنور عبدالملك بغزارة، ولكن هناك مادة ليست متوارية فقط، بل إنها شبه منزوعة تماما من تاريخه وهى المادة الأدبية والفنية، ومن الطبيعى سيعرف قارئ كتابات عبدالملك أن له خلفية ثقافية أدبية وفنية تتسلل هنا وهناك فى ما يكتب، لكن هذا القارئ لن يعرف أن عبدالملك كان فى يوم من الأيام محررا فنيا لمجلة الإذاعة، وله فيها عشرات المقالات التى تتابع الحياة الفنية المصرية بشكل محدود، ولكنه كان يكتب بغزارة فى السينما والموسيقى العالمية، وله دراسة رائعة حول فيلم (حسن ونعيمة) وعدا ما كان يكتبه فى مجلة الإذاعة، كان يكتب فى عدد من الدوريات الصحفية والثقافية والأدبية الأخرى، وكان له باب شبه ثابت فى جريدة المساء عندما كان رئيس تحريرها خالد محيى الدين تحت عنوان (ثقافة العالم بين يديك ) يقدم فيه وجبة من الثقافة العالمية، وخاصة ما ينشر باللغة الفرنسية، وعلى سبيل المثال ففى العدد الصادر فى 15 مايو 1957 يقدم فى هذا الباب مادة غزيرة عن بعض إصدارات عالمية، فمن فرنسا يقدم كتاب (مشكلات الاشتركية المعاصرة) ثم من الصين يقدم ويعرض للنهضة الثقافية هناك.
ويكتب عن رواية الكاتب الفرنسى فيليب هيريا وهى رواية (الحائط الذهبى) والتى تروى كما يكتب عبدالملك لنا قصة شابة من أسرة برجوازية محافظة تكافح من أجل حقها فى الحب والسعادة، إنها تكتشف الحب، وتكتشف أيضا أن الاعتبارات المالية والاجتماعية تطغى على أصالة المشاعر الانسانية فى نظر الأسر الثرية، إنها تخضع وتعتكف وتركز اهتمامها على تربية ابنها من عشيقها، ويسترسل عبدالملك فى قراءته للنص بشكل أدبى ممتاز، وفى ذات العدد ينقل عبدالملك رأيا للشاعر العراقى الجواهرى من مجلة (الثقافة الوطنية ) يقول فيه: (إن الانفعال السريع لا يعطى الشعر الذى نريده، فالشعر يحتاج الى اختمار حتى يطلع مفعما بالتجربة، معبرا عن الأحداث بعمق وصدق وأصالة وجمال) ويسترسل عبدالملك فى تقديم بانوراما ثقافية من شتى أنحاء الدنيا، ولم يكن يكتف بهذا النوع من الكتابة فى الجريدة، بل أنه كان يترجم بعض الآثار الأدبية التى تروق لذوقه، مثل قصة (ويسكى جلالة الملكة) لمارتين مونو، وهى كاتبة فرنسية تقدمية وكانت كاتبة مرموقة فى ذلك الوقت، ويقدم عبدالملك القصة بكلمة يقول فيها: عالم غريب بشع، عالم يسوده المال والغدر، والتآمر على شرف الناس والبطش بسعادتهم، عالم أسود لا يعرف للقيم مكانة ولا للحب، ومن خلال هذا العالم ينبثق حب كبير من أرض الأمل، ويتطلع إلى المستقبل، وينكشف العالم الجديد بعيون جديدة ويستطرد هذه القصة فرضت نفسها على على جمهور القراء والنقاد فى العالم أجمع، وحازت جائزة «فينيون» التى تمنح لأحسن قصة من تأليف كاتب ناشئ فى باريس 1954، وهى قصة لم تفرض نفسها بالدعاية ولا بالهتاف ولا باليفط ولكن بالمضمون الممتاز. إنها قصة الحب المظفر عبر الموت، والأمل المنتصر رغم الحروب، والإنسان المضىء السعيد رغم الدماء والحديد) وهكذا كان عبدالملك يمد هذه الجريدة الوليدة اليسارية بعطاء ثقافى غزير.
وبالطبع لم تكن جهود عبد الملك الأدبية والثقافية تخضع لاحتكار جريدة أو مجلة بعينها، ولكنه راح يكتب فى معظم المساحات المحترمة المتاحة له، وبالتالى كانت هذه المجلات الرصينة ترحب بكتاباته بشكل كبير، ولو تابعناه فقط فى مجلتى (الرسالة الجديدة، والمجلة) لخرجنا بمحصول وافر لإنتاج عبدالملك، ففى مجلة (المجلة) مثلا نقرأ له متابعات وقراءات وتحليلات نقدية كثيرة، بالإضافة إلى ملفات ذات أهمية بالغة، ويصلح حتى الآن إعادة نشرها، مثل سلسلة مقالات كتبها للمجلة للتعريف بالأدب الجزائرى المكتوب بالفرنسية، وأظنه كان التعريف الأول والاشمل والأكثر دراية فى ذلك الوقت، وكان ما زال هذا الأدب مجهولا تماما على المستوى المصرى والعربى على السواء، وكانت أولى هذه المقالات فى العدد الثامن الصادر فى أغسطس عام 1957، تحت عنوان (أضواء على أدب الجزائر (1) محمد ديب) ويستهله عبدالملك قائلا: (فى الجزائر اليوم، وفى قلب المعركة التحريرية الكبرى، نهضة أدبية تلعب دورا مهما فى الحركة الوطنية الجزائرية، وفى إثارة الرأى العام العالمى ووعيه لفهم حقيقة هذا الشعب الشقيق الباسل الذى يأبى إلا أن يحيا حياة حرة مستقلة) ثم (إن معالم هذا الأدب الجزائرى المعاصر تحجبها عنا أنباء الدماء من ناحية، ودعاية الاستعمار المغرضة من ناحية أخرى، ولابد لنا، فى مطلع هذا المقال أن نبرز ما للأدب الجزائرى المعاصر من خصائص مميزة تكون مزيدة فى مجال الآداب المعاصرة) وبالطبع يشير إلى الفروق التى ينطوى عليه الأدب الجزائرى المكتوب بالفرنسية، وإلى الأدباء الفرنسيين العاطفين على قضية الجزائر، مثل ألبير كامو وعمانويل روبليس وكل الكتاب الفرنسيين الذين رأوا فى الجزائر مادة خصبة للأدب الغريب الشاذ بتعبير عبدالملك، ودون استطرادات كثيرة سنلاحظ أن عبدالملك يقدم ثلاثة من الكتاب الجزائريين الكبار فى هذه السلسلة من المقالات بشكل موسع وهم محمد ديب ومولود معمرى ومولود فرعون، وكان من الشائع أن طه حسين هو الوحيد الذى كتب عن مولود المعمرى، ولكن الصحيح إن أنور عبد الملك كتب كذلك، وأيضا قبل أن يكتب طه حسين.
وهناك فى مجلة (المجلة) مقالات كثيرة نقدية مهمة ومتابعات نقدية لكتب أيضا، وضمن ما كتب عبدالملك، كتب مقالا مبكرا عن الأدب العلمى، فى العدد الثالث عشر الصادر فى يناير 1958، وأظنه مقالا مهما، ليتنا نعيد نشره، ففى ذلك الوقت كان المجال ما زال مبكرا فى الكتابة فيه، وفيه يركز عبدالملك على الركائز الأساسية التى تقوم عليها الرواية العلمية فيقول: (تقوم الرواية العلمية على أساس فكرة الممكن، أى على أساس الإمكانيات التى يمكن أن يمقتها العلم لو تطور من حاضره الفعلى تطورا منطقيا معقولا، وهذا هو الفرق بين الخرافة وأحلام اليقظة واليوتوبيا من ناحية، وبين الرواية العلمية من ناحية أخرى) وتتابع الكتابات فى مجلة المجلة حتى يغادر عبدالملك البلاد.
ولو نظرنا إلى مجلة الرسالة الجديدة سنجد أن عبدالملك كان يتابع المشهد الثقافى العالمى بشكل يقظ فعندما كانت فرنسا تحتفل بالكاتب إميل زولا نجده ينشر مقالا رائعا فى العدد الصادر من الرسالة فى نوفمبر عام 1956، وفيه يحلق فى كتابة زولا بشكل بانورامى ينم عن هضمه لأدبه بشكل مذهل، وكذلك يكتب عن بريخت فى أكتوبر 1956 مقالا تحت عنوان (برتولد بريخت رائد المسرح الجديد) وهذا المقال جاء مواكبا لرحيل الكاتب المسرحى المناضل بريخت، ولا يكتفى عبدالملك كما يعمل كثيرون بالتعريف البيبلوجافىى بالراحل ولكنه يغوص فى أعماق الكاتب ودوره، ويستدعى مشاهد من مسرحه مما يدل على قدرة عبدالملك على القراء النقدية المسلحة بمعرفة وقراءة عميقتين للمشهد الثقافى العالمى، وكذلك يكتب عن لوركا مقالا تحت عنوان (تحية إلى لوركا شاعر إسبانيا المقتول)، وفى ثنايا مقاله يكتب عبدالملك: (إنه لوركا، فديريكو جارسيا لوركا، شاعر إسبانيا الأول، شاعرها المقتول، لوركا الذى سقط تحت رصاص رجال فرانكو فى مثل هذا الصيف منذ عشرين عاما، وهو فى السابعة والثلاثين من عمره) ويسترسل عبدالملك فى المقال ليضع أمامنا الشاعر الإسبانى بشعره ونضاله ومقتله، كتابة ليست صحفية عابرة، بل كتابة نقدية ذات بعد معرفى راق، لا يكتبه إلا مثقف كبير اسمه أنور عبدالملك الذى رحل عن عالمنا مؤخرا، وفى ظل أجواء ارتفعت فيها الحروب على الثقافة والمثقفين والحرية والتعبير، ليتنا نستطيع أن نعيد نشر هذا التراث الضخم الراقى للكاتب والمفكر والفيلسوف الراحل حتى نتعرف عليه بشكل شامل، هذا فضلا عن الروايات التى كان يكتبها للبرنامج (الثانى) الإذاعى والذى كان وليدا فى ذلك الوقت.