الإصلاح والنهضة يدشّن حملته الانتخابية للنواب 2025 باستعراض استراتيجيته الدعائية والتنظيمية    حفل استقبال بدير السيدة العذراء فى درنكة بحضور البابا تواضروس    وزارة البيئة: عقوبات رادعة تصل إلى مليون جنيه لحرق المخلفات    تركيا.. احتجاجات واسعة تندد باقتحام الاحتلال الصهيوني سفن "أسطول الصمود"    هند الضاوي: قطاع التكنولوجيا الأكثر تأثر من الحرب في اسرائيل    شاهندا المغربى حكما للأهلى ومسار فى دورى الكرة النسائية    شقيق عمرو زكي: اللاعب بخير وصحة جيدة.. ولا أعرف لماذا يرتبط اسمه بالمرض    تموين مطروح تضبط 6.5 طن سولار وسلع غذائية قبل بيعها في السوق السوداء    الشاعر مصطفى حدوتة بعد ترشح أغنيته للجرامي: حققت أهم وأحلى حاجة مع محمد رمضان    الفنانة شيرين تكشف تفاصيل إصابة قدمها وتجربة الألم أثناء تكريمها في مهرجان الإسكندرية السينمائي    رئيس لجنة تحكيم مسابقة بورسعيد يفوز بلقب شخصية العالم القرآنية بجائزة ليبيا الدولية    عالم بالأوقاف: الوطنية الصادقة لا تنفصل عن الدين.. وعبارة الغزالي تصلح شعاراً لعصرنا    السوشيال ميديا بكفر الشيخ تتحول لساحة نزال شرسة قبيل انتخابات النواب    رئيس جامعة الإسكندرية يسلم 4 نواب وعمداء جدد القرارات الجمهورية بتعيينهم (صور)    تفاصيل مسلسل «درش» ل مصطفى شعبان.. رمضان 2026    موقف زيزو من مباراة الأهلي وكهرباء الإسماعيلية في الدوري المصري    "الإغاثة الطبية في غزة": المستشفيات تنهار تحت القصف والاحتلال يحاصر الطواقم الطبية    قائد عسكري إيراني: نحن أقوى هجوميًا الآن 12 مرة مُقارنة بحرب ال 12 يوما مع إسرائيل    السفير التركي يفتتح الدورة 78 من "كايرو فاشون آند تكس" بمشاركة 650 شركة مصرية وأجنبية    تأخير الساعة 60 دقيقة وبدء التوقيت الشتوى 2025 فى هذا الموعد    ماجد الكدواني يتصدر إيرادات السينما بفيلم «فيها إيه يعني» أول أيام عرضه    أليسون بيكر يغيب عن ليفربول 6 أسابيع للإصابة    تحقيق عاجل بعد اتهام مدير مدرسة بالاعتداء على طالب في شبين القناطر    استشاري مخ يكشف مدى خطورة إصابة الأطفال ب"متلازمة ريت"    تعرف على نتائج الجولة السابعة من دورى المحترفين    هدف الشحات ينافس على الأفضل في الجولة التاسعة للدوري    وزير المالية: قانون الحياد التنافسي ساعدنا في ترسيخ المنافسة وبناء "شراكة الثقة مع القطاع الخاص"    السكة الحديد: تعديل مواعيد بعض القطارات على بعض الخطوط بدءا من السبت    خيري الكمار يكتب: منة شلبي في حتة تانية    «ديستوبيا روبلوكس»| أطفالنا في خطر.. شهادات مرعبة من داخل الغرف المغلقة    قائمة ألمانيا لمواجهتي لوكسمبورج وأيرلندا الشمالية.. تواجد فيرتز وجنابري    خالد الجندى: كثير من الناس يجلبون على أنفسهم البلاء بألسنتهم    ما حكم التنمر بالآخرين؟ أمين الفتوى يجيب أحد ذوى الهمم    الرسوم الجمركية الأمريكية تؤثر سلبًا على إنتاج الصلب الأوروبي (تفاصيل)    طريقة عمل كيكة الشوكولاتة، ألذ طعم وأسهل وصفة    وزير الخارجية يتوجه إلى باريس    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 2أكتوبر 2025 في المنيا.... تعرف عليها    وائل السرنجاوي يعلن قائمته لخوض انتخابات مجلس إدارة نادي الزهور    رفع كفاءة وحدة الحضانات وعناية الأطفال بمستشفى شبين الكوم التعليمي    ضبط طن مخللات غير صالحة للاستخدام الآدمي بالقناطر الخيرية    إخلاء سبيل سيدتين بالشرقية في واقعة تهديد بأعمال دجل    وزير الإسكان يتابع موقف تنفيذ وحدات "ديارنا" بمدينة أكتوبر الجديدة    وكيل تعليم البحيرة يتابع انتظام الدراسة في دمنهور    المجلس القومي للمرأة يستكمل حملته الإعلامية "صوتك أمانة"    إعلام فلسطيني: غارات إسرائيلية مكثفة على مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة    طرق الوقاية من فيروس HFMD    «أطفال بنها» تنجح في استخراج مسمار دباسة اخترق جدار بطن طفل    وست هام يثير جدلا عنصريا بعد تغريدة عن سانتو!    ما يعرفوش المستحيل.. 5 أبراج أكثر طموحًا من غيرهم    قطر تستنكر فشل مجلس الأمن فى اعتماد قرار بشأن المعاناة الإنسانية فى غزة    بقيمة 500 مليار دولار.. ثروة إيلون ماسك تضاعفت مرتين ونصف خلال خمس سنوات    وزير الري يكشف تداعيات واستعدادات مواجهة فيضان النيل    المصرف المتحد يشارك في مبادرة «كتابي هديتي»    جاء من الهند إلى المدينة.. معلومات لا تعرفها عن شيخ القراء بالمسجد النبوى    مصر والسودان تؤكدان رفضهما التام للإجراءات الأحادية فى نهر النيل    جامعة بنها تطلق قافلة طبية لرعاية كبار السن بشبرا الخيمة    انهيار سلم منزل وإصابة سيدتين فى أخميم سوهاج    «الداخلية»: القبض على مدرس بتهمة التعدي بالضرب على أحد الطلبة خلال العام الماضي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صاحب الحلول السحرية الذى رحل ومعه أسرار كثيرة
نشر في الشروق الجديد يوم 04 - 11 - 2011

فى عام 1559 نشرت سلسلة كتب للجميع كتابا للشاب اليافع أنيس منصور تحت عنوان: (عذاب كل يوم) وجاء هذا الكتاب بعد سلسلة كتب لهذا الأديب الذى يحب الفلسفة، ويقدم أبحاثا ومقالات وخطرات فى الصحف، وقدم للكتاب الضاغبط أحمد حمروش الذى كان يرأس تحرير السلسلة، وجاء ضمن تقديمه: (الكثيرون يختلفون مع أنيس منصور فى الرأى والعقيدة.. ولكن الذى لا يختلف فيه أحد أن أنيس منصور كاتب وصحفى ناجح، وأن مقالاته وكلماته تثير أكثر من سؤال، وأن كتبه تحمل إلى القارئ دائما شيئا جديدا تهتز له عواطفه وأفكاره.. ويكفى هذا التقديم ليكون مفتاحا لعلاقة الأجيال المتعاقبة مع كتابات وإبداعات ومواقف وترجمات أنيس منصور، وبداية فإن ظاهرة منصور ظاهرة ليست ظاهرة فريدة، وغزارة إنتاجه تعود لسببين، الأول يعود لنشاطه الدءوب فى تجميع ما كان يكتبه بالصحف والمجلات، وينشره فى كتب، ولو لفعل ذلك كامل الشناوى وعلى الراعى محمود أمين العالم ويحيى حقى لنافسوه فى غزارة الإنتاج، والسبب الثانى وهو الأوقع أن الصحف كانت مفتوحة لأنيس منصور منذ بداياته الصحفية الأولى فى أواخر الأربعينيات، وبعدما التحق بمؤسسة أخبار اليوم، وتبناه الأخوان على ومصطفى أمين، وبالتالى أبرز منصور نشاطا صحفيا كبيرا فى الكتابة الصحفية والترجمة، والإشراف على الأقسام الصحفية، لذلك راح الأخوان يشجعان هذا الفتى المثقف، والقادم من المنصورة، وكان يدرس فى كلية الآداب جامعة عين شمس بقسم الفلسلفة من عام 1949، ولكنه استقال عام 1955 من الجامعة ليتفرغ للصحافة، وفى فترة وجيزة أصدر كتابا يثير الرأى، والخلاف، وكانت باكورة كتبه كتاب عن «الوجودية»، ثم توالت كتبه فى مقتبل حياته، وهى (دراسات فى الأ بب الأمريكى، و(حدى مع الآخرين) و(مدرسة الحب) وترجم مسرحية (الامبراطور جونز) ليوجين يونيل، وبالتالى رشحه الأخوان أمين للسفر خارج البلاد أكثر من 12 مرة إلى أوروبا فى غضون سنوات عمله الصحفى الأولى.


● اليسار الثقافى

جاء هذا الظهور الطاغى فى ظل وجود نجوم ثقافيين وصحفيين كبار وشباب، مثل عباس العقاد وطه حسين وكامل الشناوى وسامى داود وحلمى سلام وخالد محمد خالد، وكان من الشباب يوسف أدريس ومصطفى محمود وصلاح حافظ ومحمود أمين العالم، وغيرهم، وكان المناخ المركب فى الخمسينيات يسمح بمثل هذه الظواهر الثقافية والصحفية المختلفة أن تتنفس كلها فى فترة زمنية واحدة، وفى ظل مناخ سياسى يلعب دور ضبط الإيقاع، وأحيانا توجيهه، وأحيانا أخرى قمعه وتوبيخه إذ لزم الأمر، فكانت جريدة الجمهورية التى كان يديرها أنور السادات، ولها كتابها المرموقون مثل يوسف أدريس وطه وحسين وكامل الشناوى وسامى داوود وأحمد عباس صالح وبيرم التونسى غيرهم، وكانت الأخبار يكتب فيها عباس محمود العقاد وسلامة موسى ومحمد زكى عبدالقادر وإسماعيل مظهر ورجاء النقاش وأنيس منصور، ثم ظهرت المساء وصباح الخير لتستقطب اليسار الثقافى والسياسى، وترأس تحرير جريدة المساء أول عام 1956 الضابط خالد محيى الدين، وضم إلى الجريدة كتابا من طراز عبدالعظيم أنيس، ولطفى الخولى وعادل أحمد كاتب وفاروق القاضى، وكان من الشباب عبدالفتاح الجمل، وفتحى خليل عبدالفتاح (فتحى عبدالفتاح)، وفيليب جلاب وغيرهم. وهكذا كان التنافس حادا وجادا، ولكن ثقافة أنيس منصور المتعددة الأوجه، والمترامية الأطراف ساعدته لينتشر بصورة كبيرة، ثانيا إن أنيس منصور ظل بعيدا عن الاصطدام بأى سلطة حتى يعيش فى أمان دائم، واختار قضايا تتماشى من علا إنسان فى المطلق، ليس الإنسان فى مكان معين، وفى زمان معين، وفى ظل نظام سياسى معين، هذه المعادلة ساعدت أنيس منصور على آلصعود والتفوق بصورة كبيرة، ومن ناحية أخرى كانت كتابات أنيس منصور، تجد قبولا شديدا، ورواجا كبيرا بين القراء، لأنها كانت تقدم الفلسفة بتبسيط، وربما دون إخلال، ودون مغالطات وصعوبات، وفعندما كتب عن الوجودية، وجدت من يقرأها خارج حيز دارسيها وطلابها، وكانت الفلسفة الوجودية آنذاك يملك زمامها الدكتور عبدالرحمن بدوى، ويقدمها طبعا كما قدمها مبدعوها فى الغرب، ولكنه كان لا يتنازل عن اسلوبه الخشن، وهكذا كان كل من عملوا فى حقل الفلسفة، يقدمون الفكر الغربى الفلسفة الغربية بطرق معقدة، فكان أنيس منصور حلا سحريا، وضرورة ثقافية، حتى لو كان مخلا فى بعض ما قدمه، لكن القراء أقبلوا عليه، وعلى كتاباته بشكل كبير، وكان بالطبع يحاول منصور أن يقدم هذه المعادلة فى يسر وسهولة، وعبر كتابات مثل المسرح والقصة والرواية، وتلخيصها بشكل يرضى القارئ البسيط والمتوسط، ونجده يلجأ إلى العناوين المثيرة مثلما قام بترجمة مسرحية للكاتب الإيطالى (جيوفانى بابيس)، وكان عنوانها (فتنة الشيطان)..اونشرها فى مجلة الرسالة الجديدة عام 1954، وكتب مقدمة للمسرحية جاء فى مطلعها: (إننا فى عصر التحرير من القيود، قيود الأرض وقيود الناس، وقيود الخطايا.. وما الطيران فوق الأرض ونحو الكواكب إلا إشارة صريحة إلى أننا ننشر الحرية من جاذبية الأرض، ومن الأرض نفسها إلى ما هو فوق الأرض وهوائها وسمائها، اننا نطلب الحرية لنا ولغيرها.. ولكل المقدين والمعذبين).. فى هذا العصر لماذا ألا نطلب الحرية عن بدأ حياته ملاكا طاهرا، وسقط كائنا لعين رجيما.. لماذا لا نطلب الحرية للشيطان نفسه، لماذا لا نقبله من عثراته، لماذا لا نطلب له العفو من الله، والله يعف عن الكثير، ورحمته التى لا حددو لها، لا يمكن أن تضيق بكبير ملائكته وأكمل مخلوقاته، الذى أخطأ يوما؟! لماذا؟!. هكذا تقدم أنيس المسرحية التى اختارها خصيصا لمجلة ثقافية متخصصة، أظن أن المادة الدسمة التى يقدمها أنيس منصور، والمسكونة بالتوابل المتعددة الفلسفية والإنسانية، قابلة للتداول والتعاطى بشكل سهل، ويرضى ذائقة القراء المتعطشة للمعرفة، وللمشاركة، فكتابات أنيس منصور، توحى بالمشاركة، وليست كتابة متعالية ونائية، رغم أنها تكتظ بأسماء فلاسفة، وربما مصطلحات علمية، وأفكار عميقة، ولكنه يجعل كل هذا فى متناول القارئ، الذى يتلقى كل هذه العناصر، ويسعى لاكتشافها بنفسه، وبمحاولاته الخاصة، لذلك فالدور الذى لعبته كتابات أنيس منصور، كان تثقيفيا وتوجيهيا، وتحريضيا على القراءة، والتعامل مع الكتب، وهذا ما جعل مقاله اليومى يصمد حتى اليوم، فدوما كما قال أحمد حمروش يأتى مقاله بالجديد والمثير والمحرض، بعيدا عن الأدوار التلقينية والتعليمية التى كانت منتشرة هنا وهناك.


● عدو المرأة

أنيس منصور كان قريبا جدا من دوائر القراءة بموضوعاته المتنوعة، هذه الكتابات التى تكتسب خلطتها السحرية من أنها تحكى وتسرد وقائع، هذه الوقائع التى يقدمها أنيس تشبه الحدوتة، وربما كان هذا واقعا لأنيس منصور ليكتب القصص القصيرة ويشحن هذه القصص بأفكاره وهواجسه وآراءه المثيرة، لذلك كانت قصصه الخاصة بالمرأة مثلا مثيرة، وجعلت الكثيرين يطلقون عليه هذا المصطلح الذى التصق به، وهو عدو المرأة، وهو كان الأنأى والأبعد عن هذا العداء، لكن عناوينه، وعناوين كتبه، وبعض الآراء التى كان يضعها المفكرين وكتاب غربيين هى المسئول الأول عن هذا المصطلح، ثم تبسيط القراء المخل أيضا له علاقة بإطلاق هذا المصطلح، والذى استعذبه أنيس منصور فى بعض الحالات.. لكننا لو فحصنا وأخضعنا كتابات أنيس الأولى، لوجدنا كاتبا ينتصر للمرأة بقوة، وينتصر لقضاياها العادلة، ففى قصة (عزيزى فلان) يبدأها برسالة من امرأة تقول فيها: (عزيزى.. بهذا الخطاب تنتهى قصة بح مرير.. وتنتهى سبع سنوات من عمرى.. سنوات طويلة عريضة، فيها رهبة البحر، وفيها وحشة الصحراء، وفيها حب من طرف واحد.. هو أن دائما.. لقد كنت من خلال هذه السنوات كالصياد الذى ركب زورقا صغيرا ونزل إلى البحر فى يوم مطير، وليس عليه إلا ثوب ممزق، وكان هذا الثوب هو حبى الأول.. وهكذا يسترسل أنيس، أو تسترسل المرأة فى سرد شكواها، وسنلاحظ أن تعاطفا كبيرا ينتقل إلى القارئ، وهذا نتيجة لتعاطف الكاتب الأصلى للقصة.

وسنجد أن أنيس منصور كان يلتحق بكتاب الخاطرات، والشذرات الفلسفية القصيرة، والتى تلخص موقفا أو قضية أو حكاية أو نظرية، فحينما يتحدث عن الحب مثلا يقول: (الحب فى جوهره اهتمام بإنسان، ومعنى أن اهتم بإنسان أن أكون مشغولا به ومهموما به، ومهموما له، ومهموما من أجله، فالذى أحبه أرعاه.. كما ترعى الأم طفلها، وتحمله معها إلى أى مكان) وفى كتبه المبكرة هذه، خاصة كتاب (عذاب كل يوم) يغوص منوصر فى اكتشاف المعانى والأعماق للإنسان، اعتمادا على معرفته الواسعة بالثقافة الأوروبية عموما، والتى قدم من خلالها قصصا ومسرحيات، وأفكار، وكثيرا ما سنجد أن كتابات منصور ذاتها وكأنها اقتباسات من كتاب وكاتبات أوروبيين، وكان يشير أحيانا لأصحاب هذه الأفكار، وأحيانا أخرى لم يكن يشير إلى ذلك، لأن القارئ من الممكن أن يمل أو يسترد لثوار والأسماء الكثيرة فى متن ما يكتبه!


● السجن الذى اختاره توفيق الحكيم

وبالطبع كان منصور رحمه الله كثير الاشتباك والمشاحنة والمداعبة مع كتاب عصره، ومن خلال عرضه لكتبهم وأفكارهم يطرح وجهة نظره فى الكاتب الذى يكتب عنه، ففى كتابه (طريق الغذاب) نجده يتعرض لعدد كبير من الكتاب والمبدعين والفلاسفة، وفى مقال عن كتاب لتوفيق الحكيم، يكتب مقالا عنوانه: (السجن الذى اختاره توفيق الحكيم)، ولم يكتف بالطبع بعرض وقراءة ومناقشته الكتاب، لكنه استطرد وخرج عن المضاد.. فكتب (اختفت منذ سنوات صورة توفيق الحكيم التى كان يبدو فيها منكوش الشعر وشارد النظرة، على رأسه طاقية، وفى يده عصا، وكان رسامو الكاريكاتير حريصين على أن يؤكدوا معنى واحدا فى توفيق الحكيم: الفيلسوف التائه. فشعره المنكوش فلسفة، ونظرته الشاردة ضياع، والطاقية سمعت من العقاد أن أول من لبسها وأخذها عنه الحكيم، ويستطرد منصور فى سرد بعض الحكايات التى باطنها وجهة نظر باردة، وظاهرها يميل إلى المداعبة والسخرية، واغراء، وبعد لك يوجه طلقاته إلى ما يريد أن يصيب، فيتحدث عن كتابه سجن العمر، فيقرظه حينا، وينتقص منه حينا أخرى، ولكن بظرف وفقة لا تغضب الحكيم، هكذا كانت معظم كتابات أنيس منصور، تقترب من الهدف ولكن بحذر، وتنتقد لكن بحنان، والذى يقرأ كتابه (فى صالون العقاد) سيكتشف ذلك، ويعرف من خلال هذا الكتاب ما يخص كثيرين، ولكن بدرجات مختلفة من انتقاداته اللاذعة أو تعاطفاته الشديدة، ورغم أن كثيرين شككوا فى مصداقية هذه الحكايات، لكنها كانت لا تخلو من حقائق، ولم تخل من وجهة نظر، اتفقنا معها أو اختلفنا.

وبالطبع فالموقف السياسى كان مثيرا، خاصة فى سنوات السادات، والتى كانت سنوات ازدهار كبير لأنيس منصور، وكتب فيها كتابه (عبدالناصر المغزى علينا، والمفترى عليه). وكله نقد لاذع لتجربة عبدالناصر، وانتقاد علاقة عبدالناصر بالروس، رغم أنه أصدر كتابا كان عنوانه: (أطيب تحياتى من موسكو).. وبطريقته المعهودة انتقد الإنسان الروسى فى البداية، لكن فى متن الكتاب امتدح الثقافة الروسية، ويكتب: (الروسى فخور ببلاده.. والشاعر الروسى لرمنتوف عندما قارنوه بالشاعر بيرون قال: لست كالشاعر بيرون.. أنا مختلف عنه. وما زلت مجهولا، إننى مثله منبوذ فقط، ولكن أهم من ذلك أن لى قلبا روسيا).. وهو يرى أن الروس قدموا أعظم تجربة فى مزج القوميات المتعددة، ودمجها تحت نظام واحد.. أنيس منصور الذى كتب ذلك، كتب فى نقد تجربة العلاقة مع الروس.

بالطبع لابد أن تكون هناك كتابات محيرة، ومواقف أكثر حيرة، لاختلافات تنشأ بين هذا الرأى وذاك الرأى للكاتب نفسه، ونجد مواقف تختلف هنا وهناك، فمثلا أنيس منصور كان له موقف شديد القسوة من الكاتب والأديب الراحل زهير الشايب، والذى مات محمدا من كثرة ما تعرض له من تنكيل فى دار المعارف، وهو الأديب والمترجم الذى قام بجهد مؤسسة علمية، عندما شرع فى ترجمة كتاب (وصف مصر)، وأنجز منه عشرة أجزاء، وكلان زهير محل اضطهاد من أنيس منصور، حتى دفعه ذلك لترك المؤسسة.


● انتحار كاتبة

ورغم هذا الموقف السلبى تجاه زهير الشايب، نجد أنه يقف بجوار كتاب أو كاتبات آخرين، وعلى رأس هؤلاء الكاتبة (عنايات الزيات).. وهذه كاتبة تكاد تكون مجهولة تماما، رغم أنها كتبت رواية بديعة، ورواية مبكرة، وهى علامة بارزة فى مسيرة الأدب النسوى، وهى رواية (الحب والصمت)، والتى صدرت بعد انتحار الكاتبة ونشرت طبعة وحيدة عام 1967، وقدم لها الدكتور مصطفى حمود، وبعد صدورها كتب عنها محمود أمين العالم، ولطيفة الزيات وآخرون، ولكن بعد ذلك انتهى أمرها تماما، والرواية تنتظر من يعيد نشرها، هذا الكتاب وهذه الكاتبة كان من اكتشاف أنيس منصور، الذى رحل، ورحل معه سر هذه الكاتبة العلامة.. وكتب أنيس منصور عنها عدة مقالات.. وفى آخر مقال عنها كتبه عام 2006 يقول: (ذهبت مع الصحفى الفلسطينى ناصر النشاستى إلى السيدة وجدان البربرى صحابة أكبر مزرعة خيول فى مصر، وفى بيتها النجمة الجديدة نادية لطفى وصديقتها عنايات الزيات، وكانتا تتحدثان بالألمانية سرا، ولما عرفنا أننى أتكلم الألمانية صار كلامنا عاما، وانتهى العشاء، وجاءتنى عنايات الزيات، فأبوها وكيل كلية الآداب، عندما كنت طالبا، لها اهتمامات أدبية وأخرجت من حقيبتها قصة قصيرة، أعجبتنى نشرتها، وقصة أخرى أعجبتنى جدا فنشرتها، والذى لم يعجبنى أن لديها شعورا بالضياع، واللاجدوى، واللامعنى، وأن الحياة عبث، وأننا عبث يعيشق على العبث، سألتها: فأعطتنى قصة قصيرة.. عنوانها: (نكتب بالتراب على التراب).. ولم ينته كلام أنيس منصور عن الكاتبة، لكنه أعطى عدة إشارات حادة عن حياتها.. وينهى مقاله: (عدت إلى مشروعات قصص وحكايات لم تكملها، ولم أجد معنى لنشرها، فقد توقفت عن الكلام، أوقفت نفسها عن الكلام بالقوة، ففقأت عينيها وأذنيها وحطمت شفتيها وكسرت قلمها ووضعت نقطة فى نهاية السطر، صفرا فى نهاية الحياة لا تساوى صفرا، مع الأسف اختفت وهى لا تعلم).

أنيس منصور المتعدد والمكتشف والمختلف مع نفسه والمتناقض أحيانا.. كتب فى معظم الاتجاهات، ونختلف معه أو نتفق، لن نختلف مع كونه الكاتب الذى أثار الناس بقوة وأثر فى أجيال متعاقبة، رحمه الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.