أنيس منصور - والملقب بفيلسوف الكلمة- كان مادة خصبة للباحثين بالجامعات لبصماته الفكرية والثقافية وحسه المرهف وكان من أهمها تقديمه لمجلة مصرية مختلفة الشكل والملامح والإخراج وهى مجلة أكتوبر والتى حققت شهرة وانتشارا واسعا ليس فى مصر فقط بل فى الوطن العربى والعالم. فقد تصدرت أعمال الكاتب الكبير أنيس منصور العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه خلال ال 30 عاما الماضية ليس فقط فى الجامعات المصرية بل تناولته رسالة دكتوراه من جامعة السوربون بباريس. وكان من أهمها الرسالة العلمية والتى تقدمت بها تلميذته «سميحة إدريس» الصحفية بمجلة أكتوبر حول الإخراج الصحفى لمجلة أكتوبر والتى خصصت فيها فصلا كاملا عن أنيس منصور لتحصل بها على درجة الماجستير. فقد كشفت نتائج هذه الدراسة أن أنيس منصور كان يشترك فى تحرير 18.9% لكل ما يكتب فى مجلة أكتوبر وأنه كان يحرر بنفسه 7.5% من موضوعات المجلة. كما كشفت الدراسة عن الكاتب الراحل أنه ظل يكتب افتتاحية مجلة أكتوبر بنفسه لمدة 9 سنوات كاملة. وأكدت الدراسة التى قامت بها تلميذته سميحة إدريس أن أنيس منصور نجح منذ العدد الأول لصدور مجلة أكتوبر- ككاتب مصرى وعربى بشهرته الكبيرة وثقافته المتعددة فى مختلف المجالات - أن يحقق الذيوع والانتشار لمجلة أكتوبر ليس فقط فى مصر بل فى العالم العربى والأجنبى كله. وأثبتت الدراسة أن أنيس فتح صفحات مجلة أكتوبر للعديد من الكتاب البارزين من خارجها من التيارات الفكرية المختلفة مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وجلال كشك وعبد الله الجبرى وغيرهم.. وهذا يحسب له. واستطاعت الدراسة أن تلمح بصمات أنيس منصور الفكرية والثقافية والفنية وكذلك حسه الفنى المرهف فى تقديم مجلة مصرية مختلفة فى الشكل والمضمون والملامح الإخراجية وهى مجلة أكتوبر.. وقد ساعده على ذلك خبرته الطويلة فى عالم المجلات، حيث شغل رئاسة تحرير العديد من المجلات وعمره 30 سنة فقط. فقد شغل رئاسة تحرير مجلة «الجيل» ثم مجلة «هى» التى كان يرأس مجلس إدارتها الكاتب الراحل الكبير على أمين ثم رئاسة تحرير مجلة آخر ساعة ثم مجلة أكتوبر ثم رئيس تحرير مجلة وادى النيل ثم رئيس تحرير جريدة مايو. وقد ساعدته هذه الخبرة الطويلة فى رئاسة تحرير العديد من المجلات أن يقدم أسلوبا جديدا متحررا (مودرن) فى إخراج مجلة أكتوبر بعيدا عن الأساليب الكلاسيكية التقليدية وهذا لم يكن رأى الدراسة فقط، بل كان رأى العديد من كبار رجال الإخراج الصحفى فى المجلات المصرية. وكشفت الدراسة أن الكاتب الكبير أنيس منصور يتميز عن غيره من الكتاب بأنه صاحب أسلوب خاص كان مزيجا بين الفلسفة والسياسة والفكر والأدب والثقافة الراقبة. وكان يقدم فى مقالاته الافتتاحية كل أسبوع معرضا فنيا رائعا بأسلوب شائق وعبارات سهلة راقية فى كل مجالات المعرفة امتزجت فيها السياسة بالفلسفة والأدب والثقافة.. عكست سعة اطلاعه وثقافته الواسعة فى كل المجالات. وقد تعرضت مقالاته الاسبوعية فى مجلة أكتوبر لكل المشاكل والقضايا على الساحة السياسية والثقافية والاجتماعية بل العلمية ليس فقط فى مصر، بل وفى العالم العربى والأحداث العالمية. وكان من خلال الافتتاحية الاسبوعية يعرض وجهة النظر المصرية الوطنية الخالصة، حيث تحولت هذه الافتتاحية فى الكثير من الأحيان إلى أحاديث صحفية ساخنة مع الرئيس الراحل السادات بلغت 12 حديثا، بالإضافة إلى أحاديث ساخنة مع العديد من الشخصيات السياسية العربية والعالمية. وقد خص الرئيس السادات الكاتب الكبير أنيس منصور بكثير من الأخبار والمعلومات التى انفردت بها مجلة أكتوبر عن غيرها من المجلات والصحف اليومية، حيث أراد الرئيس السادات أن يقدم بمجلة أكتوبر وقتها عام 1976 صحافة عربية مصرية جديدة تقدم الثقافة إلى جانب التغطية الإعلامية الصادقة لما يجرى فى مصر من أحداث، حيث أحاطت مجلة أكتوبر القارئ بها بلا «روتوش»! وكان الرئيس السادات قد كلف أنيس منصور رئيس تحرير مجلة آخر ساعة- وقتها- بمهمة إصدار مجلة جديدة اسمها «6 أكتوبر» وقام بتعيينه رئيسا لتحريرها وأسند إليه رئاسة مجلس إدارة دار المعارف وذلك فى 16 أبريل 1976. وكان فى ذهن السادات أن تقوم مجلة أكتوبر بدور كبير فى السوق الصحفية العربية والمصرية بدلا من الصحف والمجلات اللبنانية التى كانت تغزو الاسواق الصحفية فى مصر والعالم العربى فى ذلك الوقت وبالتحديد مجلة «الحوادث» اللبنانية! وكان السوق فى ذلك الوقت مليئا بأنواع كثيرة من المجلات وبالتالى كان الأمر ليس سهلا أن تخرج مجلة اخرى. وعندما خرجت مجلة أكتوبر كانت هى الأولى فى 20 عاما حيث لم تصدر أى مجلة عربية كبرى من عام 1952 إلى عام 1976. وقد وجدت الدراسة أنه خلال هذه الفترة الكبيرة لم تصدر فى مصر مجلة جماهيرية تجمع بين المضمون السياسى والاجتماعى وتكون فى نفس الوقت فى مستوى المجلات الراسخة ذات التاريخ مثل مجلات «المصور» و «آخر ساعة» و«روز اليوسف» باستثناء مجلة «صباح الخير» التى صدرت خصيصا عام 1955 لتخاطب الشباب. وبالتالى كانت مهمة إصدار مجلة أكتوبر صعبة جدا ولكن السادات دعمها أدبيا ومهنيا واقترح أبوابا وخص مجلة أكتوبر بالعديد من المقالات كان أهمها «الجليد يذوب بين موسكو والقاهرة»! واشترك السادات مع رئيس تحريرها أنيس منصور فى اختيار اسم المجلة حيث وقع الاختيار فى البداية لتكون اسمها «6 أكتوبر و10رمضان» لكن إسماعيل فهمى وزير الخارجية وقتها اقترح أن تكون اسمها «أكتوبر» ووافق السادات على هذا الاقتراح ليصير اسمها «مجلة أكتوبر». وقد اختار أنيس منصور أسرة تحرير مجلة أكتوبر كما تقول سميحة إدريس فى دراستها اختار حوالى 80 محررا وسكرتير تحرير ومصورا ومراجعا. وقد بلغت الغيرة الصحفية والحقد الصحفى وقتها كما جاء على لسان أنيس منصور أن البعض أكد أنها ستفشل ولن يصدر منها إلا عدد واحد فقط ثم ستتوقف.. وعلق أنيس منصور على هذا فقال كأننا نصدر مجلة من دار اجنبية معادية رغم انها مجلة قومية !! وكانت ميزانية مجلة اكتوبر وقت صدورها لا تتعدى مليونى جنيه (2 مليون جنيه» وقد صدرت اكتوبر بعد 6 أشهر فقط من الأعداد التجريبية وهذه المدة تعد غير كافية لاصدار مجلة كبيرة مثل مجلة أكتوبر. وقد قام أنيس منصور - وفقا لما تقوله الدراسة - بالاطلاع على العديد من المجلات العالمية مثل مجلتى «الأوبروبيو» و«ابوكا» الايطاليتين ومجلتى «الدسيبلنج» و«اليورتا» الألمانيتين وتوقف بين أبواب وموضوعات هذه المجلات وكان لمجلة أكتوبر ان تكون ذات طابع خاص. وقد كان تشكيل مجلة أكتوبر.. أنيس منصور رئيسا لمجلس إدارة دار المعارف ورئيسا لتحريرها وفؤاد ابراهيم العضو المنتدب ود. صليب بطرس المدير العام ثم 3 مديرين للتحرير وهم المرحومون حامد دنيا وعبد العزيز صادق وجميل عارف، بالإضافة إلى إقامة 5 اقسام وهى التحرير والتصحيح والمعلومات والخطوط والسكرتارية الفنية. وأكد انيس منصور ان المجلة استطاعت ان تضع قدميها وسط الصحافة المصرية والعربية لانها قامت على احترام عقل القارئ لان القارئ لا يحب الكاتب الساخر او الحاوى لان القارئ يريد ان يفهم وتقدم له الحقيقة وهذا ما حرصت عليه مجلة اكتوبر من العدد الأول لصدورها. وقد فتح انيس منصور صفحات مجلة اكتوبر لكل الكتاب فى مصر والعالم العربى لتكون شاهد عيان على كل القضايا المصرية والعربية وكل هموم العصر.. فكانت مجلة إيجابية. وقال انيس منصور وقتها وفقا لما ترصده الدراسات إننا بمجلة اكتوبر نثقفف الصغير ونناقش الكبير ونسلى المراهق ونعطى الأمل لليائس. وكان يعمل على ان تقدم «اكتوبر» احدث ما تقدمه دور النشر من احدث الكتب وما تقدمه الملاعب للعبة الملايين «كرة القدم».. فقد حرص انيس منصور ان تكون مجلة اكتوبر معبرة لكل افراد الاسرة. وقال انيس منصور عندما صدرت مجلة اكتوبر: كانت كالفتاة الجميلة الصغيرة التى تخرج للحياة وقد ارتدت اكثر من فستان فى آن واحد ووضعت المجوهرات فى اصابعها واذنيها فانها أرادت ان تكون الكمال والجمال معاً. وقد تعلمت الفتاة الجميلة ان الجمال والبساطة فى الألوان والاقتصار فى المجوهرات مع الوضوح والحرص على الصدق والاخلاص طريقها لأن تدخل قلوب الملايين. وقد اثبتت الدراسة ان مجلة اكتوبر عندما صدرت فى ذلك الوقت كانت سبباً فى اشعال المنافسة بين كل المجلات المصرية مما ترتب على ذلك ان كل المجلات قامت بالتغيير فى شكلها ومضمونها. وقد بلغ توزيع مجلة اكتوبر خلال أول سنتين صدورها (1976 إلى 1978) 200 ألف نسخة اسبوعية، حيث خرجت فى، 92 صفحة من الورق الفاخر فى ذلك الوقت. وقد اثبتت نتائج الدراسة التأثير الكبير لشخص الكاتب الكبير انيس منصور رئيس التحرير فى ذلك الوقت فى الشكل والمضمون والاسلوب والصياغة والعناوين الجذابة وحتى فى كلام الصور. دكتوراه من السوربون ولم تتوقف الرسائل الأكاديمية عند ذلك بل تناولته رسالة دكتوراه من جامعة السوربون بباريس حملت عنوان هل ساندت مجلة اكتوبر سياسة الحكومة والتى نالت بها د. زهيرة البيلى درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف عام 1984 لتصبح مجلة اكتوبر عالميا أول مجلة بعينها على مستوى الدراسات العليا من أكبر جامعة فى العالم. وقد اختصت الدراسة فصلاً كاملاً عن انيس منصور، حيث تقول انه بعد ان اصدر الرئيس انور السادات قراراً جمهورياً بانشاء مجلة جديدة لمواجهة التحديات التاريخية والعالمية التى تشهدها الساحة السياسة وبعد ان اختار انيس منصور ليصبح أول رئيس تحرير لهذه المجلة وأحد اهم الكتاب الصحفيين كان عليه مواجهة تحديات كبرى بدءا من كونها اول مجلة مصرية تصدر من حوالى 30 عاماً وانتهاء باختيار المحتوى الشكلى والمضمون ولصعوبة وظروف المناخ العام السائد من حيث ان كل الصحف والمجلات كانت رسمية حرص الكاتب الكبير أنيس منصور منذ الأعداد الاولى ألا تنحاز المجلة الى السلطة على حساب الشعب والقارئ حيث تولى بنفسه دراسة نوعية المقالات بحيث أصبحت المجلة ذات وزن وتقلدت مكانة خاصة رسخت حواراً قائماً ومستمراً بين القارئ والسلطة السياسية خاصة بعد حرب اكتوبر وبذلك يكون قد نجح «انيس منصور» فى بلورة تلك العلاقة بين المجلة والرأى العام لذا تميزت مهمة رئيس التحرير بالمهمة الخطيرة خاصة عندما يتعلق الأمر بمسئوليته امام سياسة الحكومة .. وان يتوافق فى نفس الوقت مع طبيعته الانسانية من حيث الصدق والاخلاص فى نقل الحقيقة. وقد اتضح من خلال الدراسة والبحث لمقالات انيس منصور انه يساند الحكومة ولكنه فعل هذا ببراعة الكاتب والمفكر الذى وجه كل ذلك فى بؤرة الحرية واللاحدودية. وفى مقال بعنوان « إنهم أعداء المجتمع الحر» هاجم بشدة الحكومة والوزراء قائلا: «هؤلاء الوزراء لايتمتعون بروح الفريق.. وانهم اشخاص عظام وجدوا انفسهم فى قاعة اجتماع واحدة .. وكل وزير تكون مهمته ان يقلب وزارته رأساً على عقب دون مراعاة لما تم من انجاز قبل توليه الوزارة.. فإما أنهم ثوريون وإما انهم يؤمنون بالفردية ولهذا السبب هم بعيدون عن الجماهير .. وغير مقربين من الشعب .. انهم عاجزون عن الاحساس بالناس ولا يسعون الا إلى تغيير واجهة الوزارة التى طالما حلموا بها». كان أنيس منصور يعرف جيداً ان الصحفيين يكتبون لتظل ردود الفعل ملكاً للشارع ولذا فتح انيس منصور صفحات مجلة اكتوبر للعديد من الاقلام المعروفة من مفكرين وأدباء وباحثين ليشاركوا أسرة التحرير فى صياغة نوع فريد من التناغم ارتبط وحقيقة الأمر ارتباطاً غير مباشر مع امكاناته الأدبية والفكرية والفلسفية لتصبح مجلة اكتوبر بفضل حاسته الصحفية من كبرى مجلات الشرق الأوسط والعالم العربى.