يبدو أن عام 2011 يصر علي أن يكون عاما متميزا في أفراحه وأحزانه، ففي فجر الجمعة الماضي رحل "فيلسوف البسطاء" الكاتب الصحفي أنيس منصور الذي أسهم إسهامات غير مسبوقة في مجال الكتابة الصحفية وأدب الرحلات عبر رحلة طويلة تمتد لأكثر من أربعين عاما. دائما ما تكون الأيام الأخيرة في حياة الإنسان ذات شكل خاص وغير معتادة، قبل وفاته بأسبوع تم نقل أنيس منصور للمشفي ودخوله للعناية المركزة نتيجة إصابته بالتهاب رئوي حاد، لكنه كان قد تحسن قليلا قبل وفاته بيومين مما بعث الأمل في أن يخرج قريبا ويعود لمنزله، لكن للقدر توجه آخر...عن الأيام الأخيرة في حياته يقول نبيل عثمان مدير مكتبه :" بالنسبة لحالة الأستاذ أنيس منصور الصحية كانت منذ فترة طويلة لكنها اشتدت عليه في الشهرين الأخيرين، كان لديه قدرة غريبة جدا علي تجاوز الصعاب وكان يتذكر دوما أقوال الآخرين وتاريخهم، كان طول عمره يحب ويشجع الشباب فهو أول من طالب الشباب بالهجرة للبحث عن مستقبلهم وأول من طالب بإنشاء سفارة بأستراليا، قبل الذهاب للمشفي بيومين كان قد كتب عدة مقالات تستشعرين فيها أنه يودع الحياة ويودع قراءه!". سألت عثمان عن آخر كلمات همس له بها، فقال :"آخر كلمات همس بها قبل وفاته ب 12 ساعة ناداني وطلب ورقة وقلماً وكتب بعض الكلمات التي لا أستطيع أن أذكرها...وكان مؤمناًً بالله وقضائه وقدره إيمانا مطلقا". شخصية وفكر أنيس منصور رغم الاختلاف معهما إلا انه لا يستطيع أحد أن يتجاوزه أو يتجاوز منجزه الفكري والكتابي، عن هذا المنجز يقول الناقد والمؤرخ شعبان يوسف : " أنيس منصور أنا اعتبره كاتباًً من طراز فريد، حيث ملأ الحياة الفكرية والثقافية والسياسية منذ آواخر الأربعينيات حتي قبيل رحيله بالمواقف المتعددة، والتي كانت أحيانا ما تكون متناقضة إلا أنه كاتب مقال أظن أنه لا يكتب في أي جريدة إلا ويكون مكسبا لها، منذ صعوده بمجلة " آخر ساعة" ثم يومياته بجريدة الأخبار والمقالات الأدبية بمجلة "الرسالة الجديدة"، ولعب دورا هاما في توصيل الأفكار الفلسفية للجمهور البسيط، فبعد أن كانت الفلسفة لوغاريتمات وأشكالا هندسية علي يد الفيلسوف الكبير عبدالرحمن بدوي استطاع منصور تبسيطها للقارئ العادي. كذلك تميز منصور بأنه كان ناقلا جيدا للثقافة الأوروبية والشعرية علي وجه الخصوص عندما كان يكتب عن شعراء غرب مهمين، كما ارتبط اسمه بالفلسفة الوجودية منذ بداياته في الكتابة، كما كان له الفضل أيضا في اكتشاف العديد من المواهب الأدبية علي رأسها كاتبة رواية "الحب والصمت" عنايات الزيات التي انتحرت في ظروف غامضة ولا يعلم سرها سوي أنيس منصور، لتترك لنا هذه الرواية والمقالات النقدية التي كتبها عنها الناقد محمود أمين العالم ولطيفة الزيات والمقدمة التي كتبها الدكتور مصطفي محمود". يضيف يوسف قائلا : " رغم أننا نختلف مع وجهة نظر أنيس منصور السياسية خاصة الفكر الساداتي والمواقف الساداتية وتأييده المطلق لاتفاقية كامب ديفيد وتقريبا صياغته للنقد السياسي، واظن أنه كان يصوغ بعض الخطابات للسادات، إلا أن جهد أنيس منصور كان جهدا متعددا مابين الثقافة الأوروبية والعربية خاصة وأنه ترجم عددا هائلا من الكتابات المتنوعة وكذلك المسرحية التي يأتي علي رأسها أعمال دورينمات، بالإضافة لذلك إنتاجه المسرحي مثل مسرحية "كل واشكر" و " حلمك يا شيخ علام"، إضافة لإنتاجه القصص القصيرة والعديد من الكتب والتي أحبها إلي قلبي بشكل شخصي هو كتاب " ساعات بلا عقارب" الذي يتحدث فيه عن حياته الأولي ومجموعته القصصية "من أول نظرة"، وربما يكون قريبا من العقاد رغم أن أنيس كان خياله خصب غلا أن الكتاب يرسم صورة لمفكر كبير وتلاميذه المتحلقين حوله" فيلسوف البسطاء الكاتبة الصحفية سهير حلمي في كتابها "فيلسوف البسطاء " الصادر عن مؤسسة الأهرام، استطاعت تقديم عدة محاور مميزة لفكر وحياة أنيس منصور من خلال سلسلة حوارات معه حصلت من خلالها علي جائزة دبي الثقافية كأفضل حوار صحفي تم إجراؤه بالعالم العربي في 2007 يبرز فيه المجهود والدراسة العميقة للشخصية، تقول حلمي عن كتابها : " تطرقت إلي الموسوعية في كتابات الأستاذ أنيس لإثبات أن الموسوعية ليست ضد العمق في الكتابة، بالعكس فلقد تميزت كتابته بالرؤية الاستشرافية والجلية بمختلف كتاباته سواء المقال اليومي أو الكتب وهو ناتج من غزارة معارفه وعلومه، كان قد انشغل لفترة طويلة من حياته ببلاط صاحبة الجلالة وهو من الكبار الذين عملوا بجميع دور الصحف كالأهرام والأخبار و روزاليوسف ودارالهلال، الذي اكتسب منهم أجمل صفاتهم فمن روزاليوسف اكتسب المشاغبات والكاريكاتورية في الكتابات والتفرد، أما من الأهرام فلقد اكتسب الرصانة، كما تطرقت أيضا علاقته بالمرأة ونقده اللاذع، كذلك سيرته الذاتية ومصادره في كتاباته والينابيع الأولي التي شكلت وعيه ووجدانه والتي انعكست فيما بعد علي كتاباته، فلقد تميزت سيرته الذاتية بالطابع الاعترافي ولم يخجل منها مطلقا فكان معترفا بفقره المدقع. كما تطرقت لأعماله المسرحية المترجمة خاصة دورينمات وبريخت أيضا مجموعاته القصصية التي تتميز بأنها كالومضات، ايضا أسلوبه وتطوره ليصبح علي قمة الهرم الصحفي وهو ما ليس من فراغ، فجمله كانت قصيرة ومركزة وبسيطة وهو من أكثر الكتاب الذين تتحول جملهم إلي أقوال مأثورة دون قصد منه..والعديد من الزوايا الخاصة به". علي المستوي الإنساني تصفه حلمي بأنه كان إنسان لأقصي درجة وكان له قلب طفل، ومن أكثر الدروس التي تعلمتها منه هي الدأب والإصرار وتحري الدقة في المعلومة. عن آرائه الفلسفية سألت الدكتور أنور مغيث أستاذ الفلسفة بجامعة حلوان عن القيمة الفلسفية الفكرية لأنيس منصور، ليرد قائلا: " الأستاذ أنيس منصور كاتب غزير الإنتاج وله كتب في التاريخ والترجمة خاصة المسرح، في بداية حياته كان مهتما بالفلسفة الوجودية وفيما بعد اتجه للكتابة الصحفية التي كان بارعا جدا فيها، لكنه في فترة لجأ لما يسمي بصحافة الإثارة عن الذين هبطوا من السماء وهي كتابات لا عقلانية تتميز بأنها محدودة العدد ومحدودة القراء بسبب لا عقلانيتها، ولكن القدر منحني الاحتكاك به شخصيا السنة الماضية من خلال عضويتي بلجنة الفلسفة بالمجلس الأعلي للثقافة فوجدته إنسان دمث الأخلاق جدا وموسوعي الثقافة وشعرت أنه في هذا السن لايزال شغوفا بالقراءة كمراهق صغير ومهتم بمعرفة كل شيء وكل رأي جاد، وهو درس كبير لي في ألا أتوقف أبدا عن المعرفة والتعلم طوال الوقت". أنا لا أتبني أحدا الكاتبة لمياء مختار صاحبة مسرحية "ولكنه موتسارت" التي أشاد بها أنيس منصور ورعاها منذ بدايتها بأن كتب لها المقدمة، أكدت أن جملته الشهيرة "أنا لا أتبني أحدا" لم تكن حقيقية لأنه كان يهتم جدا بالمواهب الحقيقية والدؤوبة، في حزن شديد تتذكر بداية تعرفها إليه وما تعلمته منه : " الحقيقة لا أعرف ماذا أقول!!! فأنا في قمة الحزن والأسي لفقدانه..فلقد أرسلت له مسودة العمل إلي مكتبه في الأهرام ولم يكن يعرفني مطلقا!..ففوجئت بعد يومين تقريبا يتصل بي ليقول رأيه في المسودة وأنه شعر أنني كاتبة جيدة إنما هناك بعض التعديلات التي يحتاجها النص، وبالفعل بدأت جلسات العمل التي تعلمت منه الكثير والكثير فيها، تميز الأستاذ بأنه كان شديد في التعامل وحازم لكن بشكل أبوي جدا يهدف منه إخراج أفضل ما لدي وأن أقدم نفسي بالشكل السليم والمعبر عن الموهبة. في الأيام الأخيرة تحديدا في عيد ميلاده حينما حاولت الاتصال به لم يرد علي! ربما لأن المرض كان قد بدأ يشتد عليه، بشكل عام كان الأستاذ له مزاج الفنان أو الكاتب الكبير فلم يكن متاحا في كل الأوقات، كان يحب دوما تبني الشباب والمواهب الجديدة لكنه كان حازما في تصرفاته معهم كما تعلم وتتلمذ علي يد العقاد. أستاذ أنيس كان له قلب طفل صغير فكانت أقل كلمة أو لفتة بسيطة تسعده جدا ويقدرها للغاية، فمن أكثر ما أدهشني هو امتنانه لي حين كتبت "أنيس..لمسة ميداس و ينابيع بيجاسوس" في الكتاب التذكاري الصادر عن دار الهلال في 2010، أيضا عرضي لكتابه الأخير "أيام السادات"، من أكثر الذكريات الخاصة لدي هو حينما أهداني كتابه كتب " إلي الزميلة الأديبة.." لقد كان في قمة التواضع وقادر علي دعم الشباب بأسلوب متميز جدا، فأنا لست سوي كاتبة مبتدئة بعد! فيلسوف الصحافة.. إلي مثواه الأخير شيع أمس لفيف من الساسة والصحفيين في مقدمتهم عدد من رؤساء الصحف القومية والحزبية والخاصة حاليين وسابقين ورجال دين إسلامي ومسيحي جثمان الكاتب الكبير أنيس منصور محمولاً علي الأعناق إلي مثواه الأخير ليرقد إلي جوار والدته في مقابر مدينة نصر تلك السيدة التي ارتبط بها روحانياً وروي عنها الكثير من الكتابات في أدبياته حتي رحل عن عمر يناهز «87» عاماً بعد حياة طويلة حافلة بالعطاء والإنجازات الفكرية والأدبية والصحفية. حيث شارك عدد كبير من رجال الإعلام والثقافة والفن في تشييع جنازة الكاتب الصحفي الكبير أنيس منصور من مسجد عمر مكرم، حيث تمت الصلاة علي جثمانه عقب صلاة الظهر الذي شهد حشدا هائلا من المصلين من جميع الأعمار. وعقب الصلاة، حمل الجثمان جمع غفير يتقدمهم الكاتب الصحفي محمد عبدالقدوس عضو مجلس نقابة الصحفيين ورئيس لجنة الحريات، وعدد كبير من شباب الصحفيين. حضر تشييع الجنازة أسامة هيكل وزير الإعلام، وعماد أبوغازي وزير الثقافة، والدكتور مفيد شهاب وزير الشئون القانونية والمجالس النيابية السابق، وفاروق حسني وزير الثقافة الأسبق، والدكتور عبدالعزيز حجازي رئيس وزراء مصر الأسبق، وزاهي حواس وزير الآثار الأسبق، ومصطفي الفقي رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشوري السابق، والكاتب مكرم محمد أحمد، ومن الفنانين.. محمود عبدالعزيز، وأشرف عبدالغفور نقيب الفنانين، وعدد كبير من زملاء الكاتب الراحل منهم صلاح منتصر وإبراهيم نافع، فضلا عن جمع غفير من الصحفيين وأعضاء مجلس النقابة. نشأ أنيس منصور في قرية مصرية تابعة لمدينة المنصورة وتأثر بالريف المصري ومنذ صغره كان متفوقاً في كل ما تعلم وكان قارئاً جيداً، حيث كان يقرأ ويقرأو ويقرأ حتي أنهي مكتبات عديدة وكون ثقافة واسعة وحفظ أنيس منصور القرآن الكريم في سن صغيرة في كُتَّاب القرية وفي دراسته الثانوية كان الأول علي كل طلبة مصر حينها، ثم التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة ودخل قسم الفلسفة الذي تفوق فيه وحصل علي ليسانس الآداب عام 1947 وعمل مدرساً في قسم الفلسفة لكن في جامعة عين شمس لفترة ثم تفرغ للكتابة والعمل الصحفي في مؤسسة أخبار اليوم حيث كانت بدايته في عالم الصحافة ثم تركها إلي مؤسسة الأهرام في مايو 1950م حتي عام 1952 ثم سافر إلي أوروبا مع كامل الشناوي وفي ذلك الوقت قامت ثورة 23 يوليو 1952 فأرسل أول موضوعاته لأخبار اليوم وظل يعمل فيها حتي تركها عام 1976 ليكون رئيساً لمجلس إدارة دار المعارف وبعدها أصدر مجلة الكواكب. ورأس أنيس منصور تحرير عدة دوريات منها الجيل وهي وآخر ساعة وأكتوبر والعروة الوثقي ومايو وكاريكاتير الكاتب وهو صاحب المقال اليومي الشهير مواقف في جريدة الأهرام، كما كان يكتب مقالاً في جريدتي الشرق الأوسط والعالم اليوم اليوميتين. وأجاد أنيس منصور عدة لغات هي الإنجليزية والألمانية والإيطالية واللاتينية والفرنسية والروسية واطلع علي كتب عديدة في هذه اللغات وترجم بعضاً من الكتب والمسرحيات منها رومولوس العظيم وزواج السيد رمسيس وهي وعشيقها وأمير الأرض البور ومشعلو النيران ومن أجل سواد عينيها وفوق الكهف وتعب كلها الحياة. وسافر أنيس منصور ودار الدنيا في كل اتجاه فكتب الكثير من أدب الرحلات وربما كان الأول في أدب الرحلات وألف كتباً عديدة منها «بلاد الله لخلق الله - غريب في بلاد غريبة - واليمن ذلك المجهول - وأنت في اليابان - وبلاد أخري - وأطيب تحياتي في موسكو - وأعجب الرحلات في التاريخ» وكتابه الأهم والأكثر انتشاراً باللغة العربية «حول العالم في 200 يوم». وفي فترة من الفترات كانت كتابات أنيس منصور في ما وراء الطبيعة هي الكتابات المنتشرة بين القراء والمثقفين ومن أشهر كتبه في هذا المجال «الذين هبطوا من السماء والذين عادوا إلي السماء ولعنة الفراعنة». وقد ألف أنيس منصور أكثر من 200 كتاب كما كتب روايات عديدة تحول بعضها لأعمال درامية وألف 13 مسرحية. وارتبطت لدي أنيس الصحافة بالفلسفة حتي أطلق عليه لقب «فيلسوف الصحافة». كما ارتبط بصداقة قوية بالرئيس الراحل أنور السادات وحصل الكاتب الكبير علي العديد من الجوائز منها الدكتوراة الفخرية من جامعة المنصورة وجائزة الفارس الذهبي من التليفزيون المصري أربع سنوات متتالية وجائزة كاتب الأدب العلمي الأول من أكاديمية البحث العلمي، كما فاز بلقب الشخصية الفكرية العربية الأولي من مؤسسته السوق العربية في لندن وحصل علي لقب كاتب المقال اليومي الأول في أربعين عاماً ماضية وجائزة الدولة التشجيعية في الأدب من المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عام 1963 وجائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلي للثقافة عام 1981 وجائزة الإبداع الفكري لدول العالم الثالث عام 1981 وجائزة مبارك في الآداب من المجلس الأعلي للثقافة عام 2001.