«يا أنيس رئيس الجمهورية يبحث عنك فى كل مكان.. فتعال بالذوق وإلا.. أنا على يقين من أنك سوف تجىء بالذوق!» هذا هو نص الخطاب الذى بعث به الرئيس الراحل أنور السادات بخط يده إلى الفيلسوف والمفكر والأديب العملاق أنيس منصور وهو الخطاب الذى احتفظ به أنيس منصور بين أوراقه ورسائله وتسجيلاته مع الذين عاصرهم وفى مقدمتهم الرئيس الراحل. والخطاب رغم بساطته إلا أنه يعكس مدى العلاقة بين الراحلين رئيس الجمهورية والمفكر الأديب، يحكى أنيس منصور عن هذه العلاقة وكيف تعرف على السادات فيقول: السادات كان يقرأ لى، وحينما كان مشرفًا على «أخبار اليوم» حدث أننى كنت خارجًا من الأسانسير وهو داخل، فلما رآنى وأنا لا أعرفه شخصيا قال لى: إزيك يا أستاذ فلان، أنا قرأت لك المقال الأخير.. فقلت له: متشكر قوى. وانصرفت. فإذا بالرجل المسئول عن الاستعلامات يقول لى: سيادة النائب يريدك. واتضح لى أن السادات كان يكلمنى ويريد أن يواصل الكلام معى وأنا لم أنتبه أو آخد بالى. وطلب منى بعد أن عدت إليه أن أحرر صفحة أدبية يومية فى الأخبار، وأن أتصل به لأنه يريد أن يعطينى مذكراته. ثم قابلته فى فرح خال زوجتى، توفيق عبدالفتاح، الذى كان وزيرا للشئون الاجتماعية، وهو أصلا من الضباط الأحرار. وسألنى ماذا تفعل هنا؟ قلت له: إنه خال زوجتى. وصعدنا معًا والتقطت الصور وقدمته لزوجتى فإذا به يقول لها: الله يكون فى عونك! وإلى أن مات كنت أسأله: ما المعنى.. ما الذى كان يقصده؟ فكان يكتفى بالضحك فقط. وطلبت من السيدة جيهان أن تسأله وتحاول أن تعرف مقصده، فقالت إنها سألته ولايريد أن يجيب. وعندما رويت هذه الحكاية ليوسف السباعى، اقترح علىَّ أن أتصل به، لكننى لم أتصل إلى أن صار رئيسا للجمهورية، وفاتحنى فى إصدار مجلة «أكتوبر». وبدأت بيننا علاقة قوية جدًا.. هو الذى قواها.. أنا كنت «كاشش» ومترددا. وعن الفارق بين علاقته مع السادات وعلاقة هيكل مع عبدالناصر، يقول أنيس: عبدالناصر عرف هيكل وهو صحفى، وأنا عرفت السادات وتكوينى غير صحفى فأنا أديب ومفكر. ثم إن هيكل لعب دورًا سياسيًا أما أنا فقد اشتغلت بالفكر السياسى ولكنى لم أنخرط فى التنظيم السياسى. وكما أن السادات مختلف عن عبدالناصر فأنا أيضا مختلف عن هيكل. ويؤكد أنيس منصور أن قربه من السادات ساعد على تبصيره بأمور كثيرة لم يكن يعرفها جدا مثل تاريخ الصهيونية والفكر السياسى اليهودى والديانة اليهودية. وفى كتاب بديع وضعه زميلنا الكاتب الصحفى إبراهيم عبدالعزيز بعنوان (رسائل أنيس منصور) يؤكد فيلسوف البسطاء أنه كان يقابل أولاً كل من كان يقابلهم السادات ليعرف ماسوف يقولون له، ليكون على بيّنة ومعرفة بمن يقابل ولماذا يقابله؟ وزير خارجية غير رسمى/U/ ارتبط أنيس منصور بعملية السلام بين مصر وإسرائيل حتى قبل الزيارة التاريخية التى قام بها السادات للقدس والتى صاحبه خلالها، وكان السادات يكلفه بمهام سرية كثيرة فى إسرائيل يحمل خلالها رسائل منه إلى قادتها. وفى نفس الكتاب يسأله زميلنا ابراهيم عبدالعزيز: *ولماذا لم يرسلها عن طريق وزارة الخارجية كما هو متبع؟ *هو لم يكن يريد الخارجية. *أليست هذه ديكتاتورية؟ *عندما يحمل أعضاء من الكونجرس الأمريكىرسائل من رئيس أمريكا إلى الرئيس المصرى، أو يكلفون بمهام سرية، فهل هذه ديكتاتورية من الرئيس الأمريكى؟ إنها نوع من الدبلوماسية الشعبية. *ولكن عضو الكونجرس الأمريكى منصب رسمى؟ *وأنا أيضا صحفى رسمى والرئيس يقدر مشاكله مع وزارة الخارجية ولذلك لم يكن يريد أن يعلم أحد بتلك المهام ويبعث بى لا من شاف ولا من درى، وهذا أسلوب من أساليب الدبلوماسية الشعبية لحل المشاكل سرا، وهو لصالح الدولة لأن الكشف عن تلك المهام يفسدها.. فالتليفونات مراقبة والفاكس يمكن اختراقه، ولايتبقى إلا أن يقوم الرئيس بإرسال مبعوث سرى يتكلم فى أذن المسئولين دون وساطات مما يسهل مهمته ويساهم فى نجاحها بعيدًا عن أجهزة الإعلام. *هل معنى ذلك أن وزراء الخارجية غير مؤتمنين على تلك المهام السرية؟ *لا دخل للأمانة فى هذا الموضوع، لأن وزير الخارجية عندما يقابل رئيس وزراء إسرائيل، فإن ذلك يكون معلنا، ويتبعه مؤتمر صحفى، والسادات لايريد أن يعلن ورئيس الوزراء الإسرائيلى لايريد أن يعلن، لذلك تبقى القناة السرية وسيلة من وسائل حل المشاكل بعيدًا عن الطريق الرسمى العلنى. *وما هى المهمة التى كلفك بها السادات وشعرت أنها تحمل مشكلة عويصة وساهمت أنت فى حلها؟ *كثيرة هى تلك المهام، ولكننى لم أتحدث عنها إلا فى كتاب لى عن السادات. وقد كان أنيس منصور هو العنوان الأول فى إسرائيل للاتصال بالرئيس السادات. وحدث أن أطلق السادات (بالون اختبار) وأعلن عن استعداده لتوصيل مياه النيل إلى إسرائيل، فلاقى ذلك ردود فعل باسمة وجميلة فى إسرائيل مع أن عددًا كبيرًا من الخبراء هناك أعلنوا عن صعوبة ذلك وكان الموضوع مثيرًا لمقالات الصحف والتعليقات. وفى ذات يوم تلقى أنيس منصور مكالمة تليفونية من إسرائيل، وكانت عضوة الكنيست اليمينية المتشددة، جيئولاه كوهين على الخط: *يا أستاذ أنيس، أرجوك أن تبلغ الرئيس أن يكف عن تصريحاته عن مياه النيل، فنحن لا حاجة لنا بالنيل ومياه النيل. *حاضر. *لانريد مياه النيل ولا أمراض مياه النيل ولا البلهارسيا وقل له لا حاجة لنا لا بالماء ولا البلهارسيا. اندهش أنيس منصور من طلب عضوة الكنيست، وفى اليوم التالى ذهب إلى الرئيس السادات وروى له حكاية المحادثة فاندهش هو الآخر وأصيب بصدمة من حكاية البلهارسيا وأخذ يقهقه ويقول لأنيس منصور: من أين جاءت بحكاية البلهارسيا هذه؟ يخرب بيتها! والله لم يخطر الموضوع ببالى مطلقًا هاهاها.. ويحكى إيهود يعارى، مراسل التليفزيون الإسرائيلى، الذى كان يتابع محادثات السلام منذ بدايتها، لأنيس منصور عن جولة محادثات بين السادات وبيجين كانت مثيرة وسريعة الأخذ والرد، فقد كان رئيس الوزراء بيجين متمسكًا بالقانون الدولى الكبير، أوبنهايم ويقتبس منه فيرد عليه السادات بحجج دولية بأن التوسع نتيجة للحروب هو أمر غير مقبول، فيعود بيجين إلى الاقتباس ويؤكد أن أوبنهايم يقول كذا، فأصبح الجدل ساخنا وجو غرفة المحادثات خانقا.. أوبنهايم قال.. القانون الدولى وقرارات الأممالمتحدة تقول، ثم مرة أخرى أوبنهايم أوبنهايم حتى صاح السادات إيه حكاية أوبنهايم أوبنهايم Open the window(افتحوا الشباك) فالجو أصبح خانقًا. أما الأديب الإسرائيلىإسحق بار - موشيه الذى عمل لحوالى سبع سنوات فى مصر كمستشار صحفى بالسفارة الإسرائيلية، فقد خصص فصلا كاملا من كتابه للحديث عن أنيس منصور يقول بارموشيه: الكتابة عن أنيس منصور من الأمور المثيرة تمامًا مثل الحديث معه، فالرجل عبارة عن فرن يغلى دائمًا بالأفكار والنكات وبالتحليلات العميقة والمعلومات التى لا ضابط لها، كان يستقبلنى ويقول: (تعبتونا ياإسرائيليين) يريد أن يؤكد بذلك أن العلاقة معنا تسبب التعب الذهنى، فقد حاربنا المصريون، كما يقول. وأنيس منصور لم يكن يفوته شىء، فالكتب الجديدة يقرأها بسرعة. والكتب الأجنبية تأتيه تباعًا فلا يستطيع أحد اللحاق به فى قراءتها. ويستمع إلى الإذاعات من كل بلد، وهو يتابع الصحف المحلية والعالمية، ولا أحد يعرف كيف وأين يجد الوقت لكل ذلك. ويضيف بار موشيه: كان يذكرنى دائما بما قاله أوسكار وايلد من الأعمال الكلاسيكية العظيمة. فالإسرائيليون الذين يرغبون فى لقائه، نادرًا ما قرأوا له أى كتاب. وأوسكار وايلد عرَّ الأعمال الكلاسيكية ذات مرة بأنها تلك الأعمال التى يتحدث عنها الجميع فى كل مجلس، لا يقرأها أحد وللأسف فقد عرفه الإسرائيليون من الصحف والمقالات السياسية وليس من الكتب، ولو أن أحدًا اعتنى بترجمة كتاب من كتبه لأدرك القراء أن الرجل هو كاتب خطير الشأن وأديب مهم وليس صحفيًا فحسب، وما العمل والمقالات السياسية تنقلها البرقيات فى حين أن الكتب لا تحظى بهذه المعاملة الحسنة. ويستطرد الأديب الإسرائيلى: وأظن أن أنيس منصور سوف يحكم له فى محكمة الأدب قبل كل شىء يكتبه الأوتوبيوجرافية (كتب السيرة الذاتية) مثل «نحن أبناء الفجر» و «إلا قليلا» و«البقية فى حياتى» فهذه كتب فى قمة الكتب الأدبية التى نشرت فى مصر أو فى العالم العربى عامة. أما الموضوع الآخر الذى امتاز به أنيس منصور على كل من عداه فهو تلك الكتب العلمية المبسطة فى علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) التى اعتصر فيها أنيس منصور لقرائه خلاصة ما تجمع للإنسان من معلومات عن نفسه وعن عالم الحيوان المشابه لعالمه. ذهبنا ذات مرة إلى طبيب مصرى فى المعادى فاستقبلتنا الموظفة التى تنظم له الزيارات وكانت شابة صغيرة السن متدنية ترتدى الحجاب وأمامها كتاب لأنيس منصور فقلت لها مداعبًا: هل يعجبك الكتاب؟ قالت: أولًا المعلومات ثم البساطة فى التعبير وإدخال المعنى فى رأسنا تمامًا قلت: أنت وحدك؟ قالت: بل إن معى جيلا كاملا من الشباب والشابات. وقد ظهر لى فى تلك الأيام أن أنيس منصور هو الكاتب الأكثر تأثيرًا على جمهور قراء الصحف بمقاله اليومى الذى ينشره فى الأهرام بعنوان «مواقف». وذلك بالإضافة إلى كتبه ، ولكننى اكتشفت أن غالبية قرائه هم من الشباب. شكا لى أنيس منصور مرارًا من أن عددًا من الصحفيين الإسرائيليين كانوا يهزأون ويسخرون من كل ما يرونه فى مصر، ثم ينشرون صورًا بشعة عن مصر، وكتب مرة أن باستطاعة المصريين أن يكتبوا بنفس اللهجة، وينتهجوا نفس النهج فيقومون بتصوير الأحياء الفقيرة وأكوام الزبالة، ثم يوحون للقارئ بأن إسرائيل هى هكذا. ولكن الحقيقة أن شكوى أنيس منصور وغيره كانت تنصب على الفارق فى النظرة وفى العقلية. قال لى مرة وهو غاضب: تصور يدق أحدهم الباب علىَّ ويدخل وقبل سلام عليكم وقبل فنجان القهوة، يقول لى بسرعة إنه جاء مصر ليومين أو ثلاثة، ثم يقول بسرعة أكبر: عندى سؤال، فأقول له مجاملًا: تفضل ولكنه يلقى علىَّ بسلسلة من الأسئلة وكأنها طلقات رشاش، كل سؤال من الأسئلة يتطلب جوابًا تحليليًا مطولًا. وعندما ينتهى من الأسئلة يكرر على مسامعى أنه مستعجل ولديه فترة قصيرة فقط. وعندما ينتهى من آخر أسئلته أكون أنا رغم ذاكرتى القوية قد نسيت أسئلته الأولى، فماذا تظن أنى فاعل فى مثل هذه الحالة؟ أتريث عن عمد، وأطلب له القهوة وأترك له أن تثور أعصابه وأن يزمجر فى داخل نفسه، ثم أقول له: هل رأيت المنظر الجميل من شباكى هنا فى المكتب؟ طبعًأ إن لم يرد شيئًا فهو مشغول بنفسه وبما ألقاه علىَّ من أسئلة هجومية. فأقول له ببرود: تعال لأريك المنظر. وكان مكتب أنيس منصور يقع فى الطابق الثامن من مبنى مجلة أكتوبر، والشباك الكبير يطل على كورنيش النيل، ومنظر النيل من هذا الشباك لا ينسى : فيأخذ أنيس ضيفه إلى الشباك، وبعد دقائق من الصمت والتأمل، يقول له: هل ترى أمواج النيل الصغيرة المحبوكة المتشابكة؟ إن النيل هادىء، وهذه الموجات تتولد من سرعة سريان الماء. نحن لا نعدو. نحن نقوم بما نقوم به بموجب مقاسات طبيعية خاصة بنا فأرجوك أرجوك. وينتهى بارموشيه إلى أن هذا لم يكن وعظًا ولم يكن لومًا، بل كان ردًا على إيقاع مفتعل، وعلى رغبة فى فرض هذا المقاس على شخص لا يريد وينتمى إلى شعب لا يفهمه، ولا يهمه أن يفهمه. أما نحن الجانب الآخر فلم يحدث أننا رغبنا كثيرًا فى فهم الجانب الآخر. رائد الربيع العربى/U/ ما أعرفه أن هناك رسالتين للدكتوراه على الأقل تم تقديمهما عن أنيس منصور: رسالة من مصرى هو زميلنا رفعت فودة الذى هاجر إلى أستراليا، والثانية من إسرائيلية هى سيجال كرجى، الأستاذة فى جامعة بين جوريون فى بئر سبع. ويقول الدكتور شموئيل موريه، وهو باحث أدبى كبير سواء فى إسرائيل أو فى الخارج: فى غمرة أحداث الربيع العربى العنيفة المتلاحقة فى الشرق الأوسط ومطالبة الشباب العربى الناهض فى ربيعه بالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة وتحرير المرأة والديمقراطية واسقاط النظم السياسية الديكتاتورية التى قامت على انقلابات عسكرية بدعوى أنها ثورات شعبية، يقف ثلاثة من عمالقة الفكر العربى فى مصر وهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأنيس منصور، وخليفته الأديب على سالم حفظه الله وأطال من عمره، فى طليعة المفكرين والكتّاب العرب الذين يدافعون عن حرية الفكر والديمقراطية والعلمانية والعلوم الحديثة ويرون فيها الحل الناجع لمشاكل البلاد العربية عامة ومشاكل مصر خاصة. ويضيف موريه فى الوقت الذى اتخذ فيه كل من الحكيم ومحفوظ الفن القصصى والروائى لبث هذه الآراء التقدمية والفلسفية، وهى فنون يفهما ويتذوقها كبار المثقفين خاصة، نجد أن الأستاذ أنيس منصور بفضل وسائل الاتصال الجماهيرية المباشرة بالإضافة إلى الفن الروائى، ليلعب الدور الرئيس فى نشر الفكر العلمانى وحرية التعبير وتحرير المرأة والديمقراطية والفلسفات الغربية والفلسفة الوجودية بصفة خاصة، وذلك عن طريق مقالاته المتنوعة فى الصحف والمجلات الواسعة الانتشار وأحاديثه الواضحة المبسطة للأفكار والفلسفات والعلوم الحديثة فى الراديو والتليفزيون بحيث تغلغلت آراؤه الإصلاحية والحرة فى وعى أوسع الطبقات الشعبية وبين الشباب العربى خاصة. وهو بذلك سبق بسنوات عديدة نقد الروائى علاء الأسوانى وغيره لنظام الرئيس المصرى السابق حسنى مبارك فى روايته «عمارة يعقوبيان» و «حكاية للكبار والصغار» الرمزية وغيرهما، ويبدى الأسوانى فى مقالاته السياسية تعصبًا قوميًا لا يتناسب ومكانته الثقافية والأدبية التى تحتم على أمثاله الانفتاح الإنسانى جمعاء فقد عارض الأسوانى صدور الترجمة العبرية لرواية (عمارة يعقوبيان) فى إسرائيل، وهى الترجمة الرائعة التى قام بها الأستاذ المترجم موشيه حاخام العراقى المولد والذى يحاول أن يكون جسرًا للتواصل اليهودى العربى فى مجال الثقافة والعلوم، وقد نشر هذه الترجمة المركز الإسرائيلى - الفلسطينى للأبحاث والإعلام، وبمقاطعته لهذه الترجمة يريد الأسوانى أن يقول صراحة إنه ضد التطبيع مع إسرائيل التى نال عشرة من علمائها جائزة نوبل للعلوم وضد التواصل الأدبى الفنى بين الدول والشعوب المجاورة. ويستطرد موريه ويقول: أما الأستاذ أنيس منصور فبعد أن عادى اسرائيل وهاجم اليهود والصهيونية ، أصبح فيما بعد من أنصار التطبيع والانفتاح الفكرى على إسرائيل وعلى العولمة فهو أول من دعا الشباب العربى فى كتابه (الوجودية) إلى اعتناق الفلسفة الوجودية - الأوروبية التى قال بها كبار الفلاسفة الوجوديين، من أمثال جان بول سارتر وكامى وألبيرتو مورافيا والفيلسوف اليهودى مارتن بوبر، كحرية الفكر والمساواة بين البشر ومحاولة فهم الآخر. وفى النهاية يرى موريه أن العالم العربى مدين لريادة الأستاذ أنيس منصور فى الدفاع عن العولمة والانفتاح على الفكر العالمى والحضارات عامة وفى بزوغ شمس الربيع فى البلاد العربية. فكل كتبه موجهة إلى الشباب العربى الناهض وإلى محاولة خلق جيل من الشباب الواعى بقضايا وطنه وتأمين مستقبله بالاطلاع على انجازات الغرب وتياراته الفكرية والعلمية واعتناق التفكير المنطقى العقلانى إلى جانب اهتمامه بالغيبيات وما وراء الطبيعة وبالعقيدة الاسلامية الصافية السمحة. آخر الظرفاء/U/ تميز أستاذنا الراحل أنيس منصور بروحة المرحة ودعاباته التى فى كثير من الأحيان تكون قاسية بعض الشىء.. ففى زيارته الأولى لإسرائيل ضمن الوفد المرافق للرئيس السادات، ذهب إلى حائط المبكىبصحبة السيدة همت مصطفى التى سألته عن معنى هذا الحائط فأخذ يشرح لها ثم قال: جاء رجل أمريكانى إلى القدس ولأنه لايعرف اسم حائط المبكى قال لسائق التاكسى أن يأخذه إلى المكان الذى يبكى عنده اليهود فأخذه السائق إلى مصلحة الضرائب. وفى يوم من الأيام عرض أنيس على الرئيس السادات «علبة فارغة».. علبة تباع فى بازارات القدس مكتوب عليها «هذه العلبة بها هواء من القدس» ضحك السادات وقال: نحن إذا نتفاوض مع أناس يبيعون الهواء! فقال أنيس: لا تنسى ياريس أننا أيضاً دهنا الهوا دوكو! فضحك الرئيس وذكر له أن أحد المطاعم على النيل فى روض الفرج كان صاحبه يطالب الزبائن الجالسين فى الهواء بأن يدفعوا أكثر من الجالسين داخل المطعم.. فهو أيضاً يبيع الهواء للمصريين!وفى ذات يوم دعى أنيس منصور إلى حفل عشاء أقامه السادات لمناحم بيجين، وكان فى صحبة بيجين صحفيون كثيرون. فقام منظمون الحفل بوضعهم إلى جانب صحفيين مصريين بارزين. وتصادف أن جلس أنيس منصور على طاولة عشاء واحدة مع رئيسة تحرير صحيفة (دافار) آنذاك ، حنة زيمير. فأطلق أنيس العنان لنكاته ومداعباته، وقال لها: *هل تعرفين أننا نأتى بالمياه المعدنية فى الحفلات التى نقيمها للإسرائيليين عن عمد؟ *لا أعرف.. لماذا؟ *نحن لا نريد أن نأتى للمدعوين الإسرائيليين بمياه النيل. *حقاً.. لماذا؟ *هناك أسطورة تقول إن من يشرب من مياه النيل ، يطلب دائماً العودة إلى مصر ونحن لا نريد أن تعودوا إلينا. يقول أنيس منصور إن الحادث لم يمر بسلام فقد هاجت حنة زيمير ونادت وتركت المائدة من شدة غضبها وعبثاً حاول الآخرون أن يقنعوها بأن ماقاله أنيس منصور مجرد نكته أو دعابة بريئة. *** وكاتب هذه السطور شاهد على زيارات كثيرة قام بها كبار القادة فى إسرائيل للمفكر والكاتب والأديب أنيس منصور فى مكتبه الكائن بالطابق الثامن من مبنى مجلة أكتوبر. فقد توافد عليه كل من شمعون بيريس وموشيه ديان وأبا إيبان وحاييم بارليف وآخرون ، كان يقدمنى إليهم وأنا شاب صغير فى بدايات عملى الصحفى بقوله: زميلى الأستاذ فلان. كما أذكر أن الأستاذ نجح فى إقناع موشيه ديان بأن يرسل كتاب مذكراته التى حملت عنوان (هل إلى الأبد سيظل السيف يأكل) وهى جملة مأخوذة من التوراة، حتى قبل صدور هذه المذكرات فى إسرائيل، فأرسل «ملازم» الكتاب الذى ترجمناه وانفردنا بنشره فى «أكتوبر». كما أذكر أيضاً أنه فى ذات مرة اشتكى الإسرائيليون لأنيس منصور من السلام البارد وعدم إقدام المصريين على التطبيع. فرد عليهم بظرفه المعهود:عندنا فى الوزارة 2 موسى (يقصد عمرو موسى، وزير الخارجية، وعبدالحليم موسى، وزير الداخلية وقتها) فهل يوجد محمد واحد فى وزارتكم؟!