قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار فى أى لحظة، لتقتل الآلاف من المواطنين الأبرياء، إنها منطقة «العكرشة»، التابعة لمركز أبو زعبل، حيث تحتوى على أكثر من 250 مصنعا صغيرا، تعمل معظمها ليلا فى الخفاء، وتقوم على تصنيع المواد الخطيرة، مثل صهر بطاريات السيارات القديمة، لاستخراج الرصاص منها، وتسييح المخلفات لاستخراج الحديد والألومونيوم، باستخدام وسائل بدائية، تتسبب فى انبعاث مئات الغازات السامة المدمرة لصحة الإنسان، والبيئة المحيطة بها. «الشروق» زارت المنطقة الموبوءة، التى يقطنها أكثر من 30 ألف نسمة، والتى تربط بين مدينة السلام وأبو زعبل ومدينة الخانكة وعزبة الأبيض، حيث تستقبلك أكوام القمامة، عند مدخلها، وتستنشق روائح كريهة منتشرة فى الهواء.
استقبلنا الأهالى بحالة من الغضب بسبب عدم الاهتمام بهم إلا بعد حدوث كارثة مصرع وإصابة 24 من أبناء القرية نتيجة الغازات السامة الأسبوع الماضى، مرددين أن الأضواء مسلطة عليهم الآن باعتبارهم مادة إعلامية تنتهى بعد أيام، فور ظهور موضوع أو قضية أخرى غيرهم، ليعودوا إلى حالة النسيان، والإهمال التى كانوا عليها، من قبل المسئولين والإعلام.
يقول عرفه نجم الدين، وهو من أهالى «العكرشة» إن «المنطقة منذ سنوات أصبحت مأوى لأصحاب الصناعات المحرمة، الذين يعملون بشكل غير رسمى، وبطرق ملتوية، يستغلون فيها فساد المحليات، بدفع الرشاوى للموظفين، والمسئولين للسماح لهم بممارسة أعمالهم، والعمل على قتلنا بالبطىء».
«زاد الطين بلة، قيام محافظ القليوبية، السابق عدلى حسين، بتحويل المنطقة لسلة مهملات المحافظة، عندما نقل نحو 150 مسبكا من منطقة شبرا الخيمة، إلى العكرشة، ورغم الاحتجاجات الشعبية وقتها، أصر المحافظ على موقفه». يضيف نجم الدين.
نقل المسابك إلى «العكرشة» جعلها بؤرة لكل أنواع التلوث، لدرجة أن من يزور المنطقة لوقت بسيط لابد أن يصاب بأمراض صدرية ويصاب الجهاز التنفسى، بسبب استنشاق الهواء، وهو ما كنا نشعر به منذ سنوات قبل أن نتعود على استنشاق السموم، دون أن نميزها، أو نشعر بها ولا يوجد منزل بالمنطقة إلا وفيه فرد أو أكثر مصاب بأمراض تنفسية وصدرية» كما يؤكد نجم الدين، الذى أضاف أن «الكثير من أطفال القرية مصابون بأمراض رئوية، وحساسية مزمنة فى الصدر، وكل الأطباء أجمعوا أن السبب الرئيسى عناصر الرصاص والأمونيا التى نستنشقها على مدار اليوم، من عوادم المصانع والمسابك».
سيدة العربى، واحدة من سكان القرية الملوثة تطالب وهى غاضبة جدا ب«محاكمة المسئولين السابقين والحاليين فى محافظة القليوبية؛ على التلوث الذى أصاب المواطنين فى العكرشة والقرى والعزب المحيطة بها جراء غض الطرف عن مصانع بير السلم التى تهدد حياتهم بمخلفاتها وأدخنتها الكفيلة بحرق الحجر والشجر».
الغريب من وجهة نظر سيدة أنه بعد وفاة 4 من أهالى عزبة الأبيض المجاورة ل«العكرشة» وإصابة 20 باختناق لم يحرك المسئولون ساكنا.. الموضوع مرّ وكأن شيئا لم يكن.. لا توجد أى إجراءات اتخذتها الحكومة حيال المصانع والمسابك المخالفة».
كل ما مررنا بشارع داخل «العكرشة» يستوقفنا أهله.. رواياتهم متطابقة عن انتهاك حقهم فى العيش فى بيئة نظيفة.. لا تسبب لهم الأمراض.. كما أنك طوال تجولك فى القرية لا تخطئ عيناك مصانع بدائية من كل لون، وغالبا ما تعمل دون ترخيص، والمسابك التى يوميا ما يخرج من مداخنها، عناصر الرصاص والغازات المدمرة للصحة، وتتسبب فى أمراض سرطانية، كما توجد مصانع لصهر البطاريات المستعملة، ما يتسبب فى انتشار عناصر الرصاص، المختلطة بمياه النار الموجودة بالبطاريات، وهو ما ينتج عنه غازات قاتلة لا يستطيع بشر تحمل استنشاقها.
ويقول سكان «العكرشة» إن « المصانع غالبا ما تمارس عملها ليلا، ما يجعل الهواء فى هذا التوقيت وكأنك فى حرب كيماوية، من شده الرائحة، وهو ما تسببه من هيجان فى الصدر، وعدم قدره على التنفس، وحساسية فى الصدر».
وهدد الأهالى بالاعتصام داخل المجلس المحلى، وقطع الطرق، واقتحام تلك المصانع والمسابك بالقوة وإحراقها، إذا لم يتدخل المسئولون للإنقاذ أرواحهم، وتركهم للصراع مع الموت البطىء والأمراض الخبيثة، بعد انسحاب الأضواء من عليهم مع انتهاء أهمية الأحداث.
خبراء: غازات المسابك تصيب المواطنين بالسرطان
د. محمد عمران، الخبير البيئى، قال إن غاز الأمونيا وعناصر الرصاص الناتجة من المسابك والمصانع الموجودة بمنطقة العكرشة، تتسبب فى أمراض خطيرة للإنسان وتقتل الأخضر واليابس، وتتسبب عناصرها التى تتراكم على الزراعات وعلى أجساد المواطنين، فى أمراض سرطانية، وجلدية خطيرة، كما تسبب التحجر الرئوى، كما أن الرياح تحمل تلك الغازات إلى العديد من المناطق المأهولة بالمواطنين، وهو ما يعرض حياتهم للخطر، ويصيبهم بأمراض تظهر أعراضها على المدى البعيد، بعد أن تتشبع بها أجسادهم ما يعنى أن هناك الآلاف من المواطنين، عرضه للموت بسبب تلك الغازات، سواء فى منطقة العكرشة نفسها، أو القرى والمدن القريبة منها».
وأضاف عمران: «إن المصانع والمسابك الموجودة فى المنطقة تتسبب فى موت الأشجار واقفة فى مكانها، وتقتل الكائنات الحية فى مياه الترع الموجودة بالمنطقة، فما بالنا بما تفعله فى البشر، كما أن غاز الأمونيا يمثل خطورة مباشرة على السكان لأنه سام جدا ويمكن أن يسبب الوفاة إذا تعرض الإنسان لنسبة كبيرة منه».
وقال الخبير البيئى أحمد عز الدين: «إن ما حدث فى منطقة العكرشة، الأسبوع الماضى بعد وفاه 4 مواطنين، وإصابة 20 من أهل المنطقة نتيجة تعرضهم لغازات سامة، لم يكن الحالة الأولى ولن تكون الأخيرة، وعلينا أن ننتظر تكرارها قريبا، ما لم يتم تدخل المسئولون والحكومة لوضع حلول للحفاظ على أرواح الآلاف من المواطنين، ومئات الأفدنة من الأراضى الزراعية التى ستدمرها الغازات والعناصر السامة».
وأضاف عز الدين: «أن مخاطر المصانع والمسابك بتلك المنطقة، يتعرض لها المواطنون سواء كانوا مقيمين داخل الكتلة السكنية أو خارجها حيث تتسبب فى الإصابة بأمراض عديدة منها الجفاف والالتهاب الرئوى عند الأطفال، وأمراض الجهاز الهضمى والتنفسى، وأمراض الكبد والكلى، عند الكبار، حيث إن تلك الغازات تؤثر على الإنسان بشكل كامل، وتتسبب فى التأثير على وظائف المخ».
وأكد عز الدين أن هناك عينات أخذت من الهواء والتربة بتلك المنطقة فى وقت سابق، أكدت أن تلك المنطقة من أكثر المناطق تلوثا فى مصر، وأن العناصر والأتربة الضارة تنتشر فى الهواء والماء، وتتراكم على الزراعات، والمبانى.
وطالب الخبيران بضرورة نقل تلك المصانع والمسابك على الفور بعيدا عن الكتل السكانية ولمسافات بعيدة داخل الصحراء، وإجراء الكشف على سكان المنطقة، وعلاج المصابين منهم، وتقديم العلاج الوقائى لغير المصابين بأمراض، مع ضرورة تطهير المصارف والترع بالمنطقة والتى يشرب منها الماشية وتروى منها الزراعات.