وزيرة التضامن الاجتماعي: مستحيل خروج أسرة تستحق الدعم من تكافل وكرامة    روسيا تشن هجومًا جويًا على العاصمة الأوكرانية كييف    ضبط أكثر من طن كوكايين على متن قارب قبالة سواحل أستراليا    ترامب: فخور بالهند وباكستان لإدراكهما أن الوقت حان لوقف إطلاق النار    «كلاسيكو الأرض وليفربول ضد آرسنال».. مواعيد مباريات اليوم الأحد والقنوات الناقلة    تشكيل ريال مدريد المتوقع ضد برشلونة اليوم في الليجا    طقس اليوم: شديد الحرارة نهارا معتدل ليلا.. والعظمى بالقاهرة 40    نقيب الفلاحين: مش هندفن رؤوسنا في الرمال.. بعض لحوم الحمير تسربت للمطاعم    حظك اليوم الأحد 11 مايو وتوقعات الأبراج    هل للعصر سنة؟.. داعية يفاجئ الجميع    أسعار الخضروات والفاكهة والأسماك والدواجن اليوم الأحد 11 مايو    اليوم.. انطلاق التقييمات المبدئية لطلاب الصفين الأول والثاني الابتدائي    أسعار الذهب اليوم الأحد 11 مايو في بداية التعاملات    لأول مرة.. نانسي عجرم تلتقي جمهورها في إندونيسيا 5 نوفمبر المقبل    ترامب: أحرزنا تقدمًا في المحادثات مع الصين ونتجه نحو "إعادة ضبط شاملة" للعلاقات    صنع الله إبراهيم يمر بأزمة صحية.. والمثقفون يطالبون برعاية عاجلة    جوميز عن تدريب الأهلي: كل شيء وارد في كرة القدم    بالتردد.. تعرف على مواعيد وقنوات عرض مسلسل «المدينة البعيدة» الحلقة 25    الدوري الفرنسي.. مارسيليا وموناكو يتأهلان إلى دوري أبطال أوروبا    في ظل ذروة الموجة الحارة.. أهم 10 نصائح صحية للوقاية من ضربات الشمس    «جودة الحياة» على طاولة النقاش في ملتقى شباب المحافظات الحدودية بدمياط    تعليق مثير من نجم الأهلي السابق على أزمة زيزو والزمالك    ما شروط وجوب الحج؟.. مركز الأزهر للفتوى يوضح    سعر الموز والخوخ والفاكهة بالأسواق اليوم الأحد 11 مايو 2025    إخلاء عقار من 5 طوابق فى طوخ بعد ظهور شروخ وتصدعات    إصابة شاب صدمه قطار فى أبو تشت بقنا    انطلاق النسخة الثانية من دوري الشركات بمشاركة 24 فريقًا باستاد القاهرة الدولي    نشرة التوك شو| "التضامن" تطلق ..مشروع تمكين ب 10 مليارات جنيه وملاك الإيجار القديم: سنحصل على حقوقن    سامي قمصان: احتويت المشاكل في الأهلي.. وهذا اللاعب قصر بحق نفسه    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الأحد 11 مايو 2025    "التعليم": تنفيذ برامج تنمية مهارات القراءة والكتابة خلال الفترة الصيفية    أحمد فهمى يعتذر عن منشور له نشره بالخطأ    ورثة محمود عبد العزيز يصدرون بيانًا تفصيليًا بشأن النزاع القانوني مع بوسي شلبي    إنتهاء أزمة البحارة العالقين المصريين قبالة الشارقة..الإمارات ترفض الحل لشهور: أين هيبة السيسى ؟    مصرع وإصابة 4 أشخاص في حريق مطعم مصر الجديدة    كارثة منتصف الليل كادت تلتهم "مصر الجديدة".. والحماية المدنية تنقذ الموقف في اللحظات الأخيرة    وزير الصحة: 215 مليار جنيه لتطوير 1255 مشروعًا بالقطاع الصحي في 8 سنوات    حكام مباريات الأحد في الجولة السادسة من المرحلة النهائية للدوري المصري    مصابون فلسطينيون في قصف للاحتلال استهدف منزلا شمال غزة    المركز الليبي للاستشعار عن بعد: هزة أرضية بقوة 4.1 درجة بمنطقة البحر المتوسط    انتهاء هدنة عيد النصر بين روسيا وأوكرانيا    5 مصابين في انقلاب ميكروباص بالمنيا بسبب السرعة الزائدة    «التعاون الخليجي» يرحب باتفاق وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان    محافظة سوهاج تكشف حقيقة تعيين سائق نائباً لرئيس مركز    رسميًا.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي وطريقة استخراجها مستعجل من المنزل    خالد الغندور: مباراة مودرن سبورت تحسم مصير تامر مصطفى مع الإسماعيلي    ضع راحتك في المقدمة وابتعد عن العشوائية.. حظ برج الجدي اليوم 11 مايو    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأحد 11 مايو 2025    أمانة العضوية المركزية ب"مستقبل وطن" تعقد اجتماعا تنظيميا مع أمنائها في المحافظات وتكرم 8 حققت المستهدف التنظيمي    في أهمية صناعة الناخب ومحاولة إنتاجه من أجل استقرار واستمرار الوطن    «أتمنى تدريب بيراميدز».. تصريحات نارية من بيسيرو بعد رحيله عن الزمالك    أبرزها الإجهاد والتوتر في بيئة العمل.. أسباب زيادة أمراض القلب والذبحة الصدرية عند الشباب    تبدأ قبلها بأسابيع وتجاهلها يقلل فرص نجاتك.. علامات مبكرة ل الأزمة القلبية (انتبه لها!)    منها «الشيكولاتة ومخلل الكرنب».. 6 أطعمة سيئة مفيدة للأمعاء    بعد انخفاضه.. سعر الدولار مقابل الجنيه اليوم الأحد 11 مايو 2025 (آخر تحديث)    عالم أزهري: خواطر النفس أثناء الصلاة لا تبطلها.. والنبي تذكّر أمرًا دنيويًا وهو يصلي    رئيس جامعة الأزهر: السعي بين الصفا والمروة فريضة راسخة    وقفة عرفات.. موعد عيد الأضحى المبارك 2025 فلكيًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البوابة الشرقية.. الجغرافيا والتاريخ والهوية (2)
نشر في الشروق الجديد يوم 14 - 10 - 2011

تكاد تُجمع معظم مصادر تاريخ مصر القديم أن مصر فى عصر الدولة القديمة (2900 إلى 2300 ق.م) عاشت فترات من الهدوء الطويل، إذ لم يعكر صفوها هجمات خارجية تُذكر، إلا فى أواخر عهد الدولة القديمة، أى أيام الأسرة السادسة، وهى آخر أسرة فى هذه الدولة. وربما أتاح لها هذا الهدوء الامكانيات والوقت الذى وفرته الدولة القديمة لإقامة هذا المجد الكبير الباقى حتى الآن، الأهرامات.

لكن الخطر الخارجى الأول والكبير سيأتى من الشرق فى عهد الأسرة السادسة، حيث تعرضت الحدود الشرقية لهجمات جماعات كبيرة من البدو الساميين، الذين عبروا صحراء سيناء فى محاولة للوصول إلى الدلتا، الأراضى الزراعية الخصبة، أو الجنة الموعودة عند هؤلاء البدو.

وتختلف المصادر حول أصول هؤلاء الغزاة، فالبعض ينسبهم إلى مجموعة البدو الرحل فى فلسطين وسوريا، الذين تجمعوا فى كيانات كبيرة لأول مرة، وقصدوا النزول إلى مصر الخضراء. ولكن بعض المصادر الأخرى ترجع أصول هؤلاء الغزاة إلى بلاد سومر، بلاد الرافدين.

على أية حال اجتاح هؤلاء الغزاة سيناء وأصبحوا يشكلون خطرا كبيرا على الدلتا، وعلى الحضارة المصرية المستقرة الراقية ومظاهرها المختلفة، لكن الجيش المصرى كان لهم بالمرصاد. وخرج الجيش المصرى بقيادة القائد الشهير «أونى» ليواجه هؤلاء الغزاة عند الحدود الشرقية للدلتا، ونجح هذا الجيش فى تأديب هؤلاء الغزاة وإلحاق هزيمة نكراء بهم. وهنا سيدرك القائد أونى ألف باء سياسة مصر الخارجية تجاه الشرق: إن تأمين الحدود الشرقية لا يبدأ من سيناء، ولكن فيما وراء سيناء. ولذلك سيطارد الجيش المصرى هؤلاء داخل سوريا الجنوبية حتى يستطيع تأمين سيناء البوابة الشرقية لمصر.

ويذكر لنا عالم المصريات الشهير «عبدالمنعم أبوبكر» الأنشودة المصرية التى تغنى بها المصريون بمناسبة عودة جيشهم المنتصر من سيناء:

هذا الجيش عاد إلى وطنه سالما

بعد أن مزق بلاد سكان الرمال

هذا الجيش عاد إلى وطنه سالما

بعد أن خرب بلاد سكان الرمال

هذا الجيش عاد إلى وطنه سالما

بعد أن دمر حصون الأعداء

هذا الجيش عاد إلى وطنه سالما

بعد أن قتل عشرات الآلاف من الجنود

هذا الجيش عاد إلى وطنه سالما

بعد أن أحضر معه آلافا من الأسرى

ومنذ ذلك الوقت ستدرك الدولة المصرية أن الخطر يأتى دائما من الشرق، لذلك ستراقب العسكرية المصرية الأحوال فى منطقة سوريا الجنوبية (بلاد الرمال) لتحول مبكرا دون أى هجمة جديدة تعبر سيناء وتصل إلى الدلتا، لذا سيقوم القائد المصرى الشهير «أونى»، السابق الإشارة إليه، بحوالى خمس حملات تأديبية، كانت بمثابة ضربات استباقية، حتى يحول دون تجمع البدو من جديد فى كيانات تسمح لهم باجتياح سيناء من جديد. إن سيناء هى البوابة الشرقية لمصر، وأمن سيناء يبدأ من فلسطين، سوريا الجنوبية.

لكن الغزو الأكبر والأشهر فى التاريخ القديم سيأتى بعد ذلك، وعلى يد الهكسوس، الرعاة. إذ استغل هؤلاء حالة الاضطراب والثورة التى سادت مصر فى أواخر عصر الدولة الوسطى، وسينجح هؤلاء الهكسوس الرعاة فى اجتياح سيناء حوالى عام 1700 ق.م، والوصول إلى الدلتا.

ويرى المؤرخون أن هناك العديد من العوامل الداخلية التى ساعدت الهكسوس على هذا الاجتياح الخطير. لكن ربما من أهم العوامل أيضا التى ساعدت على هذا الاجتياح، امتلاك الهكسوس لهذا السلاح الجديد الخطير «العربة الحربية»، العربة التى يجرها حصان والتى شبهها البعض بسلاح المدرعات، هذا السلاح الذى سيقدر لسيناء أن تشهد بعد ذلك معارك شرسة بالدبابات على رمالها.

على أية حال كان هذا الغزو البدوى الشرس ضربة شديدة للحضارة المصرية الزراعية المستقرة، تركت آثارا لا تُمحى من ذاكرة المصريين، كما أخرت التقدم السريع لمظاهر الحضارة المصرية القديمة.

ومعلومٌ لنا جميعا الدور المهم الذى سيلعبه البطل المصرى الشهير «أحمس» فى النهوض من طيبة «الأقصر» لتطهير مصر من دنس الهكسوس. لكن اللافت للنظر أن ملك الهكسوس الذى احتل شمال مصر، سيحاول الاتصال بأعداء مصر فى الجنوب (بلاد كوش) ليحدث تحالف بينهما يضع مصر بين فكى الكماشة، والغريب أن هذه السياسة هى ما تتبعه الآن إسرائيل، وريثة الهكسوس، فى تغلغلها فى منابع النيل، والتحالف مع قوى أفريقية مناوئة لمصر، لتشتيت قوى مصر ووضعها بين فكى الكماشة من جديد.
وسينجح أحمس فى تكليل جهود أبيه «سقنن رع»، وأخيه «كاموزة» بالنجاح؛ وسيطرد الهكسوس من الدلتا، وتهرع فلول الهكسوس هاربة عبر أودية سيناء.

لكن أحمس، من جديد، سيتبع آليات الاستراتيجية المصرية، أن أمن سيناء يبدأ من فلسطين. لذلك سيطارد البطل أحمس فلول الهكسوس على أراضى فلسطين، وسيبدأ أحمس منذ ذلك الوقت فى وضع أسس الإمبراطورية المصرية؛ إن أمن مصر يقتضى وجودا مصريا فى منطقة سوريا الكبرى، من هنا ستصل هذه الإمبراطورية فى العهود التالية إلى أعالى الفرات. وهى نفس السياسة التى سيتبعها بعد ذلك معظم الدول الكبرى التى قامت فى مصر لا سيما الدولة الأيوبية ودولة سلاطين المماليك ودولة محمد على، وحتى جمال عبدالناصر من خلال الوحدة بين مصر وسوريا.


الخطر الآشورى

عظم دور أشور فى بلاد الرافدين، وبالتالى تطلعت إلى مد نفوذها فى بلاد الشام ومنافسة مصر، التى كانت فى تلك الأوقات تمر بلحظات ضعف شديدة. وستدرك مصر أطماع أشور، ومدى الخطر الآشورى الذى لن يتوانى عن غزو مصر. ولذلك ستلجأ مصر إلى سياسة استباقية لحماية حدودها الشرقية، فحدود مصر، كما أرستها التقاليد السابقة، لا تبدأ من سيناء ولكن تبدأ من سوريا، وسيناء خط أحمر، لأن عبوره يعنى الوصول إلى وادى النيل.

لذلك ستلجأ مصر إلى مساعدة الولايات السورية الموالية لها وإمدادها بالسلاح والعتاد لمواجهة الأخطار الآشورية. لكن الخطر الآشورى سيزداد قوة وسيجتاح بلاد الشام وذلك فى عهد الملك الآشورى الشهير «سرجون الثانى» الذى تولى الحكم فى عام 722ق.م. وهنا تدرك مصر أهمية المواجهة، وعدم ترك سيناء فريسة سهلة يقتحمها العدو الآشورى ليخترقها سريعا ويصل إلى الدلتا. لذلك سيخرج الجيش المصرى مع بعض الكتائب الفلسطينية لمواجهة الخطر الآشورى فى منطقة متقدمة عند رفح، وبالفعل ستنجح هذه القوات فى رد الخطر الآشورى ودحره.

ولكن الكر والفر بين آشور ومصر سيستمر زمنا؛ وستنجح آشور فى حوالى عام 670 ق.م. فى مواجهة مصر. إذ سينجح الملك الآشورى «آشور أخى الدين» فى ابتكار حيلة لاختراق الدفاعات المصرية، حيث يختار طريقا وعرا غير مؤهل وسط سيناء. من هنا ينجح آشور، باستخدام الأسلوب الاستراتيجى المتكرر لأعداء مصر؛ وهو اختراق سريع وحاسم لصحراء سيناء لمواجهة القوات المصرية شرق الدلتا، ومدى تأثير ذلك على نفسية وتماسك المصريين. وهى نفس خطة شارون كما أشرنا فى المقال السابق فى الثغرة أثناء حرب 1973؛ اختراق سريع وسرى لسيناء للوصول إلى شرق الدلتا، لتهديد وادى النيل.

على أية حال وصل الجيش الآشورى إلى شرق الدلتا، واضطر الجيش المصرى إلى الانسحاب جنوبا. وهكذا تقع مصر من جديد تحت حكم الأعداء، نتيجة نفس السيناريو المتكرر. وسيستمر حكم الآشوريين لمصر إلى أن ينجح القائد المصرى «بسامتيك» فى طرد الآشوريين نهائيا من مصر حوالى عام 640 ق.م.


الغزو الفارسى

علا نجم دولة فارس فى بلاد الشرق وورثت تقريبا مجد آشور، وبالتالى ظهر النزاع التقليدى بين بلاد الرافدين ومصر. وفى عهد واحد من أهم ملوك فارس وهو «قمبيز»، بدأ الحلم يداعب الفرس فى غزو مصر والوصول إلى نهر النيل.

وفى الحقيقة تردد قمبيز كثيرا فى القيام بغزو مصر، فمصر دولة ليست كأى دولة، على الرغم من أنها كانت فى ذلك الوقت تمر بلحظات ضعفها الأخير، ونهاية مجد الفراعنة الأقدمين. وساعد على تردد قمبيز قلة المعلومات لديه عن مصر ودروبها وأحوالها الداخلية، كما أن الجيش الفارسى لم يكن معتادا على حروب الصحراء، فمعظم حروبه كانت تدور على الأراضى السمراء وليس الصفراء؛ كما كان قمبيز يخشى وعورة دروب سيناء، وعدم قدرة الجيش الفارسى على التعامل معها.

لكن القدر سيكون فى صف قمبيز، إذ سينضم إليه أحد المرتزقة (الإغريق) اليونانيين الذين عملوا فى مصر من قبل، هذا القائد «فانيس» سيلعب على نفس السيناريو القديم لغزو مصر، وإحراز اختراق سريع لصحراء سيناء والوصول إلى الدلتا. فنتيجة خبرته المصرية السابقة سيرشد الجيش الفارسى إلى أهم الطرق الصحراوية التى يسلكها، كما سيلجأ إلى استمالة بعض البدو الرحل الذين يعرفون مسالك الصحراء للعمل كدليل للجيش فى عبور سيناء، وسيوفر الماء والغذاء الضرورين للجيش أثناء اختراقه لسيناء.

وبالفعل سينجح الجيش الفارسى فى الوصول إلى الدلتا فى عام 525 ق.م.، لتبدأ صفحة جديدة فى تاريخ مصر، هى الاحتلال الفارسى لها. والغريب أن يُطلق اسم «قمبيز» ، وهو الملك الفارسى الذى غزا مصر، على أحد شوارع القاهرة، ولا ندرى ما هى الظروف التى دعت المحليات إلى تلك التسمية، ولكنه فى الحقيقة أمر يدعو إلى السخرية.

على أية حال لن تهدأ المقاومة المصرية ضد الفرس، وستتوالى الثورات المصرية ضدهم. وستتغير الأمور فى منطقة الشرق الأوسط بصعود النجم الساطع «الإسكندر المقدونى»، القائد الأغريقى الذى سيُعرف بعد ذلك باسم (الإسكندر الأكبر)، وسيكون له مع مصر شأن كبير.


الغزو المقدونى لمصر

ومن جديد ستصبح مصر مطمعا للقوة الصاعدة فى الشرق، قوة الإسكندر الأكبر، الذى سينجح فى تأديب الفرس، وكان من الطبيعى لكى يُثبت قوته فى الشرق أن يضم مصر إلى إمبراطوريته الشرقية. وربما يرجع ذلك إلى الصلات القديمة بين بلاد الإغريق ومصر، حتى إن الأسطورة المصرية أوردت أن الإسكندر هو سليل الفراعنة، نتيجة تناكح ملك من ملوك الفراعنة فر هاربا من الفرس إلى بلاد الإغريق، مع أم الإسكندر سرا؛ أو حتى رغبة الإسكندر فى حرمان فارس من الأهمية الاستراتيجية لمصر.

على أية حال قرر الإسكندر الأكبر فى عام 332 ق.م. غزو مصر وطرد الفرس منها، وضمها إلى التاج المقدونى. وسيكرر الإسكندر نفس السيناريو من اختراق سريع وحاسم لصحراء سيناء، هذه المرة عن طريق الفرما، والوصول سريعا إلى شرق الدلتا ومنها إلى منف، ليؤكد بعد ذلك سيطرته على مصر، ووصوله إلى سيوة وتتويجه فرعونا على مصر.

وتدخل مصر من بعده فى حقبة طويلة هى التى يطلق عليها المؤرخون «مصر فى عصر البطالمة»، يتم فيها تلاقح الحضارة المصرية القديمة مع الحضارة الإغريقية، وإن بقيت الحضارة المصرية هى الحضارة المهيمنة حتى على الغزاة الإغريق.


الخطر الصليبى

عرفت العصور الوسطى موجة من أشد موجات الحروب دمارا واستمرارا، وهى الحروب التى عُرفت تجاوزا باسم «الحروب الصليبية» والصليب منها براء. إذ أجمع أغلبية مؤرخى الحروب الصليبية على أن الدافع وراء هذه الحروب لم يكن هو الدافع الدينى أو شعار استرداد بيت المقدس من أيدى المسلمين كما رفعه باباوات روما آنذاك، لكن الدافع الأساسى والحقيقى يعود لأسباب اقتصادية. وليس هنا مجال الدخول فى تفاصيل الدوافع الحقيقية للحروب الصليبية، ولكن تجدر الإشارة إلى الأزمات الاقتصادية التى كان يعانى منها نظام الاقطاع فى أوربا، فضلا عن رغبة العديد من القوى الأوروبية فى الوصول والسيطرة على طرق التجارة الشرقية ونهب كنوز الشرق.

وربما تحتفظ الذاكرة التاريخية الجمعية المصرية بذكريات حملة لويس التاسع على مصر وهزيمته فى موقعة المنصورة وسجنه فى دار ابن لقمان، لكنْ الكثيرون منا لا يدركون أن سيناء العزيزة قد تعرضت أيضا للخطر الصليبى، وأن هناك العديد من الذكريات الحية حتى الآن تشهد على امتداد أطماع الخطر الصليبى إلى شبه جزيرة سيناء. فنتيجة تجاور مملكة بيت المقدس الصليبية للحدود المصرية وشبه جزيرة سيناء، أدركت القوى الصليبية مدى الأهمية الاستراتيجية لسيناء، فضلا عن استخدام ذلك كورقة ضغط على مصر لتحجيم دورها فى بلاد الشام.

ولا أدل على ذلك من مقولة أحد ملوك مملكة بيت المقدس أنه يفكر فى مد نفوذ مملكته من فلسطين إلى وادى النيل عبر غزة (سيناء)، ويذكرنا هذا بمخطط إسرائيل الكبرى وشعارها المرفوع دائما «من النيل إلى الفرات».

ولعل من أهم الذكريات الحية على الخطر الصليبى فى سيناء، هذه القصة التى روتها لنا حوليات تاريخ العصور الوسطى عن الملك الصليبى «بردويل»، هذا الملك الذى عقد العزم على غزو مصر من فلسطين ولجأ إلى نفس السيناريو التاريخى المتكرر؛ اختراق سريع لسيناء والوصول إلى الدلتا، وزحف الملك بردويل عبر سيناء. وتقول القصة إنه توفى نتيجة أكلة سمك مسمومة من (بحيرة البردويل) فى شمال سيناء، وتربط القصة بين هذا الملك واسمه الذى أصبح علما على البحيرة التى عُرفت وفقا لهذا المصدر منذ ذلك الوقت باسم بحيرة البردويل.

وربطا بين الماضى والذكريات الحية الآن فى سيناء، تذكر بعض مصادر العصور الوسطى محاولة أخرى لغزو مصر عن طريق اختراق أودية سيناء، حيث تذكر هذه المصادر أن المكان الذى يسمى الآن «الأربعين» فى سيناء تعود تسميته لقصة هلاك أربعين فارسا صليبيا فى هذا المكان أثناء محاولة العبور إلى شرق الدلتا.

هكذا يتضح لنا أن الخطر الصليبى لم يكن بعيدا عن سيناء، وأن حلم الوصول إلى نهر النيل قد راود القوى الصليبية فى فلسطين مثلما تجلى هذا الحلم بعد ذلك فى الأطماع الصهيونية.


وصول الوجود العثمانى إلى مصر

مع نهايات العصور الوسطى، ومع مطلع القرن السادس عشر أصبح العثمانيون بمثابة القوة الإقليمية الأولى فى منطقة الشرق الأوسط، ومن هنا ظهرت بوادر الصراع بينهم وبين دولة سلاطين المماليك التى كانت تحكم مصر وبلاد الشام. ونعرف جميعا قصة خروج السلطان الغورى إلى بلاد الشام لسرعة مواجهة الخطر العثمانى، وهو ما حدث بالفعل فى موقعة مرج دابق (1516) التى انهزم فيها السلطان الغورى، وبالتالى دخلت بلاد الشام فى حوزة الدولة العثمانية، وهنا كانت الخطوة الثانية للعثمانيين هى غزو مصر. وتذكر المصادر التاريخية أن السلطان سليم العثمانى تردد كثيرا فى قبول فكرة فتح مصر، ويرجع سر تردده إلى خوفه مما سيتعرض له جيشه من مخاطر أثناء اجتياز صحراء سيناء، بما فى ذلك خطر هجوم البدو على مؤخرة جيشه والاستيلاء على ما لديهم، أو حتى مشكلة امتداد خطوط مواصلات من بلاد الشام عبر صحراء سيناء وصولا إلى مصر والمشاكل المتعلقة بذلك من ناحية توفير المؤن والعتاد، ولا سيما أن الجيش العثمانى لم يكن معتادا على حروب الصحراء. حتى إن السلطان سليم وصل إلى قناعة مفادها أن سهولة فتح بلاد الشام يجب ألا تؤخذ مقياسا فى فتح مصر، لكن العديد من العوامل والظروف دفعت السلطان سليم دفعا إلى القبول فى النهاية بفكرة فتح مصر.

وعلى الجانب الآخر كانت الأمور فى مصر فى حالة حراك شعبى وعسكرى شديد، إذ وصل إلى سُدة الحكم السلطان «طومان باى» ابن أخ السلطان الغورى، وأخذ السلطان «طومان باى» على عاتقه مهمة مواجهة العثمانيين والدفاع عن مجد السلطنة المملوكية. وكانت فكرته هى الخروج إلى سيناء لإقامة خط دفاع أول عن مصر، لكن أمراء المماليك رفضوا ذلك ولم يرضوا بترك القاهرة والخروج إلى الصحراء لمواجهة العثمانيين، وأصروا على البقاء فى القاهرة ومواجهة الجيش العثمانى عند الريدانية (منطقة العباسية الآن)، وفشل السلطان طومان باى فى اقناعهم بمواجهة العثمانيين فى العمق وفى منطقة أبعد ما تكون عن القاهرة حتى يكون هناك خط دفاعى أول. وفى الحقيقة كان إصرار المماليك على عدم الخروج والتحصن فقط عند الريدانية، هو أول خطوات الهزيمة للجيش المملوكى.

وعلى الطرف الآخر، الطرف العثمانى، ترتب على عدم خروج الجيش المملوكى إلى سيناء، سرعة اختراق الجيش العثمانى للحدود المصرية. إذ نجح «سنان باشا» العثمانى على رأس أربعة آلاف جندى فى اقتحام غزة فى 21 ديسمبر 1516، وعلى إثر ذلك وصل السلطان سليم إلى غزة، وتجمعت معظم قوات العثمانيين فيها، وزحف السلطان العثمانى ليصل إلى خان يونس فى 9 يناير 1517، وبنفس السهولة يصل فى اليوم التالى إلى العريش. وفى خلال أيام قليلة يعبر الجيش العثمانى سيناء ليصل يوم 13 يناير إلى منطقة «بئر العبد» ومنها يبدأ فى الوصول إلى شرق الدلتا، حيث وصل إلى منطقة الصالحية يوم 16 يناير، وأخيرا إلى بلبيس يوم 18 يناير.

وهكذا استطاع السلطان العثمانى تحقيق أولى خطوات النصر من خلال الاقتحام السريع بمقاييس ذلك العصر لشبه جزيرة سيناء والوصول إلى شرق الدلتا، الأمر الذى سوف يسهل عليه مواجهة المماليك على أطراف القاهرة، ويصعِّب على المماليك المواجهة عندما يكون خط الدفاع الأول هو صحراء العباسية فبالتالى الهزيمة تعنى اقتحام القاهرة، وهو ما حدث بالفعل يوم الجمعة 23 يناير، حيث قُرِّئت الخطبة باسم السلطان سليم من على مساجد القاهرة اعلانا بدخول مصر فى حوزة الدولة العثمانية.

هكذا توضح هذه القصة كيف أن خط الدفاع الأول عن مصر يبدأ من شبه جزيرة سيناء، وأن التقاعس عن حمايتها يسهل للأعداء سرعة الاختراق والمواجهة على أرض الدلتا وتعرض القاهرة للخطر الكبير.

وما أشبه اليوم بالبارحة!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.