واقف أنا هنا في الميدان فخورا متشرفا بحمل التمثال الذي يخلد ذكري الشهيد البطل.. طال وقوفي حتي اعتادني الطير والشجر والأبنية والأرصفة والبشر، عن يميني يقف مبني أثري قديم يملأني الفخر والاعتزاز به، تلك الشجرة علي الرصيف المقابل أعرفها منذ كانت فرعا واحدا غضا أخضرا.. تابعتها حتي كَبُرَتْ هي وظلها معا، عش العصافير علي فرعها الكبير، أراقبه عن كثب حتي تعلق قلبي بالصغير الذي خرج للحياة منذ أسبوع مضي، من يومها وأنا أتابعه في صحوه ونومه ولعبه وطوال يومه.. يكبر يوما عن يوم.. لكنه مازال لا يستطيع الطيران.. أحببته.. فنصبت نفسي أمه الثانية!. تزامنت كثرة الأحداث وتعاقبها مع خروج الصغير للحياة، لكن ذلك الأربعاء بالتحديد لن أنساه ما ظللت هنا واقفا، الأصوات كانت عالية والجماهير غفيرة غاضبة متلاحمة، بشر أمامي وخلفي ومن حولي، بشر في كل مكان. في الميدان وعلي مرمي البصر احتمي الشباب ببعضهم واحتمي الميدان بهم، كنت أري الأمل في عيونهم وأحس به يملأ صدورهم ويقوي عزائمهم وماذا يحرك المحارب سوي أمل في النصر.. وددت لو ذهبت اليهم أو ساعدتهم لكنني مسجون هنا في جسد من حجر!. من ورائي جحافل زاحفة، رأيتهم.. فتملكني الخوف والفزع وسألت نفسي متعجبا "هل هي طبول الحرب قد دُقت أم ماذا حصل؟!".. "ماذا عساى فاعل؟ إنهم يهرولون نحوي.. أهرب؟ أم أختبئ؟أم أثبت؟" غاب عني أنني حجر.. وأنه ليس لي اختيار!!.. تنهدت وطمأنت نفسي "ربما سينقلونني".. كنت لاأزال متوجسا.. والحقيقة أن خوفي لم يكن علي نفسي بقدر خوفي علي من أحمله.. تمثال لبطل أخشي أن تُمس كرامته وهيبته.. ماهذا الذي أري!!! يمسكون سيوفا.. يركبون خيولا؟ يعتلون جمالا؟!! ماذا يجري مالذي حصل؟!! أيهدمونني في مكاني بل ربما يكسرونني إربا صغيرة ويستخدمونني في حربهم؟ "أنا أحمل تمثال الشهيد البطل.. فهل يجرؤن؟!".. "لا لا.. بالطبع لا" كنت أصرخ لكن بالطبع لم يسمعني أحد "ماذا أنتم فاعلون.. ابتعدوا عني.. ابتعدوا..".. مرت دقائق ثقيلة كثقل الحجر.. "لقد مضوا بعيدا عني" قلتها مطمئنا نفسى وحمدت الله أنني لست الهدف.. "أنت يا فتي، لماذا تختبئ خلفي ممسكا بهذا الحجر!!!.. لقد أفزعت الصغير في العش المجاور، ألا تسمع صراخه" كنت أكلم الشاب المختبئ خلفي في حدة وأراقب الصغير في العش في قلق كان يبحث عن أمه ويحاول الطيران لكنه لم يستطع.. فعيونه كانت لاتزال مغمضة.. صرخت في الفتي "توقف لماذا ستقذف الحجر؟؟؟ توقف ألا تفهم الصغير أصابه الفزع؟؟ هل قد قلبك من حجر! لم يجدي كلامي نفعا فهو لا يسمعني" ... "أغثني ياربي، الأحجار صارت تطير في السماء!.. هي الحرب إذن؟.. حجر يطير في اتجاهي؟.. آه..آه.. أصابني أنا أيضا حجر" حتي الحجر صار يضرب الحجر والأخ يقتله أخوه بلا تترد أو خجل. حل الظلام واحتدمت المعركة فأضاءت السماء بكرات من لهب تهبط وكأن يوم الحشر قد جاء أو كأن بركان في السماء قد انفجر! فزع الصغير في العش وعلا صوت صراخه، نظرت نحوه فوجدت ريش جناحه الأيمن يكاد طرفه يحترق، تألم الصغير من الوجع، أردت أن أساعده لكن عبثا حاولت فما أنا إلا حجر!.. كنت عاجزا.. فدعوت الله أن تعود أمه لتنقذه.. واستجاب ربي فرأيتها عائدة.. حمدت الله واطمئن قلبي.. صارت تنقره بلطف لتفيقه فهو قد فقد الوعي من شدة الفزع. راقبت المشهد كله.. تساقط الجرحي من أمامي ومن خلفي، عن يميني وعن شمالي، "آه.. أشعر أنني سأتفتت من الحزن والألم! رباه لماذا خلقتني حجرا!" قلتها متألما "ربما أكون فعلا حجرا لكنني أحمل تمثال قائد عاش معني الخطر وعرفت من عشرتي للبطل أنه مامن معركة لا تعقبها خسائر في البشر، آه لو أن قدرة ألهية تحررني من كوني حجر فأساعدهم وأقاتل معهم، ربما أستطيع منع خطر وإن كنت أعرف أنني لن أدرء القدر!! علمني البطل أنه كلما غلا الهدف كانت التضحيات أكبر.. مالهذا الليل لا ينحسر" كنت أحدث نفسي فلم أعد قادرا علي تحمل ما أري.. أم الصغيرفي العش مازالت تحاول علاجه، هاهو قد أفاق وهاهي تطعمه.. مرت الليلة العصيبة بكل أخطارها.. عين الرعاية لا شك كانت حاضرة.. ونصر الميدان كان مقدرا. في الصباح تغير الميدان كله وتغير سكانه، الانسان والطير والشجر وحتي الحجر، العزم صار أشد والاصرار أكبر واتحد الجميع علي الهدف.. "الشعب يريد اسقاط الرئيس!" هتاف رج حتي قلب الحجر . هذا يوم الجمعة قد جاء.. أم الصغير تعلمه كيف يطير؟.. أوشكت أن أصرخ في وجهها "هل جننتي؟! مازال جناحه ضعيف وريشه قصير لم يطل".. خَشَيَتُ عليه أن يقع، أخذت هي تحفزه وتدفعه إلي طرف العش وكلما أوشك أن يقع تساعده ثم تجعله يكرر المحاولة.. حاول الصغير.. ثابر.. فنجح.. فتذكرت في نفسى جملة طلما سمعتها من البطل "إن الحرية تستحق المحاولة!". عند الغروب، طار الصغير فاردا جناحيه كالمنتصر، ربما لم يكن طيرانه عاليا لكنه أخذ يهز جناحيه حتي اتزن.. هاهو يحلق بجانبي منطلقا في ثقة.. ضج الميدان بفرحة غامرة حتي ظننت أن الخبر قد ذاع وانتشر وعرف الجميع أن الصغير قد شفي.. رأيت ذلك الشاب يجري وسط الحشود يصرخ ويبكي ويضحك حامدا الله بصوت مرتفع.. ولو لم أكن حجرا لقلت أن دموعي قد أوشكت أن تنفجر.. اشتد الزحام حولي حتي شعرت بأن أحجار صدري تنكسر من شدة الفرح.. طار الصغير وتحقق الأمل.