فى أوائل هذا الشهر أثرت غضب بعض القراء بعمود كتبت فيه إنك إذا أردت أن تشهد عدم المساواة الفاحش فى الدخل، فلست بحاجة إلى زيارة إحدى جمهوريات الموز. فكل ما عليك هو أن تنظر حولك. كانت وجهة نظرى أن أكثر النخب ثراء تسيطر الآن بالفعل على حصة من الكعكة فى الولاياتالمتحدة أكبر مما هو الحال فى بلدان غير مستقرة تاريخيًّا، كنيكاراجوا وفنزويلا وجيانا. لكن قراءً احتجوا على ذلك الرأى باعتباره سطحيًّا وغير منصف، وبعد مراجعة الأدلة أعترِف آسفًا بأن لديهم حقًا. إذ ربما أكون قد أخطأت فى حق جمهوريات الموز. فقد غضب بعض القراء من أمريكا اللاتينية إزاء ما اعتبروه مقارنة مجحفة ومؤلمة. والحقيقة أن أمريكا اللاتينية نضجت خلال العقود الأخيرة وصارت تنعم بمساواة أكثر، بينما يتزايد على نحو مطرد التفاوت فى توزيع الثروة داخل الولاياتالمتحدة. وأفضل سلسلة بيانات استطعت الحصول عليها كانت للأرجنتين. ففى الأربعينيات كان واحد فى المائة من السكان يسيطرون على أكثر من عشرين فى المائة من الدخول. وهو ما يساوى تقريبًا ضعف النسبة فى الولاياتالمتحدة فى ذلك الوقت. ومنذ ذلك الحين، تبادلنا المواقع. حيث تراجعت الحصة التى يسيطر عليها واحد فى المائة من الأرجنتينيين إلى ما هو أكثر قليلاً من 15 فى المائة. وفى الوقت نفسه ازداد التفاوت فى الولاياتالمتحدة بصورة كبيرة إلى مستويات يمكن مقارنتها بتلك المستويات التى شهدتها الأرجنتين قبل ستة عقود؛ ففى عام 2007 سيطر واحد فى المائة من الأمريكيين على 24 فى المائة من الدخول فى أمريكا. فهل كان على الكونجرس إزاء ذلك التفاوت المذهل منح أولوية لإنفاق 700 مليار دولار على توسيع نطاق التخفيضات الضريبية التى اقترحها بوش على أولئك الذين يزيد دخلهم على 250 ألف دولار سنويا؟ أم كان عليه توسيع نطاق إعانات البطالة إلى الأمريكيين الذين سوف يفقدونها بدءًا من الشهر المقبل؟ السبيل الوحيدة لتقييم هذا القرار هو التغاضى عن جميع الاعتبارات الأخلاقية، وبحث السبل التى يمكن من خلالها أن تؤدى أموال الضرائب إلى تحفيز الاقتصاد. وهنا تبدو النتيجة واضحة؛ إذ سوف تحصل على نشاط أكبر مقابل المال الذى تضعه فى أيدى العاطلين، لأنهم سوف ينفقونه على الفور. وعلى العكس من ذلك، فإن التخفيضات الضريبية للأثرياء تؤدى إلى ادخار جزء منها وهو ما يتفق مع نظريات الاقتصاد المبدئية ومع ما حدث تاريخيا فى الفترة الحديثة وهذا يكون أقل فاعلية فى خلق فرص العمل. وعلى سبيل المثال، قد يمنح الجمهوريون لأغنى 1 فى المائة من الأمريكيين تخفيضات ضريبية تبلغ 370 ألف دولار. فهل يعتقد أحد بحق أن دافعى الضرائب هؤلاء سوف يندفعون إلى شراء سيارات بورش أو يخوت، والبدء فى أنشطة استثمارية جديدة، وتوظيف المزيد من البستانيين والسائقين؟ وعلى العكس من ذلك، توضح دراسة أجريت لحساب وزارة العمل خلال ولاية بوش، قدرة إعانات البطالة على خلق فرص عمل، لأن ذلك المال يتم إنفاقه فورًا. ورأت الدراسة أن الركود الحالى كان من الممكن أن يتفاقم بنسبة 18 فى المائة دون التأمين ضد البطالة، وأن ذلك الإنفاق حافظ على بقاء 1.6 مليون وظيفة كل ربع سنة. غير أن هناك أيضا سؤلاً أكبر: ما هو نوع البلد الذى نتطلع إليه؟ هل نريد فعلا أن نعيش فى بلد السيطرة فيه لنخبة الأقلية الثرية، حيث تمتلك نسبة واحد فى المائة من المواطنين دخلا صافيًا يزيد على صافى دخل 90 فى المائة من السكان؟ هذا للأسف ما نحن عليه بالفعل. حيث يمتلك واحد فى المائة من الأمريكيين 34 فى المائة من صافى الدخل الخاص، وفقًا لبيانات جمعها معهد السياسة الاقتصادية فى واشنطن. بينما تمتلك نسبة ال90 فى المائة الأقل دخلا نسبته 29 فى المائة فحسب من صافى الدخل. ويعنى ذلك أيضًا أن أغنى 10 فى المائة من المواطنين يتحكمون فى أكثر من 70 فى المائة من إجمالى صافى الدخل الأمريكى. ويلاحظ ايمانويل سايز وهو اقتصادى بجامعة كاليفورنيا فى مدينة بركلى ومن أبرز خبراء العالم فى مسألة التفاوت فى الدخول أن توزيع الدخل كان أقرب للمساواة خلال معظم التاريخ الأمريكى عنه الآن. كما أن الدول الرأسمالية الأخرى لا تعانى تفاوتا هائلا مثلما نعانى نحن. وقال سايز إن «هناك زيادة فى التفاوت فى معظم البلدان الصناعية، ولكن ليس بالحدة نفسها الموجودة فى الولاياتالمتحدة». وقد ظل الحراك الاقتصادى من أعظم مميزات أمريكا، على العكس من نظام أوروبا الطبقى. ولعل هذا الحراك يفسر سبب معارضة العديد من أفراد الطبقة العاملة الأمريكية للضرائب على التركات وارتفاع معدلات الضرائب الهامشية. غير أن باحثين اكتشفوا أن هذا الحراك نحو الثراء عبر الأجيال لم يعد شائعًا فى أمريكا أكثر من أوروبا؛ بل ربما صار أقل شيوعًا. وقد راعنى ذلك التفاوت المتنامى بين ثرواتنا، لأننى شهدت خلال سفرياتى ما يحدث فى البلدان التى تعانى خللًا وظيفيًا، حيث لا يبالى الأغنياء بمن يقبعون فى أسفل السلم الاجتماعى. وينتج عن ذلك أمم تفتقر إلى نسيج اجتماعى أو إحساس بالوحدة الوطنية. حيث يؤدى التركيز الهائل للثروة إلى تآكل روح أى أمة. وها أنا أرى فى بلدى أعضاء فى الكونجرس يعتقدون أنه من الرعونة المالية توسيع نطاق إعانات البطالة خلال فترة ركود مريع، بل إنهم يصرون على منح تخفيضات ضريبية قدرها 370 ألف دولار لأكثر الأمريكيين ثراء. ولا أعرف إن كان ذلك يجعلنا إحدى جمهوريات الموز، أم جمهورية المحافظ الوقائية، غير أنه ليس وضعًا سليمًا فى أى جمهورية.