أثارت إحدى العبارات التى كتبتها الشهر الماضى الكثير من الجدل. فقد قلت: «ما زلت أعتقد أن مصدر القوة الأعظم لأمريكا وميزتها الأساسية مقارنة بالعالم القديم هى أنها لا تهتم بالمكان الذى جئت منه، بينما تهتم اهتماما شديدا بما يمكنك القيام به». وقال لى مئات القراء إننى مخطئ، مشيرين إلى عقود التمييز العنصرى، والأسقف الزجاجية التى تعزل الأمريكيين من أصول أفريقية، والحصة التى ظلت كلية أيفى ليج حتى الستينيات على الأقل تخصصها لليهود، والممارسات الاستبعادية لشركات المحاماة فى نيويورك، وكانت القرى الأمريكية لا تزعجها اللافتات القائلة قسم خاص بغير اليهود، وغيرها من أشكال التحيز». كتب ريتشارد كمينجز يقول: «كانت تجربتى فى برينستون فى الخمسينيات مروعة. فقد كان اسمى كوين، ومن ثم كان محظورا على دخول نوادى الطعام الخاصة، وحطموا حجرتى. واستطعت فى النهاية الانضمام إلى ناد لطيف، لكن ذلك لم يحدث إلا عندما تدخل صديق لمصلحتى. وبمجرد أن تركت المكان، غيرت اسمى إلى كمينجز، ولست نادما على ذلك». وقالت لى جوان واينبيرجر: «عندما تقدمت بطلب للالتحاق بجامعة فاسار (أول جامعة فى الولاياتالمتحدة تمنح درجات علمية للنساء) نبهنى والدى إلى أنهم قد لا يقبلوننى لأننى يهودية. لكننى استطعت الالتحاق بها. وفى جامعة يل سألنى من كان يجرى المقابلة معى عن حجم المبلغ النقدى الذى دفعه والدى لإسرائيل! وعلى الرغم من ذلك لم أستطع الالتحاق بالجامعة». وعلقت بولا روبنز على المقال على النحو التالى: «فى بداية الستينيات، كنت أعمل فى مكتب التعيينات فى كلية رادكليف. أتذكر أننى كنت أبحث فى ملف يخص إحدى خريجات الجامعة التى كانت آنذاك فى الأربعينيات من عمرها، وقد جاءت إلى الكلية لتقديم استشارة مهنية. ورأيت تأشيرة تعود إلى سنة تخرجها تقول 'تبدو يهودية تمامًا. لا تحيلها إلى.. (إحدى الشركات)». كى أكون واضحا، فقد كنت عفويا أكثر مما يجب فى احتفائى بالانفتاح الأمريكى خلال العمود الذى كتبته حول خبرتى مع الإجحاف الذى تعرضت له كيهودى عندما كنت فى المدرسة فى نهاية الستينيات. كنت أحاول باعتبارى أحد المتجنسين بالجنسية الأمريكية أن أعطى انطباعا حول الشعور بالحرية الذى ينتاب العديد من الأوروبيين فى الولاياتالمتحدة، والإحساس بالتحرر من القيود غير المعلنة، والانعتاق من قيود القارة القديمة، والانتقال إلى عالم المباشرة الشجاعة، والفهم التحررى للاختلاف بين دولة القانون وبين الخبرة الأوروبية بشأن القومية القائمة على أساس الدم (والملطخة بالدم)، والانزلاق بعيدا عن الضعف المستتر. أردت أن أقول إن أمريكا تتوقع من الناس أن يحددوا أثمانهم، بينما تميل أوروبا إلى تثمين أسماء الناس. ولكنى أقر مع ذلك بأننى كنت عفويا أكثر من اللازم، وكان يجب علىّ أن أكون أكثر معرفة. وعندما كنت أبحث فى كتاب حول المصير المفجع لمجموعة من الجنود اليهود الأمريكيين الذين أسرهم النازى، أمضيت وقتا فى قراءة قصة أحد الناجين واسمه مورتون بروكس. فقد سموه مورتون بريمبيرج عندما كان النازيون يحاولون إجباره على العمل حتى الموت. ثم عاد إلى الولاياتالمتحدة ليجد أن الوسيلة الوحيدة لدخوله الجامعة هى تغيير اسمه. وكانت تلك هى طريقة تكريم بلاده له. ولكن بالرغم من أننى كنت عفويا أكثر مما يجب، فمازلت أعتقد أن العبقرية الأمريكية، بالرغم من كل خطاياها الأصلية (وكانت العبودية خطيئة كبرى)، تكمن فى المزج بين تفاؤل جوهرى وتشاؤم جوهرى إزاء الطبيعة الإنسانية، وهو المزج الذى صاغه بوضوح مؤسسو هذه الدولة من أجل جعل التجديد الهادف إلى إصلاح الذات الهوية الجوهرية للدولة. ربما تتمثل إحدى الحقائق البديهية فى أن البشر جميعا خلقوا متساوين وأن من حقهم السعى للحصول على السعادة. لكن هذه الحقيقية ليست بديهية إلى الدرجة، التى تجعلنا نستغنى عن الضوابط والتوازنات المقصود بها دفعنا إلى تصحيح مظاهر الإجحاف بمرور الوقت، حيث إن هذه المظاهر تسخر مما نعلنه بشأن تكافؤ الفرص. هذا هو الاتفاق الذى قامت عليه أمريكا. وما زال هذا الاتفاق ساريا. وما زلت تبقى على الأبواب مفتوحة، وإن كان بدرجة أقل بعد الحادى عشر من سبتمبر، بينما تحظر سويسرا بناء المآذن، وينظر الأوروبيون برعب من كل ما هو مسلم، ويشعر الفرنسيون بالهلع إزاء هويتهم القومية وعدم تكيفها مع المهاجرين من شمال إفريقيا، وتتساءل اليابان عما إذا كان اليابانيون العائدون من البرازيل يابانيين بما يكفى للتكيف مع المجتمع، وتبدأ الدول الآسيوية عامة بمواجهة صعبة مع قضية الهجرة بينما تشيخ مجتمعاتها وتزداد ثراء. ما زال هناك اختلاف أساسى بين دولة تنظر إلى الوافد باعتباره مصدرا محتملا للموهبة، وبين دولة أخرى تجد أسبابا لعدم الارتياح إزاء «الآخر». وبعد مرور عقد صعب تراجعت فيه قوة أمريكا النسبية، ربما يكون هذا الاختلاف أفضل سبب يجعلنا نعتقد أن حالة التآكل فى النفوذ الأمريكى فى القرن الحادى والعشرين لن يستحيل تغييرها. وكما يلاحظ ريتشارد هوفشتاتر، فإن قَدَر الولاياتالمتحدة هو «ألا يكون لديها أيديولوجيا، بل تكون هى أيديولوجيا». ومن ثم فإن على أمريكا فى ضوء الخلل، الذى يمزقها أن ترنو إلى أهداف سامية أكثر من أى وقت مضى. اخترت لهذا السبب أن أنهى هذا العقد بالدفاع عن أمريكا المخطئة، وترديد الكلمات التى قالها باراك أوباما مؤخرا: لم تكن هناك حرب عالمية ثالثة. وقد انتهت الحرب البادرة بالحشود المبتهجة تحطم السور. وربطت التجارة معظم العالم ببعضه. وتم انتشال الملايين من الفقر. وتعززت الأفكار حول الحرية وتقرير المصير والمساواة وحكم القانون دون توقف. إننا الوارثون لصلابة الأجيال السابقة وبعد نظرها، وهذا هو الميراث الذى تفخر به بلادى بحق». New York Times Syndication