النيل فى مصر هو دلالة الحياة فيها، وأحد أبرز خصوصياتها الجغرافية والاقتصادية الذى سما إلى مرتبة القداسة لدى قدماء المصريين الذين نسبوه إلى الإله «نون» رب المياه وأبوالآلهة والبشر عندهم. هذه المساحة الخاصة التى يحتلها هذا السطح المائى من أهمية، علاوة على التطورات التى جعلت منه قضية الساعة الشائكة كانت حافزا للخبير الاقتصادى أحمد السيد النجار للكتابة عن النيل فى كتاب جديد «مياه النيل.. القدر والبشر»، وقدم من خلاله دراسة بحثية رصينة لمتابعة الجدل المحتدم حول حصة مصر من مياه النيل على خلفية المأزق فى العلاقة بين مصر ودول حوض النيل التى وقعت بالفعل وبدون موافقة مصر والسودان على اتفاق إطارى لا يحصن حصة مصر والسودان من مياه النيل. لم يغفل النجار أن يضيف تجربته الإنسانية الخاصة وهو يقدم لبحثه الاقتصادى فيتحدث عن علاقته بالنيل التى استمدها من أصوله الريفية التى غرست فى النفس علاقة عميقة مع الأرض والزرع والمياه، وروى ذلك فى أسلوب أدبى عذب، فيقول «لم نعط ظهورنا للترعة، وتعلمنا السباحة وأخذنا معها البلهارسيا وكل الأدوية الخاصة بها، وتلقينا العقوبات العائلية المعتادة على عصيان الأوامر بعدم نزول البحر، كما يسمى فى قريتنا الصغيرة كفر هورين، وتعلقنا بأغصان شجر شعر البنت وتركناه يلهو بنا فى المياه، وحلمنا بجنيات الماء». توقف الكتاب، الصادر عن دار الشروق ويقع فى 245 صفحة، عند أكثر من محطة لمحاولة تتبع سير قضية النيل الخلافية اليوم، وبدأها بنظريات نشأة النيل مرورا بالإيرادات المائية للنيل، وخصص فصلا كاملا عن التحول الاستراتيجى لمصر من الخضوع لما وصفه بمشيئة النيل إلى السيطرة عليه بعد بناء السد العالى، وهو المشروع الذى وصفه الكاتب ب «الملحمة الأسطورية لبناء أعظم مشروع فى تاريخ مصر القديم والحديث»، فى الوقت الذى اعتبر فيه أن مشروع تنمية جنوب الوادى «توشكى» يعد نموذجا لسوء القرار وآليات صناعته معا فى واحد من المشروعات الكبرى التى هاجمت الدولة وأجهزتها الإعلامية بطوفان من المعلومات المغلوطة بشأنه بصورة أدت إلى تضليل الرأى العام والباحثين، حسب الكتاب، وأوصى بأنه رغم هذه العيوب فإنه أصبح لابد من خيار التعامل معه كأمر واقع والالتفات إلى كيفية إصلاح المشروع وتوفير عناصر النجاح له التى اعتبر النجار أنها ممكنة لو تم تغيير آليات توزيع الأراضى فى المشروع، ولو توافرت إرادة لدى الدولة لتسريع استكمال المشروع وتمليك الأرض فيه للمستحقين الحقيقيين لها، ولفت الكاتب إلى أن عدم وجود أطراف دولية كبرى معارضة لمشروع توشكى جعل التفاعل بين دول حوض النيل ومصر بشأن هذا المشروع «هادئة» أيا كانت اقتصاديته جيدة أو سيئة، لأن تلك التفاعلات تشتعل بالأساس عندما تذكى نيرانها أطرافا أجنبية لها مكانة مؤثرة أو نفوذ قوى على بعض دول حوض النيل. أكد النجار على قضية كفاية الموارد المائية لاحتياجات مصر الحالية والمستقبلية، خاصة على خلفية الإلحاح الإعلامى الرسمى حول قضية المياه والضغوط التى تتعرض لها مصر من قبل الدول التى تتدفق منها منابع النيل وبالذات إثيوبيا، معتبرا أن هذا الملف شهد موجة من المعالجات الموضوعية وغير الموضوعية حول مواقف دول الحوض والمؤثرات الخارجية عليها وبالذات من قبل الكيان الصهيونى الذى «لا يألو جهدا لتكدير مصر من أى اتجاه وبشأن أى قضية»، وأكد الخبير الاقتصادى فى كتابه على ضرورة تحقيق مصر لقفزات كبيرة فى توسعها الزراعى الرأسى والأفقى لتحقيق التوازن فى ميزانها التجارى الزراعى «المختل بشدة»، حسب الباحث، واعتبر أنه وفقا لأهم مؤشر دولى لتحديد مستوى كفاءة استخدام المياه وهو «إنتاجية المياه»، أى نصيب كل متر مكعب من المياه العذبة المستخدمة فى البلد من الناتج المحلى الإجمالى الذى يحققه هذا البلد، فإن مصر تحتل موقعا شديد التدنى بين مختلف دول العالم فيه، وتطرق إلى استراتيجية مواجهة الفجوة المائية التى تعانى منها مصر وتضطرها لتعويضها باستخدام مياه الصرف المعالج الأدنى، فضلا عن الاستخدام العشوائى للمياه الجوفية فى بعض المناطق منها تلك المتاخمة للطريق الصحراوى بين القاهرة والإسكندرية، وهى الفجوة المرشحة للزيادة فى المستقبل مع تزايد الاحتياجات المصرية تبعا لتزايد عدد السكان. اختتم الكتاب بفصل خاص عن مستقبل العلاقات المائية بين مصر ودول حوض النيل على ضوء تطورات الوضع فى السودان خاصة بعد سنوات الحرب الأهلية الطويلة ومن المفاوضات والاتفاقيات التى جعلت خيار انقسام السودان إلى شمال وجنوب قائما وواردا أكثر من أى وقت مضى، الأمر الذى وجد النجار أنه لا بد لمصر أن تتعامل معه كخيار حتى لو لم تكن تفضله على أن حدوثه أمر ممكن، وذلك لصياغة استراتيجية شاملة جديدة وأكثر مرونة للتعامل مع الواقع القابل للتغيير الشامل فى السودان على صعيد استمرار الوحدة أو الانقسام بكل ما يستتبعه على جميع الأصعدة.