بسبب القواعد الجديدة، "أطباء بلا حدود" تترقب اليوم قرارا إسرائيليا بوقف عملها في غزة    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الأربعاء 31 ديسمبر    هجوم أوكراني بطائرات مسيرة على موسكو    الاختبارات الإلكترونية لبرنامج الدبلوماسية الشبابية تجذب آلاف الشباب المصري    وخلق الله بريجيت باردو    محكمة تونسية تؤيد حكم سجن النائبة عبير موسى عامين    وزارة الرياضة تواصل نجاح تجربة التصويت الإلكتروني في الأندية الرياضية    بداية تحول حقيقي، تقرير صادم عن سعر الذهب والفضة عام 2026    ولفرهامبتون يحصد النقطة الثالثة من أرض مانشستر يونايتد    ذخيرة حية وإنزال برمائي.. الصين توسع مناوراتها حول تايوان    مصرع طفل دهسه قطار الفيوم الواسطي أثناء عبوره مزلقان قرية العامرية    طقس رأس السنة.. «الأرصاد» تحذر من هذه الظواهر    قوات التحالف تنشر مشاهد استهداف أسلحة وعربات قتالية في اليمن وتفند بيان الإمارات (فيديو)    "25يناير."كابوس السيسي الذي لا ينتهي .. طروحات عن معادلة للتغيير و إعلان مبادئ "الثوري المصري" يستبق ذكرى الثورة    رئيس جامعة قنا يوضح أسباب حصر استقبال الحالات العادية في 3 أيام بالمستشفى الجامعي    د.حماد عبدالله يكتب: نافذة على الضمير !!    محافظ القاهرة: معرض مستلزمات الأسرة مستمر لأسبوع للسيطرة على الأسعار    «قاطعوهم يرحمكم الله».. رئيس تحرير اليوم السابع يدعو لتوسيع مقاطعة «شياطين السوشيال ميديا»    خالد الصاوي: لا يمكن أن أحكم على فيلم الست ولكن ثقتي كبيرة فيهم    مصدر بالزمالك: سداد مستحقات اللاعبين أولوية وليس فتح القيد    شادي محمد: توروب رفض التعاقد مع حامد حمدان    نتائج الجولة 19 من الدوري الإنجليزي الممتاز.. تعادلات مثيرة وسقوط مفاجئ    "البوابة نيوز" ينضم لمبادرة الشركة المتحدة لوقف تغطية مناسبات من يطلق عليهم مشاهير السوشيال ميديا والتيك توكرز    استشهاد فلسطيني إثر إطلاق الاحتلال الإسرائيلي الرصاص على مركبة جنوب نابلس    الأمم المتحدة تحذر من أن أفغانستان ستظل من أكبر الأزمات الإنسانية خلال 2026    قيس سعيّد يمدد حالة الطوارئ في تونس حتى نهاية يناير 2026    نتنياهو يزعم بوجود قضايا لم تنجز بعد في الشرق الأوسط    من موقع الحادث.. هنا عند ترعة المريوطية بدأت الحكاية وانتهت ببطولة    دعم صحفي واسع لمبادرة المتحدة بوقف تغطية مشاهير السوشيال ميديا والتيك توك    تموين القاهرة: نتبنى مبادرات لتوفير منتجات عالية الجودة بأسعار مخفضة    التنمية المحلية: تقليص إجراءات طلبات التصالح من 15 إلى 8 خطوات    المحامى محمد رشوان: هناك بصيص أمل فى قضية رمضان صبحى    رضوى الشربيني عن قرار المتحدة بمقاطعة مشاهير اللايفات: انتصار للمجتهدين ضد صناع الضجيج    طرح البرومو الأول للدراما الكورية "In Our Radiant Season" (فيديو)    الخميس.. صالون فضاءات أم الدنيا يناقش «دوائر التيه» للشاعر محمد سلامة زهر    لهذا السبب... إلهام الفضالة تتصدر تريند جوجل    ظهور نادر يحسم الشائعات... دي كابريو وفيتوريا في مشهد حب علني بلوس أنجلوس    بسبب الفكة، هل يتم زيادة أسعار تذاكر المترو؟ رئيس الهيئة يجيب (فيديو)    د هاني أبو العلا يكتب: .. وهل المرجو من البعثات العلمية هو تعلم التوقيع بالانجليزية    غدًا.. محاكمة 3 طالبات في الاعتداء على الطالبة كارما داخل مدرسة    حلويات منزلية بسيطة بدون مجهود تناسب احتفالات رأس السنة    الحالة «ج» للتأمين توفيق: تواجد ميدانى للقيادات ومتابعة تنفيذ الخطط الأمنية    أمين البحوث الإسلامية يلتقي نائب محافظ المنوفية لبحث تعزيز التعاون الدعوي والمجتمعي    ملامح الثورة الصحية فى 2026    هل تبطل الصلاة بسبب خطأ فى تشكيل القرآن؟ الشيخ عويضة عثمان يجيب    هل يجب خلع الساعة والخاتم أثناء الوضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    جامعة عين شمس تستضيف لجنة منبثقة من قطاع طب الأسنان بالمجلس الأعلى للجامعات    خالد الجندى: القبر محطة من محطات ما بعد الحياة الدنيا    خالد الجندي: القبر مرحلة في الطريق لا نهاية الرحلة    حقيقة تبكير صرف معاشات يناير 2026 بسبب إجازة البنوك    الأهلي يواجه المقاولون العرب.. معركة حاسمة في كأس عاصمة مصر    رئيس جامعة قناة السويس يهنئ السيسي بالعام الميلادي الجديد    رئيس جامعة العريش يتابع سير امتحانات الفصل الدراسي الأول بمختلف الكليات    الصحة: تقديم 22.8 مليون خدمة طبية بالشرقية وإقامة وتطوير المنشآت بأكثر من ملياري جنيه خلال 2025    الزراعة: تحصين 1.35 مليون طائر خلال نوفمبر.. ورفع جاهزية القطعان مع بداية الشتاء    معهد الأورام يستقبل وفدا من هيئة الهلال الأحمر الإماراتي لدعم المرضى    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    نسور قرطاج أمام اختبار لا يقبل الخطأ.. تفاصيل مواجهة تونس وتنزانيا الحاسمة في كأس أمم إفريقيا 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحدث إصدارات دار الشروق: اللاهوت العربي للكاتب الكبير يوسف زيدان
نشر في الشروق الجديد يوم 11 - 12 - 2009

بعد 55 كتاباً بدأها ب«المقدمة فى التصوف لأبى عبدالرحمن السلمى» عام1987، ومروراً بكتبه «التراث المجهول.. إطلالة على عالم المخطوطات»، و«المخطوطات الألفية»، و«كلمات التقاط الألماس من كلام الناس»، وصولا إلى روايته «عزازيل»، يصدر يوسف زيدان كتابه الجديد «اللاهوت العربى» عن دار الشروق. وقد صدّر الكاتب مؤلفه بقوله: «لم يوضع هذا الكتاب للقارئ الكسول، ولا لأولئك الذين أدمنوا تلقى الإجابات الجاهزة، عن الأسئلة المعتادة. وهو فى نهاية الأمر كتاب، قد لا يقدم ولا يؤخر».
ويقدم موقع الشروق نيوز للقراء الأعزاء الفصل الأول من هذا الكتاب
الله والأنبياء فى التوراة
حين يتلقى اليهودي الصبى، والمسيحى من بعد، قصص «التوراة» للمرات الأولى فى حياته، يتلقاها مبسطة ومشفوعة بشروح وتعليقات، خليقة بأن تجعل هذا القصص مقبولا فى أذهان أهل الابتداء، على اعتبار أن بواطن المبتدئين كالشمع، تقبل كل نقش من دون أى نقاش. ومع تكرار الأمر يوما بعد يوم، وجيلا من بعد جيل، يصير القصص التوراتى معتادا ومنظورا إليه على اعتبار أنه عقيدة ودين، بل هو العقيدة ذاتها والدين.
أما إذا نظرنا للتوراة بعين مجردة لم تعتد هذه النصوص، ولا تعتد بها كوحى من السماء، فسوف تفاجئنا حقائق محيرة فى التوراة أو أسفار موسى الخمسة التى يبدأ بها «العهد القديم» وهى أسفار: التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية.
وهذه الأسفار الخمسة، تعد حجر الزاوية فى الديانة اليهودية، وتعترف بها المسيحية اعترافا كاملا، وينظر إليها الإسلام بعين القلق من دون أن يرفضها تماما، على اعتبار أنها صحيحة الأصل، محرفة النص. ومن ثم، فالتوراة تحظى من الإسلام باعتراف منقوص، أو بإقرار مشوب بالحذر.. المهم، تفاجئنا التوراة بعديد من الحقائق المحيرة التى يعنينا منها الآن، الحقيقة التالية:
اليهودية وصور "إشكالية" للإله
بعدما اجتهدت الحضارات الإنسانية القديمة، فى تقديم صورة مثلى للإله المتسامى، المحتجب فى عليائه «آمون، فى المصرية القديمة تعنى: المختفى» المفيض بالخير على الكون، واهب الحياة والرحمة، المتجلى منذ القدم فى صورة أنثوية «إيزيس، عشتار، إنانا، أرتميس» العادل الكامل البهى الباهر.. أتت اليهودية بصورة «إشكالية» للإله، لم تقف عند تعدد أسمائه التوراتية: آدوناى، الرب، رب الجنود يهوه، ياهو، إيل، إلوهيم، أهيه الذى أهيه.. وإنما تعدت الإشكالية هذا التعدد إلى طبيعة الله وصفاته فى التوراة. فهو «تعالى» يظهر تارة داعيا إلى الخير وفضائل الأعمال، وتارة أخرى يظهر عنيفا، منتقما من الناس لحساب اليهود. مثلما هو الحال مثلا، فى العبور «الفصح» الذى نشر الرب فيه الرعب بأرض مصر، إرضاء لشعبه المختار. تقول التوراة على لسان الرب، فى خطاب إلهى موجه إلى النبى موسى وأخيه هارون، ومن ورائهما أهلهما من اليهود الذين كانوا يقطنون مصر، بحسب التوراة، من قبلهما بقرون من الزمان، فيأمرهم الله أن يذبحوا خرافا، ويضعوا من دمها علامة على أبواب بيوتهم: «فإنى أجتاز فى أرض مصر هذه الليلة، وأضرب كل بكر فى أرض مصر، من الناس والبهائم، وأصنع أحكاما بكل آلهة المصريين، أنا الرب، ويكون الدم علامة على البيوت التى أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا تكون عليكم ضربة الهلاك، حين أضرب أرض مصر».
وهكذا يحتاج الرب التوراتى المفترض فيه أنه «تعالى» القادر العليم، علامة بصرية كى يميز بيوت أحبائه من اليهود، حتى لا يضربهم سهوا بتلك النيران الإلهية الصديقة، التى يهلك بها أهل مصر. وهو الهلاك الذى احتفت اليهودية بوقوعه، وجعلته عيدا للرب أبد الدهر، وهو عيد الفصح أو العبور.
والعجيب فى الحكاية التوراتية هذه، التى سوف تصير أنموذجا لبنية «الخروج» التى سنتعرض لها فى آخر كتابنا هذا، قبل الخاتمة مباشرة، أن وقائعها مسبوقة بمصائب كبيرة ألحقها «الرب» بأهل مصر، عقابا لفرعون الذى لم يوافق على إطلاق اليهود ليرحلوا عن مصر. وبحسب الآية التوراتية: شدد الرب قلب فرعون، فلم يطلق بنى إسرائيل! فكأن المصريين، وعلى رأسهم فرعونهم، ظلوا متمسكين ببقاء اليهود فى مصر، ولم يفرطوا فيهم، حتى آخر رمق فى حياة كل مصرى، وحتى خراب آخر بيت ببلادهم.
التوراة تأمر اليهود بالاحتيال على المصريين!
والأعجب مما سبق، أن التوراة لا تذكر بعد هذه الضربات الإلهية الاستباقية لأرض مصر، أن موسى النبى وقومه كانوا مضطهدين من المصريين. بل على العكس من ذلك، تقول التوراة إن الله «تعالى» أمر اليهود بالاحتيال على المصريين! ولنترك النص التوراتى، يحكى لنا ما يؤمنون هم، بأنه وقع بالفعل: «ثم قال الرب لموسى: ضربة واحدة أيضا، أجلب على فرعون وعلى مصر، بعد ذلك، ليطلقكم من هنا.
وعندما يطلقكم، يطردكم طردا من هنا بالتمام. تكلم «يا موسى» فى مسامع الشعب، أن يطلب كل رجل من صاحبه «جاره المصرى» وكل امرأة من صاحبتها، أمتعة فضة وأمتعة ذهب. وأعطى الرب نعمة للشعب فى عيون المصريين، وأيضا الرجل موسى كان عظيما جدا فى أرض مصر، فى عيون عبيد فرعون وعيون الشعب. وقال موسى: هكذا يقول الرب: «إنى نحو نصف الليل أخرج فى وسط مصر، فيموت كل بكر فى أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على كرسيه، إلى بكر الجارية التى خلف الرحى، وكل بكر بهيمة، ويكون صراخ عظيم فى كل أرض مصر، لم يكن مثله ولا يكون مثله».
الله التوراتي حائرا!
والله التوراتى، يظهر فى سفر التكوين حائرا وثائرا على البشر جميعا، حسبما نراه فى قصة الطوفان، ذات الأصل السومرى، التى يتخذ فيها اله صفة الغيور الغضوب، لأن: «أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا..» «تكوين 2:6» ثم يتخذ الله صفة الحزن والندم، لأن: «شر الإنسان قد كثر فى الأرض، وأن تصور أفكار قلبه، إنما هو شرير كل يوم.
فحزن الرب أنه عمل الإنسان فى الأرض، وتأسف فى قلبه..» «تكوين 6،5:6».
ثم يتخذ صفة الجبار الثائر المنتقم: فقال الرب: امحو عن وجه الأرض الإنسان الذى خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأنى حزنت أنى عملتهم.. «تكوين 7:6»
وأرسل الله على الأرض الطوفان، أربعين يوما وليلة، فمات جميع البشر والخلائق إلا النبى نوحا والذين معه فى السفينة «الفلك المشحون» من البشر وصنوف المخلوقات، حتى مرت مائة وخمسون يوما، والأرض غرقى والخليقة كلها موات. ونسى الرب نوحا ومن معه! تقول الآيات التوراتية: «ثم ذكر الله نوحا، وكل الوحوش وكل البهائم التى معه فى الفلك. وأجاز الله ريحا على الأرض، فهدأت المياه ورجعت عن الأرض، واستقر الفلك فى اليوم السابع عشر من الشهر السابع، على جبل أرارات».. وهو الجبل المسمى عند اليهود والمسيحيين أراراط وعند المسلمين: الجودى.
والله فى التوراة يحب أن يطاع، ويستلذ رائحة الشواء، ويندم على أفعاله السابقة!
تقول الآيات: «وبنى نوح مذبحا للرب، وأخذ من البهائم ومن كل الطيور الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح، فتنسم الرب رائحة الرضا، وقال الرب فى نفسه: لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان، لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته، ولا أعود أيضا أميت كل حى كما فعلت».
صورة إنسانية للإله التوراتي
كما تظهر فى النصوص التوراتية، المقدسة، صورة «إنسانية» للإله. فالله التوراتى ينتابه القلق، لأن الإنسان «آدم» أكل من شجرة المعرفة، فصار عارفا مثل «الآلهة» وليس الإله الواحد، وقد يأكل الإنسان أيضا من شجرة الخلود، فيصير أبديا مثل الله أو الآلهة. نرى ذلك فى مفتتح سفر التكوين، حيث تقول الآيات وفقا لمعظم الترجمات، ما نصه: «وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا، عارفا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا، ويأكل ويحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن، ليعمل فى الأرض التى أخذ منها. فطرد الإنسان وأقام شرقى جنة عدن الكروبيم «الملائكة» ولهيب سيف متقلب، لحراسة طريق شجرة الحياة».
والله فى التوراة يترصد أعمال البشر، غيرة منهم وحنقا عليهم. فهو «تعالى» حين رأى الناس يقيمون حضارة فى «بابل» ويبنون مدينة وبرجا هائلا، وكان بنو آدم آنذاك يتكلمون كلهم لغة واحدة، اغتاظ الرب! تقول التوراة: «فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونها، وقال الرب: هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، هذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننزل، ونبلبل هناك لسانهم، حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك على كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة. لذلك دعى اسمها بابل، لأن الرب هناك، بلبل لسان كل الأرض، ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض».
الإله مغلوبا!
ثم تتخذ الذات الإلهية «التوراتية» أقصى صورها الإشكالية، حين يغدو الله «سبحانه» مغلوبا، مستغيثا، مستسلما. وهو ما حكاه سفر التكوين حين قص الواقعة الشهيرة التى صارع فيها «الله» النبي يعقوب، بعدما اتخذ الله فى هذا «العراك» صورة رجل آدمى. وظل الإنسان والله يتقاتلان طيلة الليل، حتى اقترب الفجر، واستطاع يعقوب «عليه السلام» أن يجثم فوقه، وينتزع منه الاعتراف بنبوته. تقول التوراة فى ترجمتها العربية، الصادرة عن «دار الكتاب المقدس» تحت العنوان الجانبى يعقوب يصارع مع الله ما نصه:
«وقال أطلقنى لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لمن تباركنى. فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب. فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل إسرائيل. لأنك جاهدت مع الله والناس. وقدرت. وسأل يعقوب: أخبرنى باسمك. فقال: لماذا تسأل عن اسمى؟ وباركه هناك».
وبطبيعة الحال، اجتهد الربيون وعلماء الشريعة اليهود فى حل مشكلات هذه النصوص «المقدسة» ثم اجتهد من بعدهم فى حلها، علماء التفسير التأويلى المسيحى، المسمى الهرمنيوطيقا. وبذلك تعددت الاجتهادات التأويلية، وتنوعت ما بين النظر إلى تلك الحكايات والقصص التوراتية باعتبارها رموزا لا تاريخا فعليا، أو النظر إليها باعتبارها «حالات» للذات الإنسانية، فى تطورها الزمنى على الأرض.
علما بأن تاريخ البشرية كله، وفقا للتوراة والتقويم اليهودى، لم يتعد حتى يومنا هذا، ستة آلاف عام! مع أن مصر القديمة، بدأت إقامة حضارتها المبهرة فى الوقت الذى تؤكد التوراة أن آدم عاش فيه سنى عمره التسعمائة والثلاثين!
ثم عاش من بعده ابنه شيت تسعمائة واثنتى عشرة سنة، وعاش الحفيد أنوش تسعمائة وخمس سنين، وعاش ابنه قينان تسعمائة وعشر سنين.. وعلى هذا النحو الباذخ، ذكرت هذه الأعمار الأسطورية فى التوراة. مع أن البشر فى زمن ما قبل الحضارات، لم يكن متوسط عمر الواحد منهم يتجاوز ثلاثين سنة، وكان متوسط أعمار الناس فى دول مصر القديمة، المتحضرة جدا بمقاييس هذا الزمان البعيد، ستا وثلاثين سنة فقط.
تأويلات للإبقاء على القداسة
ونعود إلى مسألة صفات الله حسبما ظهرت فى التوراة، فنرى أن التأويلات والشروح الكثيرة والحلول المقترحة التى قدمت عبر التاريخ الطويل لليهودية، وفى المسيحية من بعد، بغية إبقاء «القداسة» ضافية على نصوص العهد القديم، لم تغير جميعها من صيغة هذه النصوص المقدسة ذاتها، خاصة بعدما انتقلت من العبرية التى هى اللغة الأم، إلى اللغات الآرامية واليونانية، ثم إلى القبطية واللاتينية والسريانية «الآرامية المتأخرة» والعربية، ثم ترجمت حديثا إلى كل لغات البشر. ولكن، ظلت التأويلات والشروح والحلول المقترحة، أبطأ انتقالا من اللغة التى كتبت بها التوراة أصلا، إلى بقية اللغات التى ترجمت ونقلت إليها. فكان لتأخر وصول «الحلول المقترحة» الواردة فى تلك الشروح والتأويلات أثر كبير فى الانتباه لخطورة النصوص التوراتية، وما ترسمه من صفات إلهية لا يستحب أصلا إطلاقها على البشر، ناهيك عن الله. أعنى الصفات الناتجة عن تلك القصص التى أشرنا لبعضها فيما سبق، والتى يظهر فيها الله تعالى: قلقا، حسودا، حقودا، غضوبا، نادما، ناسيا، منتشيا برائحة الشواء مغلوبا.. وهى صفات إنسانية رديئة، ألحقتها التوراة بالإله بكل وضوح، ومن دون أى مواربة، فنشأت مشكلة كبرى ظهر أثرها لاحقا، هى ارتباط «الصفات» بالذات الإلهية.
وهى المشكلة التى حاول مرقيون «الهرطوقى» فى منتصف القرن الثانى الميلادى أن يحلها برفضه للعهد القديم كله، مؤكدا أن الرب التوراتى ليس له أى علاقة بالمسيح، لأن «دراسة العهد القديم تثبت أن هذا الإله اليهودى، قد أدخل نفسه فى أفعال متناقضة، فكان متغيرا على الدوام، جاهلا وقاسيا».
اليهودية جعلت الله ملتصقا بالأرض لا السماء
ويتصل بما سبق، مشكلة أكبر أثرا وأعوص حلا، هى أن اليهودية المبكرة جعلت الله تعالى ملتصقا بالأرض لا السماء، فهو ينزل إلى «الخيمة» فيصير قريبا من الإنسان ويشاركه وقائع حياته. مع أن الله، بداهة، ينتمى إلى السماء لا الأرض، وإلا لما صار معبودا للإنسان. ولا ننسى هنا أن الإنسان عندهم، على إطلاقه، لا يعنى أى جماعة بشرية غير اليهودى. فالله التوراتى مخصوص ببنى إسرائيل، ومشغول بهم وحدهم. ولذلك نظر اليهودى إلى غير اليهودى، على أنه «أممى» وكأنه ناقص الأهلية الإنسانية، ولا يمكنه أن يحلم يوما بالانضمام إلى أبناء الرب «اليهود» ما دام لم يولد أصلا من أم يهودية. وعلى هذا النحو العجيب، صار «الله» مملوكا لليهود دون غيرهم من بنى البشر، ومتعاملا معهم فقط من دون بنى آدم، بل منهمكا بحضوره بينهم، وحدهم، فى الخيمة الأرضية التى عاشوا فيها.
الحل المسيحي للمشكلة
وقدمت الديانة المسيحية حلا لهذه المشكلة، بأن أكدت وجود الله مع الإنسان فى الأرض، لتتوافق بذلك أولا مع اليهودية، ثم رفعته ثانية إلى السماء، حيث الموضع الذى يليق به. وكان المسيح هو صيغة الخلاص من مشكلة اندماج الله مع الإنسان، واندراجه فى الأرض. وكان السيد المسيح أيضا، بحسب المفهوم الدينى المسيحى، هو صيغة الخلاص الإنسانى من مشكلة الخطيئة الأولى التى اقترفها آدم، ثم ورثها أبناؤه من البشر. مع أن هؤلاء الأبناء لم يشهدوا قط هذا الخلق الأول، ولم يشتركوا فى تلك «الخطية» التى هى عصيان آدم لأمر الرب، بإقباله على الأكل من الشجرة «الأشجار» المحرمة، بهذا الاشتهاء المفعم بجاذبية سحرية.. وعلى الرغم من ذلك، فإن عموم ذرية آدم، تعرضوا طيلة آلاف السنين، لغضب الله من زاوية القدوسية الإلهية. على اعتبار أن الله المسيحى، الأب، فيه الصفتان المتقابلتان: القدوسية «الجلال» والرحمة «الجمال». فكانت التوراة مجلى القدوسية، وتجلت الرحمة فى الإنجيل، الذى يعنى لفظه حرفيا: البشارة.
والمسيح فى العقيدة الأرثوذكسية، القبطية منها وغير القبطية، هو الرب الكامل، وهو الإله المتجسد، وهو هو. وعلينا هنا أن ننتبه إلى هذا المصطلح الأخير «الهو هو» الذى ظهر لأول مرة فى المناقشات الكريستولوجية المتعلقة بطبيعة السيد المسيح «يسوع، عيسى، خريستو، كريستوس» وهى المناقشات الحامية الحادة، التى جرت بين الكنائس الكبرى قبل ظهور الإسلام. ثم ظهر هذا المصطلح «الهو هو» عربيا بعد الإسلام، وتوسع المتكلمون المسلمون «المعتزلة» وأفاضوا فى مفهوم الهو هو، حتى صار نظرية كلامية شهيرة، تعالج مشكلة الصفات الإلهية عند المسلمين، انطلاقا من الرؤية المعتزلية القائلة إن صفات الله غير زائدة على ذاته، إذ هى عين الذات.. أى هى هو.

مناقضة القيم الإنسانية
والقصص التوراتى الذى أشرنا لبعضه فيما سبق، لا تقتصر خطورته على ما يطرحه من «صفات إلهية» يصعب إلحاقها بالذات الإلهية. وإنما تتعدى هذه الخطورة ذلك، إلى أمور لا تقل أهمية، منها مناقضة القيم الإنسانية التى اجتهدت الحضارات، قبل تدوين التوراة بقرون طوال، من أجل إرسائها فى وجدان البشر المتحضرين.
فعلى النقيض من فكرة أو مفهوم «الضمير» الذى قدمته مصر القديمة للإنسانية، لأول مرة، جاءت النصوص التوراتية مستهينة بحقوق البشر من غير اليهود، وممعنة فى تحقير «الأمم» غير اليهودية. وكأن غير اليهود، هم أقل إنسانية من أبناء الرب، أو أن ربا آخر غير رب اليهود، هو الذى خلقهم.
وقد انقلبت فى التوراة منظومة القيم الإنسانية، رأسا على عقب، فصار القتل مباحا مادام يتم باسم الرب، وصار الزنا بالمحارم جائز الاقتراف أو وارد الوقوع، حتى فى حق الأنبياء! مثلما نرى فى قصة النبى لوط، الذى زنى مع ابنتيه بعدما أسكرتاه، فكان نتاج هذا الزنا أن أنجبت إحداهما جد قبيلة العمونيين، وأنجبت الأخرى جد المؤابيين.
تقول التوراة، ما نصه: «فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت البكر ابنا ودعت اسمه مؤاب، وهو جد المؤابيين إلى اليوم، والصغيرة أيضا ولدت ابنا، ودعت اسمه ابن عمى، وهو أبو بنى عمون إلى اليوم..» وهكذا صارت القبيلتان الكبيرتان، بكل أفرادهما من الرجال والنساء، بحكم الكتاب المقدس، أبناء زنا وثمرة سفاح. مثلما صار العرب جميعهم، بحسب الحكاية التوراتية المقدسة أيضا، أبناء جارية مصرية اسمها هاجر هجرها زوجها النبى، أبو الأنبياء، ولفظها إلى الصحراء إرضاء لزوجته الغيور التى سميت سارة لأنها كانت امرأة جميلة، تسر القلب.
الصورة التوراتية للأنبياء
والصورة التوراتية للآباء الأوائل والأنبياء ورجال الله، مفزعة. فهم فى القصص التوراتى على الرغم من أنهم الأخيار المختارون، لا يتورعون عن الإتيان بأفعال مهولة، من مثل: معصية الخالق «آدم» أو استخدام الزوجة للحصول على المال «إبراهيم» أو السكر والزنا بالمحارم «لوط مع ابنتيه» أو التنكر للجميل «إبراهيم مع أبيمالك» أو السرقة ونهب الجيران والقتل «موسى» أو الإمعان فى إبادة الناس «يوشع بن نون» أو الاستيلاء على النساء بقتل أزواجهن ظلما، بعد الزنا بهن «داود» أو قتل الإخوة للانفراد بالحكم «سليمان».. ناهيك عن تبجح القتلة، وحماية الله لهم، حسبما ورد فى حكاية قايين «قابيل» ولامك، فالأول منهما قتل أخاه «هابيل» وتبجح حين سأله الله عن أخيه المقتول، ثم أعطاه الله وعدا «عهدا» بأن من يقتله سيقتل الله منه سبعة! والآخر الذى اسمه فى التوراة: لامك، قتل رجلا فحماه الله وتوعد من يقتله، بأن يقتل منه سبعين! سبعين إنسانا فى مقابل إنسان يهودى واحد.. وقد رفع اليهود المعاصرون، مؤخرا هذه النسبة غير المتناسبة، فصاروا إذا قتل منهم العرب واحدا، يقتلون منهم مائة شخص أو أكثر.
وهناك الكثير، علاوة على ما سبق، يمكن أن يقال فى خطورة النص التوراتى، وما اشتمل عليه من قصص عجيب. غير أن الذى يعنينا الآن من ذلك كله، تحديدا، هو ما يتعلق فقط بالإشكال الأساسى الذى أشرنا إليه سابقا، أعنى الإشكال المتعلق بالبحث الإلهى «الثيولوجيا» بشكل عام، والمتعلق خصوصا بالصفات الإلهية والصورة النبوية المستفادة من القصص التوراتى. وهى الصفات «الربانية» والصور «الرسالية» التى لا يمكن قبولها عند غير المؤمنين بقدسية النص التوراتى.
وقد بقى هذا الإشكال العميق قائما، حتى جاءت المسيحية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.