فجأة نطق «ناصر» بعدما أطفأ سيجارته فى منفضة الرخام الكبيرة، وقال بهدوء شديد: إننى مكلف يا رفيق فهد من الجبهة الثورية بأن أسلمك هذه الرسالة. كما كلفتنى أن أعطيك بعض الإرشادات بشأنها. قال فهد وقد بدأ الرعب ينتابه: خير.. هل هناك مشكلة؟ سوف تقرأ الرسالة وتعرف.. ولكن قبل ذلك اسمع منى بعض الإرشادات. تفضل.. أولا لا تقرأ الرسالة إلا فى الحمام وبعد أن تغلق الباب جيدا! اقرأها بسرعة وحاول أن تحفظها، بعد ذلك قم بإحراقها فورا واسحب «السيفون» بعد الحرق، وعندما تتأكد من كل ذلك اخرج من الحمام. حسنا وبعد ذلك... بعد ذلك أعطنا رأيك بالموافقة أو الرفض فى أسرع وقت ممكن. ولكن تأكد من رأيك ولا تغيره. فالموضوع على قدر من الأهمية بل ونعتبره خطيرا جدا فى «الجبهة الثورية». وبعد صفحات قليلة من رواية «مدرس ظفار» للروائى خالد البسام، الصادرة عن منشورات الأمل ببيروت، سنجد «فهد» الذى كان يعيش بالقاهرة قد توقع كل شىء، لكن ما فى الرسالة كان هو الأصعب وغير المتوقع والأكثر غرابة... «وضع الشاى أمامه ودخن سيجارته الأربعين ربما أو أكثر فى ذلك اليوم! وفتح الرسالة بقلق شديد وراح يقرأ: الرفيق العزيز.. تحية الثورة.. يعرض عليك التنظيم الالتحاق بصفوف الثورة العمانية فى ظفار كى تكون مدرسا فى إحدى مدارس الثورة، ولكى تشارك فى النضال مع رفاقنا العمانيين الصامدين»... والسؤال الذى يطرح نفسه: ماذا فعل فهد فى مدارس الثورة بظفار؟! أو ماذا قال الروائى خالد البسام فى روايته، وكيف رأى الثوار والثورة ومدارسها. والبسام له أكثر من عشرين كتابا فى التاريخ المعاصر، وله رواية سابقة هى «لا يوجد مصور فى عنيزة»، أثارت الجدل فى السعودية، ونالت غبارا نقديا كثيفا. قبل الإجابة عن السؤال السابق لابد أن نعرف أن فهد تعرف على ظفار للمرة الأولى عندما كان فى البحرين حينما أعطاه أحد الأصدقاء منشورا قال له إنه صادر عن الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربى المحتل، وتذكر أنه قرأه مرة ومرات، لدرجة أنا كاد يحفظه عن ظهر قلب من شدة الإعجاب بما جاء فيه من كلام ثورى عجيب هز وجدانه حينها، لدرجة أحس معها أن تلك الثورة هى ثورته وقضيته الوحيدة». لكن فهد الذى أصابته لوثة السياسة فى سن مبكرة ركبته خيبة أمل كبيرة، إذ إن جميع تلاميذ وطلاب المدارس لا يتكلمون العربية على الإطلاق! خاصة فيما بينهم، وكانت لغاتهم هى لغات ظفار التى جاءوا منها، فضلا عن تعرضه للعقد النفسية التى يعانى منها رفيقه سعود والذى أراد أن يسقطها على فهد «كيف يدعى بأنه ثورى وهو لا يطيق إلا نفسه؟ بل ويعتقد أنه الثورة كلها، وأنه هو المدرس والقائد والزعيم وكل شىء؟ كيف يُعلم مثل هذا الإنسان هؤلاء البسطاء الطيبين ويعطيهم تعاليمه فى العقد النفسانية وإثارة المشكلات مع البشر؟». وما بين روايتين عن «ثورة ظفار» بون شاسع. الأولى صدرت عام 2000 للروائى الكبير صنع الله إبراهيم رواية «وردة» متحدثة عن ثورة ظفار بنوع من الانبهار، لكنها لم تغفل انكسار الثورة، حيث تاهت وردة وانتهت الثورة، أما الرواية الثانية «مدرس ظفار»، وهى الأحدث تناولت الثورة بنوع من النقد، حيث انتقد بطل الرواية فهد الثورة وتلاميذها وزعاماتها بشدة، فكان كله أمله لا أريد منكم شيئا إلا الاحترام ثم الاحترام. لقد جئت إليكم متطوعا وتركت كل شىء من أجلكم، وأنا لا أريد أن أفتخر بذلك أو أطالب بأن تعطونى مقابلا، أطلب منكم بل وأرجوكم أن تحترموا من يعلمكم. فهذه أبسط مبادئ القيم والتقاليد والتعاليم الثورية». صنع الله إبراهيم يكتب: «تقول وردة فى مذكراتها «بدأت الثورة فى ظفار.. قدت الهجوم على طريق حمرين. كنا جميعا متوترين نتصبب عرقا. أصدرت الأمر بفتح النار على الموقع.. الإنجليز تركوا الموقع وهربوا.. انكسرت هيبة العدو.. سيكون هذا هو عيد ميلادى الحقيقى.. وقررنا أن نزرع شجرة لبان بهذه المناسبة فى موقع معسكرنا... انتصاراتنا تتواصل.. تسوير مدن ظفار الرئيسية بالأسلاك الشائكة.. امشى حافية بعد أن تمزق الحذاء الكاوتش. فى البداية امتلأت قدماى بالبثور ثم تصلبت.. عام جديد للثورة ولى». خالد البسام يقول فى روايته والتى ربما كتبها بكثير من الوعى على حساب الإبداع: «ماذا فعلت يا ربى كى يصيبنى كل هذا العذاب؟ كل ما أقوم به لصالحهم ومن أجلهم ومن أجل هذه الثورة التى طالما نالت إعجابى واحترامى منذ بداياتى الثورية الأولى، ولم تزل فى قلبى كبيرة وعزيزة عندى وستظل كذلك إلى الأبد! لكنى لا أعرف ما الذى جرى لهؤلاء؟ كيف تغيروا إلى هذه الدرجة؟». لقد كانت ظفار بالنسبة للبطل، وأظن بالنسبة للكاتب أيضا حلما.. ثم كابوسا، وبعدها أسطورة فى الذاكرة لا تنسى أبدا، أو كأنها يوم لا يريد أن يرى النور! أخيرا، يلاحظ فى رواية البسّام مفارقات كثيرة لا تصل إلى درجة العيوب الفنية: مواقف ميلودرامية مسرفة فى العاطفية، وأخرى غير مقنعة، ومباشرة فى الحكى. ولكن يحسب لها أنها وقعت على لحظة درامية حقيقية تلهم المبدعين وهى ثورة ظفار، كما أنها سعت إلى تصوير البطل فى لحظات إعجابه بالثورة ونقمه عليها، فى لحظات قوته وضعفه دون أن يجعل منه مثاليا برأ من كل عيب، فضلا عن حوار حى، وقدرة على ابتعاث الحالات النفسية لدى أبطال الرواية جميعا.