لقد فشلت الأيديولوجية التى دفعت بملايين الأشخاص إلى مجاراة أنماط معيشية مرتفعة بأجور منخفضة، وقروض ميسرة. ولكن من الذى سيخبرهم بهذا؟ ينتمى الرجال الذين تحلقوا فى ظلال الأشجار، وسط درجة حرارة تبلغ 90 درجة فهرنهايت بموقف للسيارات فى أتلانتا، إلى الشريحة الدنيا لما يسمى بالطبقة الوسطى الأمريكية. وهم يحدقون، متحفزين ككلاب الصيد فى الشاحنات أثناء مغادرتها متجرا لبيع الحدايد. وعندما تتوقف إحداها، يندفع 15 أو 20 منهم معا، إلى نافذة السائق للمساومة. ثم يقفز الشخص الذى تم الاتفاق معه إلى الشاحنة بحقيبة أدواته: سوف يتحصل على عشرة دولارات فى الساعة نقدا مقابل عمل من أعمال البناء الأساسية. ولكن حتى الشريحة الدنيا توجد بداخلها شرائح: المكسيكيون من المهاجرين حديثا، ومعظمهم شباب. بينما الأمريكيون من أصل أفريقى أكبر سنا ويتسمون بالهزال. قال أحدهم لى: «إنهم لا يستأجرون سوى الإسبان» وعندما سألته عن السبب رمقنى بنظرة جامدة. وفى مركز «جود ويل» الخيرى للتوظيف، يمكنك أن تقابل الشريحة الأعلى.. كتبة قانونيون سابقون، وسكرتيرو الحسابات، فنيو الكمبيوتر حيث تتمثل فى هذه القاعة الرواية الكاملة عن السود الذين طوروا أنفسهم ذاتيا. والقصة واحدة.. معظمهم عاطل عن العمل منذ شهور، والبعض منذ سنوات. اذهب إلى الشوارع ذات البوابات، حيث يفترض أن تعيش الطبقة الوسطى، وسوف تجد بين كل شارعين بقعة من الحشائش مثل حقل القمح، دلالة على منزل سُحب من شاغليه. (بسبب تخلفهم فى تسديد الأقساط) بل إنه حتى من نجوا من ذلك مصيرهم مهدد. وقد استأجر جوان وكنيودا بولن مسكنا هنا منذ أن طردا من منزلهما. وفى بعض الأحيان لا يدفعان الإيجار. فعندما فقدا وظيفتيهما كساعى بريد وموظفة فى بنك انخفض دخلهما من 75 ألف دولار إلى 14 ألف دولار سنويا. وعندما سألتهما هل مازلتما تشعران أنكما من الطبقة الوسطى. ردا بالإيجاب «على الرغم من أننا لم نعد متأكدين فعلا مما يعنيه ذلك». فمصطلح «الطبقة الوسطى» الأمريكية نشأ عن الأيديولوجيا، لكنه تعبير عن حلم. والحلم هو الشىء المشترك بين العمال غير النظاميين السود والمكسيكيين فى موقف السيارات: فهم هناك لأنهم يفضلون العمل على تقاضى الإعانة الاجتماعية. وهم يعتقدون أنهم أصحاب أعمال خاصة، وسوف يقفون فى وجه الرياح العكسية الاقتصادية إلى درجة امتهان الذات حتى يتجنبوا الاعتراف بخلاف ذلك. غير أن الطبقة الوسطى الأمريكية تتلاشى. فهناك نمط حياة استمر لمدة 30 عاما فى طريقه للتحلل بسبب تقييد الائتمان. والسؤال الذى يطل من وراء الأزمة هو: هل يمكن أن يعود هذا النمط ثانية؟ توضح البيانات التى أعلنها مكتب الإحصاءات الأمريكى الشهر الماضى، أن ذلك سيكون صعبا. حيث صارت الدخول المتوسطة أقل من حيث القيمة الفعلية عنها فى عام 1999. فبمجرد وقوع الأزمة، انخفض الدخل المتوسط بنسبة 4.2 فى المائة، بعد أن ظل مستقرا لمدة عشر سنوات. ومنذ ديسمبر 2007 تراجع أكثر من ستة ملايين أمريكى إلى ما دون خط الفقر الرسمى. وقد بدأ الملايين يدركون أن مصطلح الطبقة الوسطى ربما كان تسمية خاطئة. غير أن تعبير «الطبقة العاملة» غير مناسب أيضا: فهو يرمز فى الولاياتالمتحدة إلى خيار لنمط اجتماعى يضم المهتمين بالنشاط النقابى، وأنصار فرق البيسبول القوية. وسوف يكون لهذا الانهيار المفاجئ فى نمط الحياة آثار اقتصادية ونفسية تستمر طويلا بعد انتهاء الأزمة. فمنذ الثمانينيات، كان النمو فى الولاياتالمتحدة مدفوعا بالقدرة الشرائية للقوة الأجيرة. وكان المستهلك بدوره هو محرك النمو العالمى. وحتى تعود الأمور إلى سابق عهدها، على الولاياتالمتحدة أن تجد وسيلة لخلق تسعة ملايين فرصة عمل، وسد الفجوة فى الدخول المتاحة، وإعادة فتح نظام القروض الشخصية أمام الملايين التى حُرِمت منه. وقد فشلت الحوافز المالية التى طرحها أوباما لأنها خالفت ذلك. وبعدما تسبب نظام الائتمان فى الأزمة، فاقم المتاعب: فقد شهدت المتاجر التى تقدم السلع المبيعة بالأجل نشاطا ملحوظا بينما توقف النشاط فى الشوارع التجارية الرئيسية. كما نشطت وكالات الاستعلام الائتمانى أيضا: فقد أخبرنى جوان بولن أنه لم يُقبل فى وظيفة لأن صاحب العمل فحص سجله الائتمانى. وقال مستهجنا: «إنهم يظنون أن الائتمان يدل على الشخص، حيث يدل السجل الائتمانى السيئ على شخصية سيئة». ويخرج الآن جيل كامل من نمط الحياة الأمريكى بسبب عجزه عن الاقتراض أو الكسب. وفى الوقت نفسه، بدأت بعض الولايات سباقا نحو القاع، إذ خفضت الإعانات الاجتماعية، وتغيرت القواعد التنظيمية للعمل والضرائب المحلية لجذب الاستثمار. وأغلقت الشركات التى تدفع الأجور العالية مقارها وانتقلت إلى الولايات ذات الأجور المنخفضة، وتدفق الاستثمار الأجنبى على المدن التى تتسم بأدنى تكلفة للعمالة. وتشهد هذه الولايات تحولا بوصول المهاجرين من المكسيك ذوى الأجور المنخفضة على الرغم من شكوى الساسة اليمينيين الذين يدعمون الاقتصاد من التركيبة السياسية. ونتيجة لذلك فإن الجنوب الأمريكى الذى أطلق عليه الخبير الاستراتيجى الجمهورى كيفن فيليبس فى السبعينيات اسم «الحزام الشمسى» واعتبره المعقل السياسى للفكر المحافظ، يشعر الآن أنه أتعس مكان فى أمريكا. حيث يقل متوسط الدخول فى الجنوب بنحو ثمانية آلاف دولار عنه فى الشمال الشرقى، وترتفع معدلات الفقر عن أى مكان آخر فى أمريكا، كما ترتفع أيضا التوترات العرقية والدينية. وفى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس، تعهد الساسة بأن «يفعلوا شيئا» للطبقة المتوسطة. ولعل أفضل ما يمكن أن يفعلوه هو أن يقولوا الحقيقة: إن الأمريكيين كانوا يعيشون نمط حياة الطبقة الوسطى بأجور الطبقة العاملة، ويقومون بسد الفجوة عبر القروض. وقد انتهى هذا الأمر. وفى مجتمع اقتصاد السوق تكون الطبقة الوسطى أقلية دائما: فإذا كان الشارع الذى تسكن فيه له بوابة وكاميرا أمنية فى نهايته، فأنت إذن تنتمى إلى الطبقة الوسطى. وابن الطبقة الوسطى الحقيقى يمكنه تحمل تكاليف التعليم الجامعى وليس الحصول على درجة عبر شبكة الانترنت. والأسرة التى تنتمى بحق إلى الطبقة الوسطى لا تستغنى عن وجبات ولا تجد سياراتها محتجزة فى ورش الإصلاح لأنها لم تسدد الفاتورة. وحتى فى أمريكا، إذا كنت تقف عند درجة حرارة 90 فهرنهايت (نحو 30 مئوية) تتصارع مع 30 رجلا آخرين على عمل لعدة ساعات، فالرجل الذى يجلس فى السيارة مشيرا لك بإصبعه هو الذى ينتمى إلى الطبقة الوسطى، وليس أنت.