(1) أستطيع أن أتفهم ردود الأفعال المتباينة حول خطاب أوباما، الذى ألقى فى جامعة القاهرة التى تمثل رمزا من رموز المدنية المصرية- يوم الخميس الماضى- بيد أننى لم أستطع أن أفهم كيف تمتد ردود الأفعال حول الخطاب، لتقييم الداخل الأمريكى بهذا التبسيط وعدم إدراك ما يحدث فى أمريكا «الداخل» من تحولات نوعية.. فمن خلال متابعتنا للشأن الأمريكى، بداية من دراستنا للقانون الأمريكى للحرية الدينية الذى صدر فى العام 1998، ورصدنا لحركة اليمين الدينى الأمريكى، ثم دراستنا لتاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ الحرب الأهلية إلى الآن من خلال كتابنا الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة، يمكن القول بأن أوباما هو تعبير عن تحول نوعى فى البنية الأمريكية الداخلية، فما هى أهم ملامح هذا التحول.. خصوصا بعد مرور ما يقرب من 150 يوما على تسلمه الرئاسة (تسلمها رسميا فى 20يناير الماضى) كذلك فى ضوء أطروحاته التى ألزم بها نفسه أثناء الحملة الانتخابية.. ولكن قبل ذلك ربما يكون من المفيد أن نلقى الضوء بعض الشىء على مسيرة أوباما. (2) جاء أوباما من قاعدة يسارية عريضة، ويتسم بالتكوين الثقافى رفيع المستوى، حيث اطلع على مضمون الحركات المدنية فى الستينيات-والتى يعتبر نفسه نتاجا نقيا لها- وعلى فرانز فانون ولاهوت التحرير الأسود، وعرف ماذا يعنى التهميش والفقر.. تجاوز لونه وانخرط فى المجتمع يعمل كمنظم اجتماعى.. واستطاع أن يهجن بين الممارسة العملية التى اختبرها كمنظم مجتمعى Community Organizer وبين عمله كسياسى Politician وبين دراسته الراقية فى هارفارد.. إذن نحن أمام شخصية مركبة بكل المقاييس لا ينبغى أن تؤخذ بخفة... وهو ما أسهم فى أن تتبلور رؤيته لدور الطبقة المتوسطة وأهمية استعادتها فاعلة فى الواقع السياسى الأمريكى.. وأخيرا شخصيته متعددة الهويات... وراديكاليته المرنة ذات الطابع الجدلى الواعية أنها تعمل فى سياق رأسمالى ومحافظ يتعامل مع أى فرد يعبر عن أفكار ذات طابع راديكالى بأنه يخرج عن التقاليد الأمريكية، ومن ثم الوقوع تحت طائلة المكارثية، وانفتاحه العابر للانقسام وهو ما وصفه أحدهم فى مجلة كومنترى فى أكتوبر 2008 قبل أكثر من شهر على إجراء الانتخابات الأمريكية،: «لقد جاء أوباما إلينا من خلفية أقرب إلى اليسار أكثر من أى مرشح رئاسى عرفته أمريكا، من قبل»...أى منذ جورج واشنطون أول رئيس أمريكى للولايات المتحدةالأمريكية (1787).. ذلك لأنه يطرح ما لم تطرحه قيادة أمريكية من قبل من حيث «عبور الانقسام» بين الأحزاب، والأيديولوجيات، والأعراق، والطبقات.. (3) استطاع أوباما أن يطرح رؤية غير مألوفة للواقع الأمريكى، وتعد نقطة تحول جذرية لما تضمنه وللمرة الأولى من تحليل مركب لم تعرفه أمريكا من قبل للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ومدى الأضرار التى تتعرض لها الطبقات الوسطى والعمالية وما تضم من أجيال جديدة شابة من جراء السياسات المنحازة للأثرياء.. وعليه كان التغيير شعاره... وهو الشعار الذى لاقى القبول بين الطبقات الوسطى والدنيا والأجيال الجديدة فباتت القاعدة الاجتماعية له ومولت حملته الانتخابية بالكامل وليس الشركات لأول مرة فى تاريخ أمريكا... وهو ما انعكس اجتماعيا وطبقيا فى التصويت له فى العديد من الولاياتالأمريكية.. لقد اعتمد أوباما على أن يعبئ الناس على أساس المصلحة الاجتماعية وليس ككتل انتخابية تقوم على العرق واللون والدين.. معتمدا على قيمتين هما: ■ دعم قيمة «المواطنة» التى لا تفرق بين أمريكى وآخر بسبب اللون أو الأصل العرقى، فالغضب الذى لدى السود من الفقراء يوجد فى مقابله «غضب مماثل موجود فى قطاعات من البيض.. فمعظم الأمريكيين البيض ممن ينتمون إلى الطبقة العاملة والمتوسطة لا يشعرون بأن لونهم الأبيض يمنحهم أى امتيازات».. ■ «إحياء الوطنية الأمريكية» المتحررة من قبضة التيار الدينى والتيارات السياسية التقليدية.. فالوطن ليس للبعض دون الآخر فهو ملك للجميع.. وخيره لابد أن يتقاسمه الكل بالدرجة التى تجعلهم يشعرون بالفخر بوطنهم. فى ضوء ما سبق بدأ أوباما ولايته ... وعلى مدى 150 يوما عنى بأمرين: الشرائح الوسطى والدنيا، وبإعادة الاعتبار للدولة فى مواجهة الشركات الاحتكارية.. كيف؟.. هذا ما سوف نلقى الضوء عليه.