تحظى العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية بأهمية كبرى لدى المصريين، حتى إنها تفوق فى أهميتها، لدى الكثيرين منهم، العلاقات الأمريكية - المصرية نفسها، وقد تضاعف اهتمام المصريين بهذه العلاقات فى ظل المتغيرات التى شهدتها أمريكا وإسرائيل منذ مطلع هذا العام، خاصة بعد الفوز التاريخى لأوباما برئاسة الولاياتالمتحدة، والذى تزامن تقريباً مع فوز أحزاب اليمين الإسرائيلى بقيادة نتنياهو بأغلبية مقاعد الكنيست وتشكيل الحكومة الثانية والثلاثين هناك. كما شهدت هذه العلاقات تسارع وتصاعد العديد من الأحداث، خاصة خطاب أوباما فى القاهرة، الذى أعقبه بعد عشرة أيام خطاب نتنياهو فى بار إيلان، وهو ما بات يحتم إعادة فتح ملف هذه العلاقات، والمغامرة بتقديم قراءة جديدة مغايرة لها، تستهدف إثارة نقاش حولها أكثر عمقاً وموضوعية، بما يكسر الأحكام التعسفية المسبقة ويخرج عن العادة الرذيلة لاعتماد ما يسمى «الاستريو تايب»، أو إعادة تدوير نفس الأسطوانة المشروخة للآراء النمطية، التى تأسر العقل المصرى وتعطل ملكاته فى التفكير الإبداعى الحر والمستقل. وقد بادر الدكتور سمير غطاس بإعادة فتح ملف العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية وقراءتها من منظور مصرى - عربى على هيئة سلسلة متتابعة من أربع مقالات، تنشرها «المصرى اليوم» تباعاً كل أحد وأربعاء. وتتناول مقالتى الأولى بالمتابعة والتحليل ردود الفعل الإسرائيلية، التى سبقت وتلت خطاب أوباما فى القاهرة، وتليها المقالة الثانية التى تحاول الإجابة عن السؤال المهم: فى العلاقات الزوجية الأمريكية - الإسرائيلية.. من هو «سى السيد» أوباما أم نتنياهو؟ أما الحلقة الثالثة فبعنوان: الوهم والحقيقة فى أسطورة اللوبى الصهيونى.. من يضغط على من، وكيف وإلى أى حد ومدى؟ والمقالة الرابعة تطرح فكرة غير مسبوقة، تناقش موضوع حل الدولتين بين وعد بلفور.. ووعد أوباما. وقد نحتاج إلى مقال خامس ختامى للتعقيب على ما نطمح إلى أن تثيره هذه المقالات من نقاشات وردود فعل تختلف معنا.. ونأتنس جداً بها. خلافاً لما ورد فى الإعلان، فإن خطاب الرئيس الأمريكى أوباما لم يكن فقط موجهاً إلى العالمين العربى والإسلامى، فثمة جهات أخرى عديدة كان الخطاب معنياً بالتوجه لها، وكانت هى بدورها معنية بما سيتضمنه متن هذا الخطاب. وليس هناك من شك فى أن إسرائيل ويهود الولاياتالمتحدة واللوبى الصهيونى هناك، كانوا فى مقدمة هذه القوى الأخرى التى كان خطاب أوباما معنياً بالتوجه إلى أسماعهم وعقولهم وربما مصالحهم أيضاً. ويبدو أيضاً أننا معنيون بالدرجة ذاتها من الأهمية بمتابعة وتحليل أصداء وتداعيات خطاب أوباما فى القاهرة على إسرائيل، وهى فرصة لإعادة فتح العديد من الملفات الشائكة فى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، فى قراءة جديدة عقلانية ومتحررة من أسر مرجعية النصوص السائدة التى تهيمن على قراءتنا لهذه العلاقة، وتحكم إغلاق عقولنا على الأساطير التى خلقتها الحركة الصهيونية، ونعيد نحن تعاطيها بشراهة تصل فى كثير من الأحيان إلى حد الإدمان. وسوف نحاول فى حلقات متتابعة إعادة فتح ملفات عديدة والإجابة عن الأسئلة الحرجة: هل الموقف الأمريكى من الصراع العربى الإسرائيلى مطلق وثابت، أم أنه متغير ومتحرك، وما حدود هذا التغير إن كان قائماً فعلاً؟ ما حقيقة طبيعة مكانة إسرائيل فى الاستراتيجية الأمريكية، هل هى حقاً ذخر استراتيجى لأمريكا أم عبء استراتيجى عليها أم أنها حالة تقع بين هذه وتلك؟ وفى العلاقة الزوجية بين أمريكا وإسرائيل، من هو حقاً «سى السيد» هل هو أوباما أم نتنياهو؟ ما حقيقة الدور الوظيفى المنسوب للوبى الصهيونى الرهيب فى أمريكا، وما الاحتمالات المفتوحة على لعبة الضغط الأمريكى والضغط الصهيونى المضاد؟ كل هذه الموضوعات وما يتفرع عنها يمكن قراءتها على نحو متتابع، ولكن ليس قبل أن نبدأ أولاً بمتابعة وتحليل تفاعلات الحدث الراهن: 1 تداعيات خطاب أوباما فى القاهرة على إسرائيل: لماذا لم يعرج على القدس لشرب القهوة؟ أوباما ساذج وأمله سيخيب «أوباما لا سامى كارها لليهود» «هو فرعون» «اضغط يا أوباما» «الضغط الأمريكى لن يحقق هدفه» «هو حسين أكثر من باراك» «56٪ من الإسرائيليين مع الاستجابة لمطالب أوباما» كانت إسرائيل مع دول أخرى فى المنطقة، قد باغتها القرار الأمريكى باختيار الرئيس أوباما للقاهرة بالذات لإلقاء الخطاب الذى وعد بتخصيصه لإجراء مصالحة شاملة مع العالمين العربى والإسلامى. وسوف نركز هنا فقط على متابعة وتحليل ردود الفعل الإسرائيلية على خطاب أوباما فى القاهرة، رغم إدراكنا بالطبع للسياق السياسى العام، الذى يربط الخطاب وردود الفعل عليه بالتطورات المهمة التى شهدتها العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، بدءاً بتكليف جورج ميتشل بتمثيل أوباما فى ملف التسوية، ومروراً بتصريحات أوباما فى زيارته لتركيا فى 6 أبريل الماضى، وتصريحات نائبه جو بايدن ومدير البيت الأبيض يورام عمانويل فى المؤتمر السنوى لمنظمة اللوبى الصهيونى الإيباك، إلى وقائع اللقاء الأول بين أوباما ونتنياهو فى زيارته الأولى التى أجراها للبيت الأبيض فى 18/5 وما سبقها ولحقها من تصريحات حادة ومواقف متباينة، وصولاً إلى إعلان واشنطن، دون أدنى تنسيق مع إسرائيل، عن اختيار أوباما للقاهرة لإلقاء خطابه التاريخى من هناك. كانت ردود الفعل فى إسرائيل قد بدأت مبكراً على خطاب أوباما، لم تكن إسرائيل مرتاحة كثيراً لاختيار القاهرة بالذات، وإحدى الصحف هناك قالت: لكن القلق الحقيقى الذى ساور إسرائيل من اختيار أوباما للقاهرة كان سببه الأساسى هو استثناء إسرائيل وعدم إشراكها أو إجراء أى تنسيق معها بشأن زيارة أوباما أو خطابه فى القاهرة. «خسارة أن أوباما لم يخطط التعريج على القدس لشرب القهوة بطريقه للقاهرة، لأننا اعتدنا عندما كان الرئيس الأمريكى يأتى لزيارة الشرق الأوسط، أن يحل ضيفاً على فندق الملك داوود، ومن هناك ينطلق لزيارات قصيرة للدول المجاورة، أو على الأقل يلتقى رئيس وزراء إسرائيل، وهذه خلاصة التغيير الذى يؤمن به الرئيس الجديد أوباما، لذلك عندما سيكون قريباً فى المنطقة سوف نفتقده هنا بصورة استثنائية». كانت هذه مقاطع نشرتها صحيفة هاآرتس فى 25/5 الماضى، وعادت يديعوت فى 27/5 وكررت الموقف نفسه عندما قالت: «حسب كل المؤشرات فإن رئيس الولاياتالمتحدة لن يستغل رحلته إلى القاهرة كى يقفز فى زيارة مجاملة عندنا». وقد أضاف المحلل السياسى، أليكس فيشمان، سبباً آخر لقلق إسرائيل من خطاب أوباما فى القاهرة، حين كتب فى يديعوت فى 2/6 «أنه لم يحدث منذ سنين أن رئيس الولاياتالمتحدة يوشك أن يخطب خطبة الرؤية للشرق الأوسط فى القاهرة ولا يعلم أحد فى سفارة إسرائيل فى واشنطن ولا فى مكاتب الحكومة فى القدس، ما الذى سيقوله فى القاهرة». وكان القلق الإسرائيلى قد تحول إلى توتر واضح مع اقتراب موعد إلقاء أوباما خطابه فى القاهرة. ففى صبيحة يوم الخميس 4/6 كان العنوان الرئيسى فى صحيفة معاريف يقول: «توتر فى إسرائيل أوباما لا يشركنا» وكتبت تحته: «فى القدس بدأوا يستوعبون أن الرئيس الأمريكى يعمل وفقاً لقواعد لعب جديدة، هذا عهد جديد لم تعد فيه إسرائيل اللاعبة المركزية والمدللة لأمريكا، ليست لإسرائيل أفضلية وليس لها امتياز خاص». وكانت يديعوت كتبت بدورها: «تخوف فى إسرائيل، أوباما يفتح صفحة جديدة مع العرب على حسابنا، عناق غربى للعالم العربى». «إنهم فى القدس قلقون جداً من انعدام التعاون والتنسيق بين البيت الأبيض ومكتب رئيس الوزراء، كانوا فى الماضى يعرفون مسبقاً مضمون الأقوال التى فى خطاب الرؤساء الأمريكيين وفى حالات مشابهة فى الماضى كانت المسودات تنقل ويتبادلون الملاحظات، بتعبير آخر ليس لنتنياهو فكرة عما يعتزم أوباما قوله فى خطابه، وهذا هو السبب الذى يجعلهم فى القدس متوترين جداً قبل الخطاب». وفى الإجمال يمكن القول، إن ردود الفعل الإسرائيلية فى مرحلة ما قبل إلقاء الخطاب اتسمت بالقلق الذى تحول إلى توتر متصاعد لم تستطع إسرائيل كبحه أو إخفاءه. كانت المرحلة الثانية من ردود الفعل الإسرائيلية ظهرت فور انتهاء أوباما من إلقاء خطابه فى القاهرة. كان نتنياهو، على المستوى الرسمى، حذر وزراءه من ردود الفعل التى تتورط فى مناكفة أوباما، ولذا التزم الرد الرسمى بالترحيب المتحفظ على خطاب أوباما وجاء فيه بالخصوص: «نحن شركاء فى أمل الرئيس أوباما فى أن يبشر الجهد الأمريكى ببدء عهد جديد يؤدى إلى إنهاء النزاع واعتراف عربى شامل بإسرائيل كدولة للشعب اليهودى». لكن المصادر الصحفية هناك سرعان ما كشفت عما سمته «المواقف الحقيقية» التى جرى تداولها فى كواليس ديوان نتنياهو التى وصل فيها الأمر إلى حد التهكم على أوباما والتهجم عليه. «أوباما ساذج وأمله سيخيب» كان هذا العنوان الرئيسى لجريدة معاريف فى 5/6 الذى نسبت قوله إلى مصدر سياسى كبير علق على خطاب أوباما فى القاهرة وأضاف: «إنه ملىء بالنوايا الطيبة ولكن بانتظاره خيبة أمل إذ إن الدول العربية لن تقدم البضاعة». كما نسبت الصحيفة نفسها تقريراً لوزارة الخارجية الإسرائيلية التى يرأسها ليبرمان جاء فيه «إنه متسرع جداً» وكانت الصحافة هنا عكست مواقف متباينة وربما حتى متناقضة من خطاب أوباما. - هاآرتس قالت: «إن العالم العربى بأسره أنصت لخطاب أوباما فيما غطت إسرائيل أذنيها بقلق» وأضافت: «من ناحية إسرائيل خطاب أوباما فى القاهرة يعبر عن تحول استراتيجى». - أما معاريف فقد عقبت على الخطاب بقولها: «إسرائيل راقبت بالأمس أوباما خائفة منكمشة فى الزاوية»، ونشرت معاريف نفسها مقالاً آخر بعنوان: «حسين بدلاً من حسنى» قالت فيه: «إن شخصاً واحداً غاب عن لقاء الحضارات، حسنى مبارك الرئيس المصرى شاهد الخطاب من منزله، ويبدو أن المستضيف اعتبر أنه حدث أمريكى وفضل إخلاء الساحة لضيفه الشاب». معاريف نشرت أيضاً مقالاً آخر انتقد بشدة خطاب أوباما وقال: «إنه مارس الرياء والمداهنة فى خطابه للمسلمين، هو خشى أن يقول لهم الحقيقة مباشرة خلافاً لما فعله مع الإسرائيليين». وجاء الموقف الأكثر عنفاً من جانب أحد مؤسسى حركة «تموشى أمونيم» التى رعت الاستيطان اليهودى فى الأراضى الفلسطينية، الذى اتهم أوباما بأنه عنصرى من الطراز الأول لأنه شبه معاناة اليهود فى أوروبا بمعاناة الفلسطينيين. وكانت يديعوت نشرت هى الأخرى مقالاً لا يقل غلظة وفظاظة يقول: «حسين أكثر منه باراك» لكن يبدو أن إسرائيل بدأت فى التقاط أنفاسها بعد يوم من اللهاث وراء متابعة خطاب أوباما. فقد حاول نتنياهو تهدئة خواطر اليمين هناك، فقال: «الضغط الأمريكى لن يحقق هدفه» لكن مثلما فى لعبة الدومينو بدأت أحجار التداعيات السياسية فى السقوط واحدة إثر الأخرى. فقد نجح أوباما بعد القاهرة فى تجنيد دعم كل من ألمانيا وفرنسا لحمل إسرائيل على وقف الاستيطان، وبدورها أنكرت السيدة كلينتون، وزيرة الخارجية، وجود أى تفاهمات أمريكية سابقة تخالف ذلك، وفى إسرائيل، ردوا عليها بعصبية شديدة، لكن الرئيس بيريز سارع بدعوة نتنياهو لعدم تفويت الفرصة التى خلقها أوباما فى خطابه فى القاهرة. ولم يكن ذلك هو موقف المستوطنين واليمين الإسرائيلى، الذى سارع بتعليق ملصقات فى شوارع القدس تصور أوباما بالكوفية الفلسطينية، وكتب تحتها شعار: «لا سامى كارها لليهود»، وهو ما استدعى إلى الأذهان ذكرى ما حدث لإسحق رابين قبل اغتياله، ورئيس البيت اليهودى وزير العلوم شكوفيتش، كان قد شبَّه أوباما بفرعون. ويبدو أن تحريك المستوطنين لإحداث فوضى كبيرة فى إسرائيل هو إحدى الأوراق التى يمكن أن يخرجها من قبعته، لكنها لعبة خطيرة قد ترتد سلباً عليه. لكن يبدو أيضاً أن هذا اليمين لا يعبر عن رأى الأغلبية من المواطنين فى إسرائيل، فقد أظهرت نتائج استطلاع أجراه مركز واصف الشهير هناك أن 56٪ يدعمون الاستجابة لمطالب أوباما من نتنياهو. ويعتقد أن نتنياهو بدأ يدرك خطورة المتورط فى صِدام مع أوباما، خاصة بعد أن نجح خطابه فى القاهرة فى وضع حد لتملصاته مما اضطره إلى الإعلان يوم الأحد الماضى عن عزمه على إلقاء خطاب سياسى مركزى سيعرض فيه مبادئه لتحقيق السلام والأمن بعد التشاور مع شركائه فى الائتلاف الحكومى، وقدرت مصادر إسرائيلية أن يلقى نتنياهو هذا الخطاب فى 16/6 المقبل. لكن إيهود باراك، زعيم حزب العمل، وزير الدفاع، لم ينتظر خطاب نتنياهو هذا وأعلن من طرفه أنه يجب على إسرائيل الترحيب برؤية أوباما حول التسوية الإقليمية الشاملة وتأكيد التزامها بالاتفاقات السابقة، ودعا حكومة نتنياهو إلى تبنى حل الدولتين لشعبين، المشمول فى خريطة الطريق. وهناك من يعتقد فى إسرائيل أن باراك سيلعب دور حصان طروادة فى حكومة نتنياهو، وأنه سيكون جاهزاً للانسحاب منها وتفكيكها فى اللحظة الحاسمة التى يبدو فيها الصِدام مع أمريكا وشيكاً أو مهماً. وفى خلفية هذا المشهد تطل من هناك السيدة ليفنى، زعيمة كاديما، والمعارضة التى سبق لها أن هاجمت بعنف بالغ نتنياهو، وتحدته أن يكون رجلاً يعلن موافقته على حل الدولتين، وهى تتربص به الآن، إما المشاركة فى حكومة جديدة بشروطها أو دفع نتنياهو إلى انتخابات جديدة مبكرة. وهكذا يتضح تماماً أنه لاتزال هناك توابع أخرى لخطاب أوباما فى القاهرة، حيث ترجح التقديرات الإسرائيلية أنها ستكون عاصفة دراماتيكية فى علاقات إسرائيل بأمريكا. ويبدو أن الخلافات الراهنة فى العلاقة الزوجية بين أمريكا وإسرائيل ليست من نوع تلك الخلافات التى تقع عادة فى أغلب العلاقات المماثلة. وبلغة نجيب محفوظ الثلاثية، فإنه يجب فى مثل هذه العلاقة أن يعترف أحد الطرفين للآخر بأنه «سى السيد»، أوباما أم نتنياهو قد يكون هذا عنوان المقالة المقبلة.