فى عام 1949 أتم الباحث والمترجم المصرى حسن عثمان وبعد ثمانى سنوات من العمل ترجمة أحدَ الأعمالِ الأدبية الأهمَّ والأبرزَ عالميًّا، وهو «الكوميديا الإلهية» بأجزائه الثلاثة للشاعر الإيطالى الشهير «دانتى أليجييرى» إلى اللغة العربية. يقول حسن عثمان أنه يدين بالفضل إلى 15 عالما مصريا وأجنبيا ساعدوه فى الترجمة، من بينهم اثنان من علماء الجغرافيا فى جامعة القاهرة: محمد عوض محمد، وإبراهيم رزقانة، لا سيما أن مترجمنا كان يعمل فترة فى معهد الدراسات السودانية الذى أسسه رائد علم الجغرافيا: محمد عوض محمد.
مقدمة الترجمة فى مقدمة طويلة، تبلغ 50 صفحة، يمهد لنا المترجم حسن عثمان بالتعريف بهذا العمل الشهير. يستهل المترجم بإطلالة على السياقات التاريخية التى سبقت ظهور هذا العمل الأدبى، فى تلك الفترة من تاريخ أوروبا التى توصف برحيل العصور الوسطى الظلامية وقدوم العصور المشرقة للنهضة الثقافية. فى درس تاريخى قصير يتتبع المترجم مسيرة أوروبا منذ انقسام الإمبراطورية الرومانية إلى شرقية وغربية، وتعرض الغربية منها للسقوط على أيدى البرابرة الجرمان سنة 476م. وما ترتب على تدفق هؤلاء الغزاة من إحداث آثار عميقة فى أوروبا وإيطاليا، فسادت بها حالة من الفوضى والاضطراب زمنًا ليس بالقصير، قبل أن تقوم محاولات لإصلاح التشرذم متمثلا فى تأسيس الإمبراطورية الرومانية المقدسة، على أكتاف البرابرة الجرمان، وشملت مناطق واسعة فى أوروبا، وكانت إيطاليا جزءًا منها. ولكن سرعان ما أصابها التفكك والانقسام. لقد عاشت إيطاليا وأوروبا عصرا طويلا من صراع السلطة البابوية وسلطة الإمبراطور الدنيوية على حد سواء. وفى خضم الفساد والأطماع والتشرذم واستغلال الدين نجحت فلورنسا فى إقامة دستور ديمقراطى، وفُهمت الديمقراطية وأصدرت ما يشبه إعلان حقوق الإنسان، فيما يعد سبقا أوروبيا فى القرن الثانى عشر الميلادى قبل تجربة الثورة الفرنسية الكبرى فى القرن الثامن عشر. كما امتازت البندقية بدستورها الذى يجمع بين عناصر الجمهورية والأرستقراطية والملكية. وبين هذين النموذجين وقفت إمارة ميلانو مثالًا لحكم الفرد الذى يستند إلى قوة السلاح. لقد تطورت هذه النظم السياسية متأثرة بالظروف المحلية، وساهم كل نظام منها فى مسيرة التاريخ وفق روح العصر. ولم يخل الأمر من صراع بين مراكز القوى الجغرافية فى إيطاليا بين فلورنسا وبيزا، وبين بيزا وجنوا، وبين جنوا والبندقية. وفى إيطاليا آنذاك تورطت البابوية وسقطت فى الأطماع الدنيوية، فخرجت عن واجبها الدينى، وانغمست فى الحياة الدنيا، فتزعزع مركز الكنيسة فى المجتمع الإيطالى. وفى آتون هذه الصراعات فى العصور الوسطى، حافظت إيطاليا بحكم موقعها الجغرافى على هويتها كطريق للتجارة العالمية بين الشرق والغرب. ورغم ما اختلقته أوروبا من حروب صليبية على المشرق الإسلامى إلا أن العلاقات التجارية بين الشرق والغرب ظلت على تواصل واستمرار، قبل أن تأتى الضربة القاضية باكتشاف الأوروبيين طريق رأس الرجاء الصالح وتطويق العالم الإسلامى منذ النصف الثانى من القرن 15. تراكمت لدى إيطاليا ثروة طائلة من طرق التجارة، فانتعشت الفرص لانتشار العلم والأدب والفن. وكان أغلب التجار الأثرياء أصحاب فن وذوق، فعُنوا بالثقافة والآثار، وشجعوا رجال العلم والفن، عن إعجاب صادق وإيمان صحيح. يقول حسن عثمان إن إيطاليا فى العصور الوسطى كانت غارقة فى التدين، فلم يعرف أهلها الابتكار والخَلق، إلا فى حالات استثنائية. على نحو ما حدث فى القرن 12 م، وقد ساهم فى ذلك نقل التراث الفكرى عند فلاسفة العرب واليهود مما أدى إلى تقريب الفلسفة اليونانية القديمة إلى العقل الأوروبى، بفضل حركة الترجمة من العربية والعبرية إلى اللاتينية. السياق التاريخى يعد القرن 13 م فى إيطاليا عصر العلم ودوائر المعارف إذ نضجت فيه ثمرات الفكر الوسيط، باتجاهاته المتنوعة وترجمت من العربية أعمال الغزالى وابن رشد وابن ميمون وابن سينا. ثم تلقفت إيطاليا جهود طائفة من أحرار الفكر فى أوروبا ولا سيما من إنجلترا وفرنسا. وبداية من القرن 12 ظهرت فى إيطاليا كل الفلسفات المتنافرة المتنوعة: ما بين تلك الداعية إلى التمتع بملذات الحياة على الأرض لا فى ملكوت السموات إلى تلك الأفكار الداعية إلى الاعتدال والزهد والتقوى. يقول حسن عثمان فى مقدمته هذه إن تسكانا ولمبارديا، كما فى عدد من أقاليم أوروبا، ظهر جماعة من المبتهجين المتمتعين بالحياة، الذين تأثروا بالأبيقورية، ودعَوا إلى الاغتراف من كل لذة، وأظهروا روحًا وثنية ومجَّدوا آلهة اليونان، وامتازوا بالابتكار والسخرية، وحملوا على تعاليم الكنيسة، وهاجموا الفلسفة المدرسية وتقاليد العصور الوسطى، وبذلك كانوا رُوادًا لأحرار الفكر فى العصور الحديثة. وفى المقابل ظهر مصلحون كبار فى التعاليم الدينية دعَوا إلى الرجوع بالمسيحية إلى نص الكتاب المقدس، وقالوا بأنه لا يجوز أن تكون هناك واسطة بين الإنسان والله عبر رجال الدين، ودعوا إلى التعامل مع الناس بالعطف والرحمة والتواضع، وقال إن حرية الإنسان من روح الله، وأن الدين سيُصبح أمل الإنسانية المرتقب. وبين هذين الفريقين ظهر مفكرون فى وسط إيطاليا لم يعرفوا السخط والتشاؤم، ولم يهددوا العالم بالويلات، بل تغنوا بجمال الطبيعة، ومجَّدوا الله فى كل مخلوقاته من إنسان وحيوان ونبات، وامتازوا بشعورهم الإنسانى، ودعوا إلى إصلاح المجتمع على أساس من التفاؤل والحب والأمل. يقول حسن عثمان إن هذه الاتجاهات وغيرها كانت هى المقدمات الفكرية لما اعتمل فى نفوس أهل العصر من الحيرة والقلق، مع التطلُّع إلى بناء عالم جديد. ورغم تأخر اللغة والأدب الإيطاليَّين فى ظهورهما على مسرح الفكر الأوروبى إلا أنهما احتجزا تلك المعانى الإنسانية التى جاشت فى صدور الناس، حتى تهيأت لهم فرصة التعبير عما فى نفوسهم، فجاء ظهور اللغة والأدب الإيطاليَّين على صورة فُجائية متدفِّقة. على تراث هذه التنويعات السياسية والصراعات الفكرية ظهر جيل جديد، شاهد على عصر امتزجت فيه التيارات الفكرية وتغير المجتمع الإنسانى. يلخص حسن عثمان الأمر بقوله فى مقدمة ترجمته بقوله إن هذه التيارات الفكرية شقت لنفسها طريقا إثر تقلبات عنيفة متعارضة متفاعلة مختلفة مؤتلفة، بحسناتها وسيئاتها، تركت أثرها الفعال فى خَلق أجيال من العباقرة الإيطاليين، كانوا ثمرة العصر وبُناته على السواء، وأخرجوا نتاجهم الرائع فى الفكر والعلم والأدب والتصوير والنحت أليجييرى والعمارة والسياسة والحرب. ظهور دانتى أليجييرى ومن هؤلاء العباقرة بزغ دانتى أليجييرى، الشاعر، الفنان، الجندى، السياسى، المصلح، المتصوف. تلقى دانتى تعليما علمانيا ودينيا، وكان يتردد إلى أديرة الفرنتشسكان والدومنيكان، كما درس فى جامعتَى بادوا وبولونيا. فتلقى دروسا فى القانون والطب والموسيقى، والتصوير والنحت، والفلسفة والطبيعة والكيمياء والفلك، والسياسة والتاريخ واللاهوت. اقترب دانتى من الوجهاء والنبلاء فى فلورنسا، ولا سيما السياسى والإدارى البارز «برونيتو لاتينى». ويرى بعض النقاد أن دانتى اقتبس من «لاتينى» فكرة الكوميديا الإلهية، فقد سبق ألف لاتينى قصيدة إيطالية تُسمَّى «الكنز الصغير»، وتُعَد دائرة معارف صغيرة، وتحوى فكرة «الكوميديا»، وفيها الغابة الموحشة، وأحاديث عن الله وخَلق الإنسان والكواكب، وعن الفضائل، ويقابل فيها المؤلِّف عددًا من النساء اللائى يوجهن إليه الحديث والنصح، ويصحبه بعض الوقت أوفيديوس الشاعر اللاتينى، الذى يشرح له لذة الحب وأخطاره. على هذا النحو لم يكن دانتى هو مخترع فكرة الكوميديا الإلهية، بل كان تلميذا لدى لاتينى أستاذه الروحى. من سيرة دانتى نعرف أن الثقافة والفهم والذكاء والربط والتحليل لا تأتى إلهاما فقط، بل تأتى أيضا بصداقة ومعرفة العباقرة والأذكياء، وهو ما تحقق فى حياة دانتى بقربه من النابهين الأذكياء فى فلورنسا. الحراك الجغرافى لم يكن دانتى من أولئك الشعراء الذين يجلسون فى غرف مغلقة ينتظرون الشعر يهبط عليهم، بل اشترك مقاتلا فى الحياة العسكرية، ولا سيما فى الحرب التى نشبت بين الممالك التى مزقت وحدة إيطاليا، خاصة فى الحرب التى وقعت سنة 1285 بين البابوية وأعدائها (تعرف باسم الحرب بين الولف Guelf، والغبلين Ghibelline) فى معارك عام 1285 1289 شهد دانتى النصر والهزيمة وتدخل القوى الأوروبية فى شئون إيطاليا الممزقة، حتى تحقق لفلورنسا النصر فى النهاية. شارك دانتى أيضا فى القتال الذى قام بين المدن الإيطالية وبعضها البعض، فقد انضم إلى جنود فلورنسا فى الحرب التى شنتها على شقيقتها بيزا. يقول مترجمنا حسن عثمان إنه بعد المعارك والحروب وفى فترات الهدوء كان دانتى لا يتأخر عن التمتع بملذات الحياة. فى حياة السلم سجَّل دانتى اسمه سنة 1295 فى نقابة الأطباء والصيادلة، التى كانت تشمل تجارة الجواهر والصور والكتب، وإن لم يمارس هو إحدى هذه المهن. وبذلك أمكنه أن يدخل الوظائف العامة والحياة السياسية، تبعًا لقوانين ذلك العهد. اشترك دانتى فى بعض اللجان والمجالس الحكومية، فأصبح عضوًا فى مجلس قبطان الشعب، ثم عضوًا فى مجلس المائة. وأرسلته حكومة فلورنسا فى سفارات إلى بعض المدن الإيطالية لتسوية مشاكل الحدود السياسية تفاديا لنشوب حروب جديدة. على هذا النحو لم يكن دانتى شاعرا أو مقاتلا فحسب، بل خبر الحياة السياسية والتفاوض والعمل الدبلوماسى والسياسى. كل هذه المؤهلات رفعت دانتى أليجييرى إلى أن يصبح عضوًا فى مجلس السنيوريا، الذى يمثل سلطة الحكومة العليا فى فلورنسا، وذلك فى سنة 1300، وصف حينها بأنه من أكفأ رجال السياسة فى مجلس السنيوريا. لكن الصراع الأهلى فى إيطاليا انقلب ضده، وصدر حكم بنفيه من فلورنسا ومصادرة أملاكه وإعدامه فى حال القبض عليه من الأعداء المناوئين. هذه هى المسيرة الحياتية التى وقفت خلف دانتى أليجييرى قبيل كتابته للكوميديا الإلهية، فى الفترة التى كان فيها شاعرا ومقاتلا وسياسيا ومفاوضا فى النزاع بين السلطة الدنيوية والسلطة البابوية فى إيطاليا القرن 13-14. أمضى دانتى حياته فى المنفى بعيدا عن فلورنسا التى خرج منها مهزوما، فمضى فى حياة المنفى والتشريد. إن مسيرة حياة دانتى فى مرحلة النفى والتشريد فرصة للتعرف على جغرافية إيطاليا فى القرن 14، حيث النزاع والحرب الأهلية، وتبدل التحالفات، وفى خضم كل هذا كان دانتى يكتب أشعاره ويؤلف «الكوميديا الإلهية». النسخة كاملة متوفرة فى مؤسسة هنداوى على الإنترنت، وقد أخذنا منها كل الاستشهاديات التى جاءت فى هذا المقال.