إذا جاز لنا أن نقول إن صفحة الجمهورية التركية الأولى طوتها نتائج الاستفتاء الذى جرى فى 12 سبتمبر، فإن أسئلة كثيرة تستدعيها فكرة قيام الجمهورية الثانية، التى تحررت شهادة ميلادها رسميا قبل أكثر من أسبوعين. كأننا عرفنا اسم المولود وأهله، لكن ملامح وجهه لم تتضح بعد. (1) صحيح أننا عرفنا أن 58٪ من الأتراك صوتوا لصالح الثقة فى حزب العدالة والتنمية وقالوا نعم للتعديلات الدستورية التى اقترحتها حكومته. لكن كثيرين خارج تركيا بوجه أخص لم يعرفوا شيئا عن هوية ال42 الذين قالوا لا، ذلك أن نسبتهم غير قليلة ولا يمكن تجاهل الوزن السكانى والسياسى الذى يمثلونه (نحو 23 مليون ناخب). ثمة خريطة ملونة لتركيا نشرتها كل الصحف التى صدرت فى 13 سبتمبر، وهو اليوم التالى لإجراء الاستفتاء تسلط الضوء على المزاج الانتخابى العام. إذ ظهرت على الخريطة ثلاثة ألوان كالتالى: لون أحمر غطى المناطق الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه، وهى التى قالت لا. وهذه المناطق تعد الأكثر انفتاحا والأقرب إلى أوروبا، بحكم الموقع الجغرافى على الأقل، لذلك فإنها تعد فى مقدمة معاقل التطرف العلمانى الذى يمثله حزب الشعب الجمهورى وحزب الحركة القومية، ولأنها كذلك فإن سكانها يتوجسون من الخلفية الإسلامية لحزب العدالة والتنمية، وتنتشر بينهم الشائعات التى تحدثت عن التخويف من صعود ما يسمى بالإسلام السياسى والتخويف من «أجندته» السرية. اللون الثانى هو الأخضر الذى غطى المساحة الأكبر من رقعة البلاد، وشمل العمق التركى ممثلا فى منطقة الأناضول ومحيط البحر الأسود. وهى تعد الأكثر محافظة والأقرب إلى الشخصية التركية التقليدية، وتمثل القاعدة الأساسية لحزب العدالة والتنمية ولأنشطة الطرق الصوفية، وقد صوتت تلك المنطقة لصالح التعديلات بكلمة نعم. اللون الثالث أبيض فى بعض الخرائط وأصفر فى خرائط أخرى، وقد ظهر فى الجنوب الشرقى لتركيا حيث الأغلبية الكردية. وقد قاطعت نسبة منهم الاستفتاء استجابة لنداء حزب السلام والديمقراطية الذى يؤيده بعض الأكراد، ولطلب حزب العمال الكردستانى الذى يقوده عبدالله أوجلان. وهؤلاء قاطعوا الاستفتاء ليس لأنهم ضده، ولكن لأنهم يرون أن التعديلات لم تستجب بصورة كافية لتطلعات الأكراد وطموحهم إلى الحكم الذاتى. هل يعنى ذلك أن العلمانيين عارضوا التعديلات والمتدينين أيدوها، فى حين أن الأكراد قاطعوها؟ بالتأكيد لا، لأن تحليل النتائج الذى لم يختلف عليه أحد أن حزب العدالة أصبح الأكثر تمثيلا لمختلف شرائح ومكونات المجتمع التركى، والقائمة التفصيلية للأصوات أظهرت هذه الحقيقة بوضوح، إذ بينت أن من العلمانيين والأكراد والعلويين فى ولايات الساحل والجنوب الشرقى من صوتوا لصالحه، ولولا ذلك لما حصل على نسبة 58٪ من الأصوات. ولكن الألوان التى ظهرت فى الخرائط كانت بمثابة أسهم أشارت إلى مناطق تركيز الأصوات المؤيدة والرافضة والمقاطعة. علما بأن الفواصل ليست قاطعة بين هذه الفئات الثلاث. فثمة علمانيون بين المتدينين ومتدينون بين العلمانيين، والاثنان منتشران بين الأكراد. (2) ثمة ملاحظة مهمة سمعتها من زميلة صحفية هى السيدة عمران شارما. التى تعتبر نفسها من العلمانيين الذين صوتوا لصالح التعديلات، خلاصتها أن نسبة غير قليلة من الذين قالوا لا لم يكونوا ضد التعديلات، التى لا يختلف أحد على مضمونها، ولكنهم ضد حزب العدالة والتنمية. ولأنها ليست ضد الحزب الذى أثبت جدارته فى إدارة البلد. ولأن المخاوف من أجندته الإسلامية لم تتأيد وتراجعت خلال السنوات الثمانى الأخيرة، فإنها لم تتردد فى التصويت بنعم. نبهنى السيد غزوان المصرى نائب رئيس جمعية رجال الأعمال الأتراك (موسياد) إلى مفارقة أخرى فى التصويت، هى أن أعدادا غير قليلة من رجال الأعمال صوتوا ضد التعديلات، رغم أنهم فى مقدمة الذين استفادوا من الاستقرار الاقتصادى الذى ساد البلاد فى ظل حكومة حزب العدالة، الأمر الذى أدى إلى مضاعفة دخل كل واحد منهم أربع مرات على الأقل منذ تسلم الحزب الحكومة والسلطة. صحيح أن أعدادا أخرى من رجال الأعمال هو أحدهم صوتت لصالح التعديلات، إلا أن الذين قالوا «لا» منهم كانت لهم أجندتهم السياسية المناوئة للحزب، بحكم ارتباطهم بمصالح كبرى أخرى، وثيقة الصلة بالدوائر الغربية والإسرائيلية. مما يدل على أن رجال الأعمال كانوا بين الرابحين فى جولة الاستفتاء، إن بورصة استنبول حققت فى اليوم التالى لإعلان النتائج أعلى مؤشرات إيجابية فى تاريخها. إذ جاءت النتائج دليلا حاسما على أن تركيا مقبلة على مرحلة أخرى من الاستقرار تعزز حالة النهوض الاقتصادى الكبير الذى تشهده البلاد. عمر بولاط رجل الأعمال ورئيس الموسياد السابق ارتأى أن العامل الاقتصادى كان له دوره الأكبر فى حسم معركة التصويت لصالح حزب العدالة وأن هزيمة الحزب فى الاستفتاء كانت ستشكل ضربة قاصمة للحزب حقا، لكنها كانت ستؤدى إلى كارثة اقتصادية محققة، حتى ذهب إلى أن الناخبين من مختلف فئات المجتمع صوتوا للاقتصاد بأكثر مما صوتوا للسياسة. وهو أمر مفهوم لأن المجتمع حين يجنى ثمرة الاستقرار والنمو الاقتصادى، فإنه يهب للدفاع عن مصالحه، وذلك ما حدث فى تركيا، حين أدرك الناس أن نسبة النمو فى الأشهر الستة الأخيرة وصلت إلى 11٪ (تعادلت مع الصين فى أوج ازدهارها) وأن ذلك أدى إلى توفير 2 مليون وظيفة خلال ال18 شهرا الماضية، وأن التضخم والغلاء المترتب عليه كانت نسبتهما 40٪ فى عام 2002 حين تولى حزب العدالة السلطة، لكنه ظل يتراجع بصورة تدريجية حتى وصل إلى 8٪ فقط الآن. وهو ما خلص منه إلى أن المجتمع هو الرابح الحقيقى فى التجربة. (3) السياق يستدعى السؤال التالى: من كسب ومن خسر فى جولة الاستفتاء؟ هناك أكثر من إجابة على السؤال. إذ حين يتراجع دور العسكر وتختفى الوصاية التى مارسوها منذ 60 سنة على الأقل، بحيث يصبح المجتمع هو السيد وهو صاحب القرار فى مصيره على النحو الذى أكدته التعديلات، فلابد أن ندرك أن الديمقراطية حققت كسبا كبيرا وتاريخيا. فى الوقت ذاته فإن أحدا لا يختلف على أن حزب العدالة والتنمية أصبح الحزب الأقوى الذى لا ينازع أحد جماهيريته، وأن زعيمه الطيب أردوغان والفريق المحيط به أثبتوا براعة مدهشة ليس فقط فى إدارة البلد والحملة التى سبقت الاستفتاء، وإنما أيضا فى ضبط حدود العسكر وإنقاذ الجيش من القدرة على التدخل فى العملية السياسية. (صحيفة «ميلليت» ذكرت فى 13/9 أن أردوغان أصبح أكثر الزعماء السياسيين كاريزما وقدرة على إلهاب حماسة الجماهير وكسب ثقتهم). على صعيد آخر، فثمة إجماع بين المحللين على أن أحزاب التطرف العلمانى والقومى فقدت بريقها، سواء لأن برنامج حزب العدالة بدا أكثر جاذبية وإنجازا، أو لأنها شاخت واهترأت ولم تعد قادرة على أن تقدم شيئا للمجتمع، أو لأنها فقدت دعم الجيش ومساندته. وتتداول الصحف التركية سجالا حول نسبة ال42٪ الذين قالوا لا. إذ يدعى حزب الشعب الجمهورى أن هؤلاء هم أعضاؤه ومؤيدوه، فى حين ينازعهم فى ذلك حزب الحركة القومية الذى لا يكف قادته عن القول بأن لهم فى هذه النسبة نصيبا معتبرا. مع ذلك فإن أحدا لا ينكر أن حصة حزب الشعب الجمهورى أكبر بين المعارضين، لسببين أساسيين، أولهما: أن أصحاب التوجه العلمانى التفوا حوله أغلب الظن لأنهم اعتبروه الرمز الأخير والأثر المتبقى من الجمهورية الأولى التى أسسها كمال أتاتورك. أما السبب الثانى: فهو أن قيادة الحزب تغيرت، بعد أن استقال رئيسه السابق إثر فضيحة أخلاقية دمرت سمعته، وتولى رئاسة الحزب بعده كمال كليجدار أوغلو الذى بذل جهدا كبيرا لإضفاء بعض الحيوية على الحزب. لكن أداءه أثناء التصويت تحول إلى نكتة فضحتها الصحف. ذلك أن الرجل طوال الأسابيع التى سبقت الاستفتاء ظل يطوف الولايات داعيا الناس إلى المشاركة فى التصويت على رفض مقترحات الحكومة. وكان يقول فى كل مناسبة إن الصوت الواحد يحدث فرقا فى النتيجة، ولذلك فلا ينبغى أن يتقاعس أى أحد عن القيام بواجبه. لكنه حين ذهب لكى يدلى بصوته يوم الاستفتاء، فوجئ بأنه لم يجد اسمه بين قوائم الناخبين فى دائرته. ولذلك فإنه لم يمكن من التصويت، ونشرت صحف اليوم التالى صورته وهو خارج من اللجنة منكسرا وخجولا. وفى حين قيل إن الرجل أهمل فى تسجيل اسمه بين الناخبين بعدما غير محل إقامته، فإن آخرين ذكروا أن الموقف الذى واجهه كان «مقلبا» دبره لإحراجه أنصار الرئيس السابق للحزب دينيس بايكال. حزب السلام والديمقراطية الكردى اعتبر بين الفائزين فى الاستفتاء. لأنه أثبت حضورا لافتا للأنظار فى المناطق الكردية التى دعيت إلى المقاطعة. إذ حين تصل نسبة الذين استجابوا لنداء المقاطعة إلى 67٪ فى دياربكر، فمعنى ذلك أن الحزب يتمتع بشعبية لا يمكن تجاهلها. وإذا أضفنا إلى ذلك أن عدد الأكراد فى تركيا نحو 13 مليون نسمة فمعنى ذلك أن ثمة قوة شعبية صاعدة تتبنى مطالب الأكراد، وأن تلك القوة لها تنسيقها مع حزب العمال الكردستانى الذى يقبع زعيمه عبدالله أوجلان سجينا فى إحدى الجزر النائية. وهو ما يعنى أن الملف الكردى أصبح يطرح نفسه بقوة على أجندة المرحلة المقبلة. (4) تنطبق على المشهد التركى الراهن المقولة التى تنبه إلى أن الحفاظ على القمة أصعب من الوصول إليها. ذلك أن فوز حزب العدالة وافتتاحه لأولى مراحل تأسيس الجمهورية التركية الثانية يستنفر ضده قوى لا يستهان بها، بقدر ما يحمله بمسئوليات كثيرة. ذلك أن أحزاب التطرف العلمانى والقومى مازالت تتربص به، دفاعا عن وجود ما قبل مشروعها، ناهيك عن تربص العناصر المرتبطة بالمصالح الخارجية، الغربية والإسرائيلية. وهذا التربص يعوق محاولة توفير الإجماع الوطنى المطلوب لإقامة الجمهورية الثانية على أسس متينة. هو مطلوب للاتفاق على الدستور الجديد المزمع إصداره، ومطلوب لحل المشكلة الكردية المسكونة بعناصر التوتر والتفجر. ومطلوب لترسيخ الديمقراطية بعد إخراج الجيش من المسرح السياسى، ومطلوب للمضى فى الإصلاحات السياسية التى تلبى الشروط المطلوبة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى. ومطلوب للمضى فى خطط التنمية ولتحقيق الاستقرار فى مرفق العدالة وفى سياسة التعليم لإزالة التشوهات التى تراكمت جراء ممارسات العقود السابقة. إن الباب صار مفتوحا على مصراعيه لكى يبسط حزب العدالة والتنمية سلطانه على مختلف مؤسسات الجمهورية الجديدة. وذلك سلاح ذو حدين، لأنه من ناحية يمكن أن يغرى بتغول الحزب بما يؤدى إلى الخروج من جمهورية العسكر إلى جمهورية العدالة والتنمية، خصوصا فى ظل الضعف الشديد للأحزاب الحالية، الأمر الذى يجعلها ديمقراطية عرجاء تمشى على ساق واحدة، وتظل الأخرى الممثلة فى الأحزاب المنافسة معطوبة وعاجزة عن العمل. من ناحية أخرى، فإن الحزب إذا استخدم قوته تلك لإنجاح عملية الإجماع والوفاق الوطنى فإنه يمكن أن ينجو من فخ وإغراءات التغول، بحيث يكون النجاح الحقيقى من نصيب الوطن وليس من نصيب الحزب وحده. وتلك معضلة تواجهها المجتمعات التى تشوه فيها الديمقراطية، رغم اقتناعى بأن تشويه الديمقراطية أقل سوءا من تزييفها، تماما كما أن العرج أقل ضررا من الكساح. حتى فى الخيارات التعيسة يظل نصيبنا منها الأتعس. (تصويب واعتذار: ذكرت فى الأسبوع الماضى أن رئيس الجمهورية الأسبق عدنان مندريس أعدم بعد انقلاب عام 1980 والصحيح أن ذلك تم بعد انقلاب عام 60).