عندما عقدت النية في الأسبوع الماضي علي الدعوة لموجة جديدة من الإصلاح السياسي, كان ذلك استنادا إلي أن التاريخ المعاصر لمصر شهد مع موجات الإصلاح الاقتصادي موجات مشابهة من الإصلاح السياسي قد تتلوها أو تتواكب معها. وكان كلا النوعين من الإصلاح ينتمي إلي مدرسة واحدة في الإصلاح والتغيير القائم علي التراكم والتدرج, وفيه الشعور بالحاجة إلي أن الأمور لا ينبغي لها أن تستمر علي ما هي عليه, وأن العالم كثيرا ما يسبقنا في مجالات كثيرة. وعلي النقيض من ذلك يوجد فيه الشعور بالخوف من أن التغيير قد يقلب الأوضاع رأسا علي عقب, وقد يكون فيه ما يهدد الاستقرار; وكان السؤال عن المستفيد مما سوف يأتي, يطرح دائما ممن في أفئدتهم خوف من ألا يكونوا من بين المحظوظين, أو أنهم ببساطة ليسوا مستعدين بالتعليم أو بالمهارة لتقبل الجديد, ومن ثم فإن السعادة تكمن في أن تبقي الأمور علي حالها. وكان الحل دائما وسطيا, فيجري بعض من الإصلاح, ويسير معه الكثير من المحافظة علي ما هو قائم, وإذا وضعت هذا علي ذاك فإن البلاد تتقدم وتتغير, ولكنها لا تبلغ الرضا أبدا, لأن ما جري لا يكفي ومطروح للتساؤل عما إذا كان قد وصلت فوائده للجميع بالعدل والقسطاس!. ومع ذلك كانت هناك دائما أنواع من المحفزات لكي نسرع الخطي حتي لو سبب ذلك لغطا; ومن المؤكد أنه بعد انتصار عام1973 لم يكن أحد مستعدا للعودة إلي المسيرة التي أدت إلي هزيمة يونيو1967, ومن ثم تولدت موجة الإصلاح الاقتصادي والسياسي الأولي. وكانت حرب الخليج الثانية وما تلاها من تغيير العالم وإعفائنا من نصف الديون محفزا لموجة أخري في التسعينيات. وعندما بدا أن العالم لن يبقي علي حاله عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 وما تلاها من ضغوط عالمية للتغيير والإصلاح, كان ذلك دافعا إلي الموجة الأخيرة خلال النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبالتأكيد كانت الثورة التكنولوجية, ومعها العولمة الاقتصادية والثقافية تغير فينا صباح مساء سلبا وإيجابا, بينما يجري القبول والرفض لها بوسائل شتي, وتشير كلها إلي أن الحال لا تبقي علي حالها أبدا. ولم يكن الخارج هو الذي يغيرنا طوال الوقت, فقد كانت هناك عوامل داخلية كبري تضغط بشدة كان أكثرها وضوحا الزيادة السكانية التي ضاعفت من عدد سكان مصر خلال ثلاثين عاما فقط من أربعين مليونا إلي ثمانين مليونا. كانت مصر قد ولدت شعبا كاملا آخر لم يكن بالبشر فقط بل الزمن والعصر أيضا. ولم يكن عدد السكان رقما مصمتا فقد كان أغلبه شبابا ونوعيته مختلفة لأن نسبة التعليم لديه ارتفعت حينما انخفضت الأمية في مصر من نحو60% عام1980 إلي28% عام2008, ولم يقل أهمية عن ذلك أن هذا الشباب أصبح أكثر اتصالا بالعالم كما لم يحدث من قبل في التاريخ. كل ذلك كان واضحا في العقل وأشرت إليه في نهاية مقالي عن موجة الإصلاح الاقتصادي التي نحتاجها في المرحلة القادمة. وكان في أوراقي التطورات والإصلاحات التي جرت في المجال السياسي خلال العقود الأربعة السابقة وعلاقتها المترددة مع موجات الإصلاح الاقتصادية. فقد كانت الموجة الأولي من الإصلاح السياسي في مصر في عهد الرئيس أنور السادات, حينما شهدت البلاد حوارا واسعا بشأن تطوير الاتحاد الاشتراكي أو الإبقاء عليه دون تطوير, وانتهي الحوار الدائر بين المثقفين وأساتذة الجامعات والصحفيين والمهنيين إلي الإبقاء عليه مع تطويره, وأوصي التقرير الذي أعدته اللجنة المركزية( وكان مقررها حينذاك د.رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب فيما بعد) بإقامة منابر تعبر عن الاتجاهات المختلفة داخل الاتحاد الاشتراكي, وصدر قرار بإنشاء هذه المنابر داخل الاتحاد في يوليو1975. وقام الرئيس السادات بتعيين لجنة مستقبل العمل السياسي في يناير1976, لدراسة تأثير المنابر في دعم التوجه نحو الديمقراطية في مصر, واعتبر أن مهمتها الأساسية تتمثل في استماع آراء وتحديد اتجاهات قطاعات المجتمع المصري. وقد شملت اللجنة168 عضوا وعقدت16 اجتماعا فيما بين2 فبراير و9 مارس1976, وانتهت مناقشات اللجنة إلي أربعة اتجاهات رئيسية, وهي علي النحو التالي: * الاتجاه الأول هو( اتجاه الأغلبية) الذي دعا إلي التطوير الداخلي للاتحاد الاشتراكي, عبر إقامة منابر ثابتة وهو ما يسهم في فاعلية التنظيم وكفاءة أدائه, مع التحذير الشديد من صيغة التعددية الحزبية, وأيد هذا الاتجاه135 عضوا. * الاتجاه الثاني هو الإبقاء علي الاتحاد الاشتراكي كما هو بما يعكس صورته القائمة حينذاك, مع إعطائه قدرا من الفعالية عبر منابر متحركة بداخله, وأيد هذا الاتجاه34 عضوا. * الاتجاه الثالث هو إقامة الأحزاب السياسية, باعتبارها الصيغة المثلي للتعبير عن الرأي الحر وإقامة المؤسسات الديمقراطية, وأيد هذا الاتجاه8 أعضاء. * الاتجاه الرابع هو السماح بإقامة منابر داخل الاتحاد الاشتراكي وخارجه. وقد وصل عدد المنابر التي أعلن عن قيامها آنذاك إلي40 منبرا, وقرر الرئيس السادات في مارس1976 السماح لثلاثة منابر فقط بالقيام وهي: اليمين( تنظيم الأحرار الاشتراكيين) والوسط( تنظيم مصر العربي الاشتراكي) واليسار( تنظيم التجمع الوطني التقدمي الوحدوي). وخاضت هذه المنابر انتخابات مجلس الشعب في صيف ذلك العام. وفي أول اجتماع للمجلس في11 نوفمبر1976, أعلن رئيس الجمهورية تحويل التنظيمات السياسية الثلاثة إلي أحزاب, ثم صدر قانون الأحزاب السياسية في يونيو1977, أضف إلي ذلك أن الدستور المصري لعام1971 أتاح الحقوق السياسية للمصريين, مثل الحق في حرية التفكير وإبداء الرأي( المادة47), وحرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية( المادة46) والحق في الانتخاب والتمثيل النيابي( المادة98) والحق في تكوين الأحزاب السياسية وإنشاء النقابات المهنية وتشكيل الجمعيات الأهلية( المادتان55 و56). شهد هذا الدستور تعديلا في يوليو1979, حينما تقدم أكثر من ثلث أعضاء مجلس الشعب لتعديل الدستور, بهدف تعديل بعض المواد وإضافة مواد جديدة إلي أحكامه, وفي22 مايو1980 وافق الشعب في استفتاء علي تعديل الدستور, الذي تضمن خمس مواد هي(1 و2 و4 و5 و77), بخلاف إضافة باب جديد هو الباب السابع الخاص بإنشاء مجلس الشوري وسلطة الصحافة. ومن أبرز هذه التعديلات تعديل المادة2 التي كانت تنص علي أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع لتصبح المصدر الرئيسي للتشريع. وكذلك تعديل المادة5 التي كانت تنص علي أن الاتحاد الاشتراكي هو التنظيم السياسي في البلاد, وبعد تعديله أصبح النظام السياسي في جمهورية مصر العربية يقوم علي أساس تعدد الأحزاب. كما تم تعديل المادة77 التي كانت تنص علي أن مدة الرئاسة هي ست سنوات ميلادية تبدأ من تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء ويجوز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدة تالية ومتصلة, بحيث يكون الغرض منها منح رئيس الجمهورية الترشيح لمرات عديدة, وصار نص المادة بعد تعديها يجوز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدد أخري. أما الموجة الثانية من الإصلاح السياسي والدستوري فكانت في عهد الرئيس مبارك حينما طلب الرئيس في26 فبراير2005 استنادا إلي حكم المادة189 تعديل المادة76 من الدستور وإضافة مادة جديدة إلي نصوصه, ليكون انتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع العام المباشر, وتمت الموافقة من جانب الشعب علي التعديل في25 مايو من نفس العام. وفي26 ديسمبر2006 طلب الرئيس مبارك من مجلسي الشعب والشوري إجراء تعديل في34 مادة, بعد حوارات موسعة ومناقشات مستفيضة حولها, ووافق عليها الشعب في استفتاء عام في26 مارس2007. كان ذلك آخر الإصلاحات الكبري في النظام السياسي المصري, وهي التي تم تطبيقها في الانتخابات الرئاسية السابقة, وأضيف لها في آخر الانتخابات البرلمانية لعام2010 ما عرف بحصة المرأة التي أضافت64 عضوا جديدا إلي مجلس الشعب لكي يعطي للمرأة تمييزا إيجابيا سبق إعطاؤه للعمال والفلاحين حينما أعطاهم الدستور نصف عدد أعضاء البرلمان علي الأقل. كما أن الاقتصاد المصري فرض الحاجة إلي موجة جديدة من الإصلاحات التي تسمح له بالانطلاق وتحقيق الأهداف التي لم يستطع تحقيقها حتي الآن; فإن السياسة المصرية بدورها تفرض نفس الحاجة لكي تواكب الإصلاحات المطلوبة في المجتمع والدولة. وقبل الولوج في الحديث عن هذه الإصلاحات فقد يكون من الواجب تقرير حقيقة مهمة, وهي أن النظام السياسي المصري تعرض لاختبارين مهمين خلال المرحلة القصيرة الماضية: الاختبار الأول كان عندما طرحت مجموعة من القوي السياسية الرسمية وغير الرسمية فكرة مقاطعة الانتخابات النيابية الماضية, ومن ثم وضع النظام السياسي كله موضع الانقسام والفرقة بين من يشارك في الانتخابات ومن يقاطعها ويرفض شرعيتها. والاختبار الثاني كان عندما جرت التفجيرات الإرهابية في كنيسة القديسين في الإسكندرية, ومن ثم وضعت الوحدة الوطنية المصرية علي المحك. وفي الحالتين فإن الدولة المصرية, وتيارها السياسي الرئيسي ظهر أنه من القوة بحيث يكون لديه القدرة علي عبور الاختبارين معا بنجاح. وبينما تآلفت كل القوي السياسية ذات القيمة علي المشاركة في الانتخابات والرفض القاطع لفكرة المقاطعة; فإن كافة القوي السياسية وقفت صفا واحدا في مواجهة الفتنة والإرهاب دون خلاف بين الحكومة والمعارضة, أو بين الأغلبية والأقلية. ولكن عبور الاختبارين لم يخل من جروح ودروس, وظهور جوانب خلل ربما حاول المشرع معالجة جزء منها عندما طرح تخفيض فترة وجود الحزب في البرلمان من خمس إلي ثلاث سنوات لكي يكون له حق طرح مرشح لرئاسة الجمهورية وذلك اعتبارا من عام2017, وبينما أظهر هذا الطرح وجهة نظر لمعالجة سياسية جزئية; فإن تجربة الأعوام الماضية والانتخابات السابقة تشير كلها إلي ضرورة السعي نحو موجة سياسية لا تقل عمقا عن الموجة الاقتصادية المنتظرة. ولكن ذلك يحتاج منهجا ينظر في الشكل كما يفحص المضمون; وكلاهما يجري بهدوء وتعمق ويبحث عن المصلحة العامة وليس تسجيل النقاط السياسية. ولا يكون الأمر كذلك فقط من أجل سلامة النظر, وإنما أيضا لأن التجربة كلها تجري تحت نظر تهديدات للأمن القومي اختبرناها جميعا توا في الإسكندرية, وأصبح المنطق الذي شاع في السنوات الأخيرة أن الدولة تستخدم ضرورات الأمن القومي لتأخير الإصلاحات السياسية غير ذي معني بعد أن سالت الدماء وزهقت الأرواح وهددت الوحدة الوطنية إلي المدي الذي رأيناه. التجربة إذن تتطلب موجة من الإصلاح السياسي; والتجربة أيضا تجعلنا نعلم أن ذلك سوف يتم, كما هي الحال مع الإصلاح الاقتصادي, تحت موجة من أمواج التهديد عرفنا بدايتها, ولكننا لم نعرف نهايتها بعد, وما نعرفه تماما هو أننا سوف ننتصر عليه في كل الأحوال. ولعل نقطة البداية في هذا الإصلاح تستند إلي المظاهر الجارفة للوحدة الوطنية التي عليها ليس فقط أن تبحث فيما يحمي الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط; وإنما أيضا معالجة ما نتج عن الانتخابات الأخيرة من نتائج. لقد جرت خلال الأسابيع الأخيرة حوارات علنية كثيرة حول نتائج الانتخابات, وأظن أن جميع الأطراف باتت تعرف الآن أن تقديراتها الأولية إما أنها كانت مبالغا فيها, أو أنها كانت خاطئة تماما. ولم يحدث أبدا أن أنكر الحزب الوطني الديمقراطي حدوث تجاوزات في الانتخابات الأخيرة جرت نتيجة ظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية يعرفها الجميع علي المستويات المحلية. ورغم أن المعارضة ظلت تبرر ضمور تواجدها في البرلمان بحدوث التزوير, فإن أصحاب الحكمة فيها يعرفون أن استعداداتهم للانتخابات أصابها عوار كبير في التوقيت والاختيار. وبغض النظر عما يراه هذا الطرف أو ذاك فإن ما تطالب به المعارضة من إصلاح سياسي لن يمكن تحقيقه عمليا ما لم يتم من خلال التشاور والحوار مع الحزب الوطني الديمقراطي خاصة أن التجربة المريرة في الإسكندرية التي تعرضت لها الوحدة الوطنية لم تكن تخص الحزب الحاكم وحده, وإنما كانت تمس بقسوة كل الأحزاب الساعية إلي دولة مدنية وحديثة في مصر. لقد ظهر الشر مكشرا عن أنيابه, بقسوة بالغة ودامية وعنيفة هزت الضمير الوطني كله ودعته إلي أن يبحث بجدية كاملة عن سبل تعيد بناء التحالف المدني إلي ما كان عليه من ناحية; وتفتح باب موجة الإصلاح السياسي من ناحية أخري. وفي الظن أن هناك مجموعة من الواجبات التي علي طرفي التحالف المدني القيام بها. أولها علي الحزب الوطني الديمقراطي الذي باتت أغلبيته تحتم عليه ألا يقبل الجديد من المستقلين الذين وقفوا ضده في الانتخابات. ليس فقط لأن ذلك لا يناسب منطقا, وإنما أيضا لأن الحزب مع ما هو عليه من حيوية حاليا لا يحتاج أرقاما جديدة تتركه عند أول اختبار. ومن جانب آخر فإنني أدعو أغلبية الحزب إلي القبول بنتائج الأحكام القضائية والتصديق عليها فيما يتعلق بصحة نتائج الانتخابات أو بطلانها. وعلي الناحية الأخري فإن بقية الأحزاب, خاصة حزب الوفد, بات عليها مراجعة بنائها السياسي وتحديث تنظيماتها ووحداتها الأساسية وبنائها القيادي وربما أيضا أفكارها السياسية. وبصراحة فإنه لم يعد هناك في العصر الحديث أحزاب سياسية لا تتضمن قدرا من الاحتراف السياسي, وتقتصر أفكارها فقط علي رفض ما يأتي به الحزب الحاكم. حال حدوث ذلك فإن طرفي التحالف المدني بات عليهم بحث دءوب, وعمل لا يكل من أجل حماية الوحدة الوطنية التي تسعي إلي تمزيقها ذات القوي التي مزقت فلسطين والسودان والعراق وأفغانستان واليمن وتحاول بلا كلل أو ملل أن تفعل ذلك في كافة الدول العربية والإسلامية. إن الوحدة الوطنية هي أساس الدولة, وهي ليست رموزا وشعارات, ولكنها عمل سياسي من الدرجة الأولي يقع علي عاتق كل القوي المؤمنة بالدولة المدنية الحديثة في مصر. مثل هذا خطوة أولي ضرورية, وبعدها فإن الموجة القادمة من الإصلاح تتطلب التشاور حول الإصلاح السياسي, عبر البدء بحوار وطني موسع بين ممثلي الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية, بهدف المشاركة وطرح الأفكار التي تتعلق بالإصلاح و تطرحها القوي السياسية المختلفة من خلال ورش عمل وحلقات نقاش هادئة وواعية, تضع الأولويات وجدول الأعمال بحيث لا تستثني أو تستبعد قضية.