«بيت العيلة» يحمل عواطف وذكريات، فهو ليس مجرد منزل يضم أفراد الأسرة الواحدة بل رمز لروح العيد وتجمعات الكعك التى قد تختفى بعد حين. مازالت هبة تشتم رائحة صوانى الكعك المتراصة فى طريقها للفرن، فقبيل العيد بأيام معدودات كان بيت الجدة العجوز يتحول لخلية نحل من أجل إعداد نحو عشرة كيلوجرامات من الكعك لتكفى رواد بيت العائلة خلال العيد. رحلت الجدة عن عالمنا وتركت طقوسا خاصة بهذه الاحتفالية السنوية مازالت تقام فى بيت العائلة التى تفتح أبوابها لاستقبال الفروع خلال هذه الأيام. فبعد صلاة العيد، تكون بنات الحاجة سامية قد أنجزن الإشراف على مهمة فتح البيت وتنظيفه، بينما تتكاتف الحفيدات لإعداد إفطار جماعى يضم أكثر من مائة شخص ما بين أبناء الحاجة سامية وأحفادها وأزواجهم، وربما أشقائها وأبنائهم أو كبار الخدم الذين عاصروا أيام الحاجة التى ولت أو حتى شيخ المسجد الذى أم المصلين فى صلاة العيد. الأطفال يهرولون فى كل ركن من أركان البيت، فرصة رائعة للتواصل والتعرف على أقرانهم من فروع أخرى من العائلة الكبيرة. «بيت العائلة هو هذا المزيج من الدفء والحميمية، هنا أشعر أن للعيد طعما آخر وكأننى أعود لرحم أمى.. بيت جدتى يشعرنى دائما بحالة من الحنين الجارف لأيام حلوة مضت ولن تعود بسبب اختفاء أبطالها»، هكذا تقول هبة التى ستهرول بعد قليل لكى تلحق الاحتفالية فى بيت عائلة زوجها ولكن على الغذاء، وتضيف: «قبل العيد أسعى لتنظيم أجندة الحفل حتى لا أغضب أحدا علىّ من الجانبين عائلة زوجى وعائلتى». يوضح الكاتب مرسى سعدالدين: «بيت العيلة كما نقول دائما، كلمتان لهما معانٍ عديدة، فهما تترجمان لعواطف وأحاسيس وصور وذكريات. وبرغم أن بيت العيلة هو أيضا منزل الأسرة الصغيرة إلا أن هناك فرقا كبيرا بينهما. فمنزل الأسرة هو مجرد عدد من الغرف ورقم فى أحد الشوارع، أما بيت العيلة فهو العش الذى يولد فيه الأبناء ويكبرون فيه ويجدون فيه الدفء والحب والحنان. والفرق بين البيت والمنزل نجده أيضا فى اللغة الإنجليزية عندما نقول home وhouse، كثيرا ما كنت أسمع صديقا إنجليزيا يقول لقد ابتعت منزلا وسأحاول أن أجعله بيتى». وبين المنزل والبيت هناك مساحات متداخلة من العلاقات الإنسانية التى ربما تتغير بشكل دائم كانعكاس للصراع والتطور الاجتماعى. فمثلا دائما ما تحب الجدة قضاء العيد فى البيت وسط العائلة الكبيرة، بينما تفضل نور ابنة هبة ذات الخمسة عشر ربيعا أن تظل فى منزلهم لما فيه من خصوصية هى الأهم لها من الطقوس الأخرى. وتعلق الأم: «قد لا يفهم هذا الجيل الفارق، فهو لم يعش الحياة نفسها». تذكر الكاتبة سامية سراج الدين فى روايتها «بيت العائلة» (دار الشروق، 2009) أن أكثر ما تفتقده فى هذه الأيام الطيبة التى ولت بلا رجعة هو طبيعة الحياة فى بيت مفتوح للكافة، وفى سهولة الترحيب بالضيف فى أى وقت من اليوم. وتضيف: «كنا نفترض أن الضيف الذى يهبط علينا فجأة سيبقى معنا للغذاء أو كنا نطلب منه أو بالأحرى نلح عليه. ربما تكون قواعد الاتيكيت التى نتبعها عالمية بصورة أو بأخرى ولكن روح إكرام الضيف كانت بدرجة لا تبارى وكأن شأننا فيها شأن أهل الريف الذى نشترك معهم فى أصولنا». ارتفع صوت فيروز من المذياع فى بيت الحاجة سامية: «كان عندنا طاحون على نبع ألمى.. إدامه ساحات مزروعة فى، وجدى كان يطحن للحى قمح وسهلية». بدأ هيثم، الشاب العشرينى، يلملم أشياءه فى عجلة من منزل الحاجة سامية كى يهم بالانصراف بعد أن أدى واجب المعايدة على طريقة «الفاست فود» أو الوجبات السريعة: «أعتقد أن أبناء جيلى من العائلة يكرهون الاحتفال على هذه الطريقة. أكره الطقوس الاحتفالية وأحب الاستفادة من العيد بشكل مختلف، فأنا فى إجازة لمدة يومين أحب أن أستغلها من أجل الذهاب فى رحلة مع زملائى، لكن أن أضيع وقتى فى مثل هذه المجاملات، هذا هراء». يتفق معه ابن خالته محمود الذى كان يريد أن يقتنص هذه الفرصة لقراءة عدد من الكتب والخروج لتناول الطعام فى أحد المطاعم الصينية، ويقول: «منذ فترة وأنا أسعى ألا أرتبط فى فترة العطلات بالعائلة حتى لا أخضع لهذا النمط من الحياة الرتيبة. لا أحب أى نوع من القيود ولا أرضى أن أسير فى ركاب التقاليد مثل القطيع. ورغم مناقشاتى الساخنة مع أبى حول الاستقلالية عن العائلة، لا أجد مفرا من قضاء بضع ساعات فى بيت جدتى خلال العيد»، هكذا يقول مصطفى الذى يؤمن كثيرا بما كتبته الكاتبة الانجليزية التى عرفت باسم جورج إليوت أن العلاقات العائلية تميل إلى الجمع بين الشوق والنفور لأننا نرتبط بيولوجيا بأشخاص ليس لنا معهم شىء مشترك. وتوضح الدكتورة نجوى الفولى خبيرة العلاقات الأسرية أن أبناء الجيل الجديد أقل ميلا لإقامة علاقات أسرية، فهم يعتقدون أن التحرر من فكر الأسرة وطقوسها هو نوع من التحرر الفكرى من العائلة. ويتعرض الدكتور عبدالوهاب المسيرى فى كتابه» رحلتى الفكرية» (دار الشروق، 2006) لهذا التطور فى العلاقات الإنسانية محللا: «كانت مدينة دمنهور مدينة تجارية حديثة تسود فيها العلاقات التعاقدية التى تسود فى المدن والمجتمعات الحديثة أى أنها تنتمى لنمط (الجيزلشافت)، على حد قول علماء الاجتماع الألمان، ولكن تحت القشرة الحديثة هناك مجتمع تقليدى، جماعة مترابطة متراحمة، لم تكن العلاقات فيها مبنية على المنفعة واللذة وحسب، إذ كانت هناك حسابات مادية وغير أنانية تشكل مكونا أساسيا فى هذه العلاقات. ما أريد تأكيده هو أن المجتمعات التقليدية كانت تحوى منظومات قيمية وجمالية لم يؤد تقويضها بالضرورة إلى مزيد من السعادة. فالأشكال الحضارية الحديثة المستوردة ليست الأشكال الحضارية الوحيدة بل إن هناك أشكالا أخرى قد تكون أكثر ثراء وأكثر دفئا، والأهم من هذا أنها قد تكون أكثر تجذرا، وضياعا مثل هذه الأشكال هو خسارة حقيقية»، أشكال من العلاقات تتلبس أخرى، فنحن نعيش خلطة من العصور تجعلنا نقضى العيد فى بيت العائلة أحيانا أو بعيدا عن ركاب الأسرة بعد اندثار ما عرف سابقا «بالبيت الكبير».