من منا لا يشعر بخيبة الأمل فى أداء قيادات العالم فى الوقت الحاضر مقارنة بقيادات الدول الكبرى فى عقود سابقة؟ ومن منا لا يشعر بأن القدرات الفكرية للقيادات الحالية متواضعة للغاية بالنظر لما كان أسلافهم يتمتعون به؟ حكم فرنسا فى نهاية خمسينيات القرن الماضى ومعظم سنوات الستينيات الجنرال شارل ديجول، والذى كان مثقفًا رفيعًا ذا رؤية ثاقبة لتاريخ بلاده وموقعها فى النظام الدولى، وتولى الرئاسة فى الولاياتالمتحدة من 1961–1963 جون كينيدى، خريج هارفارد. وكان قطب السياسة السوفيتية منذ 1953 وحتى 1964 هو نيكيتا خروشوف، سكرتير عام الحزب الشيوعى السوفيتى، صاحب الرؤى الناقدة للممارسات الستالينية، والذى اعتمد على تقارير مؤسسات الحزب الشيوعى السوفيتى وأكاديمية العلوم، بما فى ذلك معهد دراسة الولاياتالمتحدة. استعان ديجول بالمثقف والروائى الفرنسى أندريه مالرو الذى عيّنه وزيرًا للثقافة، واستدعى جون كينيدى إلى البيت الأبيض مكجورج بوندى، العميد السابق بجامعة هارفارد، ليكون مستشاره للأمن القومى. خلفاؤهم فى الدول الثلاث وقعوا فى سقطات قاتلة يرجع معظمها إلى أخطاء واضحة فى تحليل المواقف والأزمات التى واجهتها بلادهم، وكان من شأن نصيحة يقدمها مثقفون من بلادهم أن يتجنبوا هذه النكسات. لو كان إيمانويل ماكرون قد استشار مثقفين فرنسيين لأبلغوه أن شغفه بتحديث نظام المعاشات لن يلقى أغلبية فى البرلمان الفرنسى، وأن محاولته الوصول إلى أغلبية رئاسية من خلال الدعوة لانتخابات برلمانية فى ربيع 2024 لن تنتهى بتركيبة ملائمة له فى الجمعية الوطنية. وبكل تأكيد لو كان الرئيس فلاديمير بوتين قد استشار خبراء العلاقات الدولية الروس حول آفاق حرب مع أوكرانيا لأبلغوه أن كسب هذه الحرب فى مواجهة الغرب سيكلف روسيا السقوط من موقعها كقوة عالمية عظمى إلى أن تصبح مجرد قوة إقليمية فى شرق القارة الأوروبية. ولا شك أنه فى حالة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، كثيرون هم الاقتصاديون الأمريكيون الذين رأوا خطأ محاولة سد الفجوة فى الميزان التجارى للولايات المتحدة برفع الضريبة الجمركية على وارداتها. عجز القيادة بسبب غياب المثقف الناصح الأمين ليس مقصورا على الدول الكبرى، ولكنه ممتد وعميق فى غيرها من الدول. ألا يرجع استسلام غالبية القيادات العربية لمحاولات الهيمنة الإسرائيلية إلى ضيق دائرة المشورة المحيطة بهذه القيادات، والتى كان يمكنها أن تطرح لها العديد من البدائل التى كان يمكنها أن تجنبها السقوط فى هاوية نكبة عربية ثالثة تفوق كل ما سبقها فى تاريخ العرب الحديث؟
الأمير لم يعد بحاجة إلى المثقف النماذج الثلاث التى ضربها هذا المقال تتميز كلها بالثقة المفرطة فى النفس، والانفراد بصنع القرار انطلاقًا من الاعتقاد بأن رئيس الدولة يملك ليس فقط المعلومات بل صحة الرأى وسلامة التحليل بما لا يملكه أحد آخر. ينطبق ذلك بلا شك وبصورة صارخة على الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الذى أظهر جهلًا بالغًا بتعقيدات السياسة الدولية؛ مما دعاه إلى أن يصرح وقت حملته الانتخابية بأنه سيحل مشكلة الحرب الأوكرانية فى أسبوع، ومازال يعتقد أنه قد حقق السلام بين العرب وإسرائيل. وعلى عكس إدارته الأولى التى أحاط نفسه فيها بعدد من الخبراء والمثقفين، أيا كان رأينا فيهم، ومنهم جون بولتون أو ستيف بانون، وقد خرج الاثنان عليه؛ ولذلك لم يعد يحيط نفسه فى إدارته الثانية إلا بعدد من رجال الأعمال من أصحاب الخبرة فى مجال المقاولات أو ببعض أفراد أسرته. ووصل به الأمر إلى أنه عندما تتعارض تقارير أجهزة الحكومة الفيدرالية مع الصورة التى يريد للرأى العام الأمريكى أن يعرفها عن إدارته، فإنه يقوم بإقالتهم، مثلما فعل مع مدير إدارة إحصائيات العمل الذى نشر بيانًا يظهر تباطؤ نمو العمالة فى الاقتصاد الأمريكى على النقيض مما يدعيه الرئيس. نفس الأمر ينطبق على الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، الذى أطلق من الادعاءات حول أوكرانيا ما لا يمكن أن يخرج من خبير روسى بشئونها، مثل القول بأن النازيين يديرون السلطة فيها، أو أنها لم تتمتع بالحق فى تقرير المصير، بينما كان الدستور السوفيتى نفسه يخلع عليها وصف الدولة ويبرر تمتعها بعضوية الأممالمتحدة شأنها شأن بيلا روس، وذلك قبل سقوط الاتحاد السوفيتى نفسه، ومطالبة قيادتها فى 1991 بالسيادة، وهو ما شاركهم فيه زعيم روسيا الاتحادية بوريس يلتسين نفسه. لا أعرف ما إذا كان الخبير الروسى فى الشأن الأوكرانى سيجادل بوتين فى أن محاولة إخضاع أوكرانيا للسيطرة الروسية لن تكون مجرد نزهة خالية من العواقب، مثل التضحية بمئات الآلاف من الشباب الروس الذين ماتوا فى ميادين القتال، أو تعرض روسيا ذاتها ومرافقها الحيوية لغارات أوكرانية وعقوبات صارمة فرضتها دول الاتحاد الأوروبى والولاياتالمتحدة على الاقتصاد الروسى. أخطاء الرئيس الفرنسى فى التقدير صارخة. لم يكن الأمر يحتاج خبيرًا يبلغه أن أمله فى الحصول على أغلبية يمينية فى البرلمان الفرنسى غير واقعى، بناءً على نتيجة انتخابات البرلمان الأوروبى السابقة التى أظهرت تقدمًا لحزب التجمع الوطنى اليمينى المتطرف بقيادة مارين لوبان، أو أن الوصول إلى حل وسط فى الجمعية الوطنية بخصوص إصلاح نظام التقاعد أمر غير محتمل. ولذلك فإن تغييره لرؤساء الوزارات انتهى به إلى رئيس الوزراء الحالى الذى يسعى لتجنب أزمة إخفاق الرئيس فى تمرير برنامجه الانتخابى، وذلك عن طريق الاستسلام تقريبًا لمطالب المعارضة اليمينية واليسارية على حد سواء حتى يظل ماكرون فى قصر الإليزيه حتى انتهاء مدته الرئاسية فى 2027، ولا يضطر للاستقالة قبلها.
ثورة المعلومات وتضاؤل دور المثقف العام
عزوف رؤساء الدول والحكومات عن طلب مشورة المثقفين يعود أيضًا إلى التغييرات العميقة التى أحدثتها ثورة المعلومات على مكانة المثقف العام، الذى يمارس دوره من خلال الجامعات ومراكز الأبحاث والنشر العلمى والصحافة. فتحت ثورة المعلومات الباب واسعًا لتوسيع الديمقراطية فى مجال التعبير عن الرأى. لم يعد تناول الشأن العام مقصورا على هذا المثقف التقليدى، وإنما أصبح يشاركه فيه مئات الآلاف ممن يستخدمون أدوات التواصل الاجتماعى الجديدة مثل فيسبوك وزد والصفحات الشخصية فى نشر آرائهم، بل وأصبح هؤلاء أكثر تأثيرًا لوصولهم إلى أعداد أكبر من المواطنين وقدرتهم على حشدهم فى أنشطة متعددة، منها الاحتجاج على السياسات العامة بل وتغيير الحكومات، ومنها أيضًا الدعوة لانتخاب مرشحين معينين، وهو ما بادر إلى استخدامه بنجاح باراك أوباما عندما رشح نفسه فى الانتخابات الأمريكية فى 2008. بل ارتقى بعض من استخدموا هذه الوسائل إلى مكانة متميزة كمؤثرين يفوقون فى نفوذهم بكل تأكيد المثقف التقليدى. وقد أصبح اكتساب هذه المكانة متاحًا دون الشروط التى لابد أن يمر بها المثقف التقليدى من دراسة جامعية، وشهادة من جامعة مرموقة، وسجل من المؤلفات فى دوريات ذات مصداقية أو دور نشر جامعية. كما لا يعتمد نجاح المؤثر على استخدامه لحجج مسنودة بأدلة مستمدة من أبحاث علمية، ولكنه يرتبط بقدرته على اجتذاب المشاهدين ونيل علامات الموافقة بدغدغة مشاعرهم. ونظرًا لأن هؤلاء يصلون إلى أعداد أكبر من المواطنين، أصبح القادة السياسيون يعولون عليهم فى نشر أفكارهم واجتذاب التأييد لمواقفهم. وقد كان ذلك أحد أسباب المكانة التى تمتع بها شارلى كيرك، نصير ترامب وصوت شباب «ماجا» أو «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، والذى بدأ نشاطه على أدوات التواصل الاجتماعى فى سن الثامنة عشرة، ونجح فى نقل هذه الرسالة إلى الملايين من الشباب الأمريكيين الذين أصبحوا من أنصار ترامب. وتتعدد التقارير عن استخدام الحكومة الروسية فى ظل رئاسة بوتين لهذه الأدوات ليس فى كسب ولاء المواطنين الروس لسياساته، بل - بحسب هذه التقارير - للتأثير على الانتخابات فى الدول الغربية ذاتها. ولا يغفل رؤساء الدول الأخرى فى الشمال أو الجنوب، بما فى ذلك الدول العربية، عن استخدام هذه الوسائل ليس فقط من خلال الصفحات الشخصية لرؤساء الدول والحكومات، ولكن من خلال تجنيد مؤثرين يعكسون وجهات نظرها ومرتبطين فى الغالب بأجهزتها الحكومية. وفضلًا عن ذلك، أصبح رؤساء الدول أكثر حاجة إلى نوع جديد من المثقفين، وهم الخبراء البارعون فى التعامل مع تكنولوجيات المعلومات الجديدة بقدرتها على تجميع البيانات لاستخدامها فى الوصول إلى المواطنين أو التأثير عليهم، بحكم الفيض الهائل الذى توفره هذه التكنولوجيات عن خلفيات هؤلاء المواطنين وقدراتهم المالية ومستويات تعليمهم واتصالاتهم الاجتماعية، مما يشكل ذخيرة هائلة تستخدمها الحكومات فى صناعة الرأى العام بل والتلاعب به حسب ما يراه هؤلاء القادة.
تهميش المثقف العام:
وهكذا فقد تضافرت رؤية هؤلاء القادة لقدراتهم الذاتية - المبالغ فيها بلا شك - مع التطورات التى أحدثتها ثورة تكنولوجيا المعلومات، وصار الناس فى هذه البلدان يفتقدون وجود المثقف الناصح الأمين إلى جانب رئيس الدولة، ويدفعون ثمنًا باهظًا لذلك.