الأغنيات وتترات المسلسلات التى طالما رددناها وظلت عالقة بأذهاننا وصلت إلينا فى صورتها النهائية بعد تبديلات وتعديلات فى اللحن والكلمات، ولم تولد بشكلها الراهن من أول محاولة. يطيب لى أحيانًا أن أستمع إلى الأجزاء التى تم استبعادها ووضْع كلمات جديدة أو جمل لحنية مكانها. ولما كان من العسير شرح الموسيقى كتابًة فإنه يظل فى الإمكان استعراض الكلمات الأصلية والكلمات التى حلت محلها. على سبيل المثال فى تتر مسلسل «المال والبنون» كتب سيد حجاب ما يلى: دنيا غرورة دنيّة... زى الحَنَش شرانيّة. يا ريتنا نأمن أذاها... ونعيش سوا فى صفو نية. لكن يبدو أن قطاع الإنتاج بالتليفزيون استثقل هذا الكلام وأراد تخفيفه حتى لا يضغط على المُشاهد المجروح سلفًا من قسوة حياته وصعوبتها، فطلبوا من حجاب كلمات جديدة فقدم لهم: باحلم وأفتّح عينيا..على جنة للإنسانية. والناس سوا بيعيشوها.. بطيبة وبصفو نية. لكن يبدو أن طلبات المسئولين لم تنته فاعترضوا أيضًا على: لأ يا دنيا اجرى غُرى.. غيرى ولاعبى وضرى. أما أنا رغم مرى.. نفسى عزيزة غنية. فاضطر سيد حجاب إلى الموافقة وقام بتغيير الكلمات لتصبح: يا دنيا مهما تغرى.. غيرى مسيرك تمرى. وبعد مرى تسرى.. نفسى العفيفة الغنية. ويبدو هنا أن قطاع الإنتاج الذى يمثل السلطة خشى من موقف سيد حجاب الذى يصر على عفة النفس رغم المرار الذى يقاسيه، وأراد لمحة تفاؤل من الشاعر الذى طاوعهم على غير ما يشتهى وقال: وبعد مُرى تسرى نفسى العفيفة الغنية! ولم يقتصر الأمر على «المال والبنون» فقط، إذ إن سيد حجاب أينما التفت وجد من يطلب منه التعديل، ففى مسلسل أميرة فى عابدين كتب فى التتر: ياللى تقول مكتوب علينا الهوان..لا الدنيا سيرك ولا الزمن بهلوان. لكنها ظهرت فى الأغنية على شكل سؤال: مين اللى قال مكتوب علينا الهوان؟ والفرق فى ظنى بين الشكل التقريرى والشكل التساؤلى هو فى حجم الاستنكار عند التساؤل. ولا أدرى مَن هو صاحب الاقتراح، وهو هنا اقتراح فنى فيما يبدو وليس فرمانًا سلطويًا مثل المثال السابق. ومع ذلك فاليد الثقيلة تلوح مرة أخرى فى نفس التتر فتتدخل بالنسبة للأبيات الآتية: يا قلبى زيح غيم الضلال عن عينيك.. وعيش وعيد زمن البراءة القديم وخد اللى ليك والعن جدود لاعنيك.. واعلا على كل الهشيم والرديم. فيضطر حجاب لتخفيف انفعاله ويكتب: زيح عن عينيك غيم الظلام والضلال.. وعيش وعيد زمن البراءة القديم وخد اللى ليك يغنيك ما دام مال حلال.. وتستقيم تبقى فى نعيم مستديم. من الواضح هنا أن «خد اللى ليك والعن جدود لاعنيك» لم ترق لقطاع الإنتاج لأنها بمثابة تحريض على أخذ الحق بالقوة مع إطلاق اللسان بلعن الظالمين وآبائهم وأجدادهم. وهنا أيضًا ينحنى الشاعر للريح ولا يصر على موقفه فيطاوعهم مرددا كلامًا أقرب إلى الشعر المدرسى: وخد اللى ليك يغنيك ما دام مال حلال، وتستقيم تبقى فى نعيم مستديم. ولا أظن أن الشاعر كان سعيدا هنا! وبعيدا عن مسلسلات التليفزيون استرعى انتباهى فى أغنية «مشغول عليك» لكارم محمود أن هناك تسجيلين للإذاعة مع كلمات تم تعديلها. وهذه الأغنية الجميلة ظهرت عام 1954 لكنها عادت فى أيامنا هذه فى الحفلات مع معظم المطربين العرب الذين أعادوا اكتشافها. يقول فتحى قورة: «لا عشقت بعدك ولا قبلك.. ولا قلت لك إنى باهواك. وكان عزايا إنى باقابلك وأكلمك وأقعد وياك». ثم يكمل فى التسجيل الأول: ولما نُلت اللى فى بالك.. راحت وخلصت أيامى. ضيعت أملى بآمالك وداويت آلامك بآلامى. ويبدو أن هناك من شعر بالحرج من حكاية: ولما نلت اللى فى بالك. فهى تضع الحبيبة فى صورة انتهازية أيًا كان ما نالته سواء كان مالا أو أوقاتًا حميمة!. وهنا لم يتردد الصنايعى الحريف فتحى قورة فى تعديلها لتصبح: وبعد ما شغلنى جمالك راحت وخلصت أيامى. والغريب أن الكلمات قبل التعديل تعتبر منطقية ومعبرة وداخل السياق، على العكس من التلفيق الذى اضطر إليه الشاعر فبدا فى نظر جمهوره أقل من مستواه الذى يعرفونه! وفى الكوبليه التالى من نفس الأغنية يقول التسجيل القديم: هويتك وانت فاكرنى بحبك بس قدامه. تعالى وشوف يا هاجرنى عذاب القلب وآلامه. فى التعديل أصبح: هويتك وانت ناسينى وقاسى القلب أوهامه. تعالى وشوف يا كاوينى عذاب البعد وآلامه. ولا أرى هنا فرقا كبيرا أو عوارا يستدعى التعديل، لكنى أرى تخبطًا اضطر إليه شاعر كبير بسبب طلبات لم نعرف صاحبها! مثال آخر فى أغنية «مغرور».. كتب الشاعر محمد حلاوة: سيبه يا قلبى يخاصمك سيبه.. بكرة الشوق يرميه ويجيبه. طلب عبد الحليم تعديل يرميه فأصبحت يناديه. وكذلك طلب حليم تغيير جملة تقول: حبيت أقول له عن حبى كله، فأصبحت: قرّبت اقول ملّيته من كُتر ما اترجيته. وطبعًا قصيدة قارئة الفنجان مليئة بالتعديلات لتصير على مقاس حليم والموجى، ومن أشهرها: «فحبيبة قلبك يا ولدى نائمة فى قصر مرصود. والقصر كبيرٌ يا ولدى وكلابٌ تحرسه وجنود». وبصراحة لم أفهم ما المشكلة فى شطرة: وكلاب تحرسه وجنود التى رفضها حليم! وفى قصيدة رسالة من امرأة حاقدة تقول فايزة أحمد: لا تعتذر أبدا ولا تتأسف، بينما كان نزار قبانى قد كتبها: لا تعتذر يا نذل لا تتأسف. وأيضًا هنا لا أرى سببًا وجيهًا لإزاحة كلمة نذل عن الأغنية، وقد كانت فى محلها تمامًا! وهناك الكثير غير هذا، لكن المساحة لا تتسع وربما نرجئه لحديث آخر.