من يتأمل الأوضاع الراهنة فى بلاد الشام، يتبين له أن الدولة السورية أو ما تبقى منها باتت كفريسة مستباحة، بعد أن قامت إسرائيل بتدمير المقدرات العسكرية السورية بالكامل، وفرض هيمنة عسكرية إسرائيلية مذلة على كل أنحاء الدولة السورية، ولا سيما فى الجنوب السورى. الكيان الصهيونى الذى استغل تطورات الأحداث فى سوريا واستولى على قرابة ألف كم2 من الأراضى السورية ذات الأهمية الاستراتيجية فى جبل الشيخ وهضبة الجولان والقنيطرة والتى تتيح له تحقيق الاستطلاع والرصد الرادارى والنيرانى على كامل جنوبسوريا، ووضع العاصمة دمشق تحت السيطرة النيرانية الإسرائيلية، ويضع القوات الإسرائيلية على مسافة نصف ساعة من قلب دمشق. احتلال إسرائيل لمرتفعات جبل الشيخ السورية أتاح لها إحكام قبضتها على منابع نهرى الأردن واليرموك، لتحقق خطوة كبرى فى استراتيجيتها المائية العدوانية بالسيطرة على منابع ومصادر الأنهار فى بلاد الشام، وتنفيذ المخططات الهيدرولوجية الإسرائيلية لسرقة المياه العذبة من سورياولبنانوالأردن. • • • أما عن لبنان فقد رفضت إسرائيل تنفيذ الانسحاب من الأراضى التى تحتلها أصلا، وأضافت إليها التمسك باحتلال خمس مواقع استراتيجية حدودية فى الجنوباللبنانى: وهى تلة العويضة، وتلة الحمامص، وجبل بلاط، وتلة اللبونة، وتلة العزية؛ وجميعها تعد نقاطا استراتيجية حاكمة ومسيطرة استطلاعيًا ونيرانيًا على مساحات شاسعة من جنوبلبنان. وفى جميع تلك المواقع الخمسة بدأ جيش العدو الإسرائيلى يتمركز ويقيم تحصينات عسكرية دائمة، مع إحاطتها بالسياج والألغام والجدران الإسمنتية، وإقامة أعمدة مزودة بكاميرات المراقبة وأجهزة التصوير والاستشعار عن بُعد مستغلًا ارتفاعها الشاهق فوق سطح البحر، وإشرافها بالكامل على طرق وممرات جنوبلبنان والأراضى الفلسطينية الشمالية المحتلة. فى ذات الآونة، باتت الولاياتالمتحدة وإسرائيل تدفعان الأوضاع فى لبنان نحو الانفجار بإظهار حزب الله بأنه المتسبب فى تعطيل الانسحاب الإسرائيلى وضياع المساعدات الاقتصادية الأمريكية والغربية الموعودة، واستمرار تردى أوضاع الاقتصاد اللبنانى. تلك هى الذريعة التى ستستغلها إسرائيل فى أقرب فرصة للقيام باجتياح عسكرى لجنوبلبنان بذريعة تدمير ما تبقى من معاقل وقواعد حزب الله، هذا الغزو المؤكد الحدوث سينقل حدود الكيان الصهيونى فعليًا إلى الضفة الجنوبية لنهر الليطانى، بما سيتيح لإسرائيل تحقيق مخططها بالاستيلاء على 750 مليون متر مكعب سنويًا من المياه العذبة. • • • وفى عام 1982 كتب المحلل الإسرائيلى عوديد يانون، مقالاً هامًا بعنوان «استراتيجية لإسرائيل فى ثمانينيات القرن العشرين» جاء فيه أن أفضل ما يمكن أن يتحقق للمصالح الإسرائيلية فى سوريا هو تحفيز المشاعر الدينية والعرقية والطائفية، بهدف إنشاء كيانات ذاتية ضعيفة ومتقزمة (علوية، وسنية، ودرزية، وكردية، ومارونية، ...) على أنقاض الدولة الوطنية السورية الجامعة، وفى العراق هو تفكيك العراق إلى دولة شيعية ودولة سنية ودولة كردية. تنفيذ تلك المخططات سيكون كفيلا بإنشاء كيانات هشة متصارعة فيما بينها، بما يسهل على إسرائيل التحكم فيها ووضعها تحت سيطرتها، وهو بديل مريح لضمان هيمنة إسرائيل على المنطقة، بدلاً من مواجهة دول وطنية قوية مثل الجمهورية العراقية أو الجمهورية العربية السورية. للأسف الشديد فقد دعا أحد المرجعيات الدرزية فى محافظة السويداء إلى فتح معبر دولى يصل السويداء بمنطقة شرق الفرات التى تهيمن عليها الميليشيات الكردية، وجاءت تلك الدعوة مباشرة عقب إجبار الجيش السورى والأجهزة الأمنية بمحافظة السويداء على مغادرتها نتيجة قصف الطيران الإسرائيلى المكثف لها. هذا المرجع لا يمكن اعتباره ممثلا للدروز السوريين وهم ذوو تاريخ عريق فى الانتماء للوطن السورى وللاستقلال الوطنى وللقومية العربية، والأغلبية الدرزية فى سوريا وعلى رأسها مرجعيات درزية روحية أخرى أمثال المشايخ الحناوى والبلعوس والجربوع، ترفض التدخل الإسرائيلى وتتمسك بوحدة الدولة السورية. • • • الكيان الصهيونى الذى بات مسئولوه يتحدثون جهارًا نهارًا عن المشاريع الفيدرالية فى سوريا وإقامة دويلات وتكريس مناطق ذات حكم ذاتى، تقوم فى هذا الإطار بتعزيز مختلف أشكال التناقض والانقسام والتشرذم داخل المجتمع السورى، من خلال اللعب على تضارب المصالح للمكونات الدينية والطائفية والعرقية للمجتمع السورى. والمواقف الأمريكية التى تقدم الدعم غير المحدود للأكراد فى شرق الفرات وتغدق عليهم التمويل والتسليح بكرم شديد معززة نزعاتهم الانفصالية وتوجهاتهم للانسلاخ عن كيان الدولة السورية، والمواقف الإسرائيلية التى تتحدث عن حماية الدروز باستخدام القوة العسكرية والإغراءات السياسية أو المادية لفصلهم حاليًا ومستقبلًا عن مكونات المجتمع السورى بزعم حماية ذاتيتهم وخصوصياتهم فى مواجهة المكونات الأخرى، الأمر الذى يضرب الوحدة الوطنية السورية فى مقتل. • • • بالتوازى مع ما سبق ظهر فى الأفق مخطط ممر داود الذى تسعى إسرائيل لتنفيذه، وهو جزء محورى من مشروع مخطط إسرائيل الكبرى يقوم على إنشاء ممر برى يمتد من الجولان السورى المحتل وصولاً إلى شرق الفرات فى سوريا حيث يسيطر الأكراد على مساحة تقارب ثلث الأراضى السورية بقوات مدعومة أمريكيًا بالسلاح والعتاد تقارب 100 ألف مقاتل، ثم يمتد الممر بعد ذلك إلى مناطق شمال العراق فى إقليم كردستان. المخطط أطلق عليه اسم مشروع ممر داود، الذى يعتبره الإسرائيليون ملك ومؤسس مملكة إسرائيل الكبرى وفق أساطيرهم المزعومة، والمخطط أن يبدأ مسار ممر داود من الجولان السورى المحتل ثم القنيطرة ودرعا والسويداء محافظاتالجنوب السورى، السويداء ذات الغالبية الدرزية التى خرج نتنياهو ليعلن أنها تحت الرعاية والحماية الإسرائيلية، والتى تخطط إسرائيل لجعل مدينتها السويداء عاصمة دولة الدروز، التى ستقتطع من الجمهورية العربية السورية وفق خطة عوديد يانون 1982. وبعد أن يعبر الممر جنوبسوريا سيتابع طريقه نحو مدينة التنف حيث القاعدة الأمريكية الرئيسية، التى تشكل الداعم الرئيسى للدولة الكردية التى تستهدف الولاياتالمتحدة وإسرائيل إقامتها على البقية الباقية من الأراضى السورية، وستضم دير الزور والبوكمال إلى الحسكة، وهى المناطق السورية ذات الموارد الطبيعية والزراعية والنفطية فى البلاد. وما سيتبقى بعد ذلك سيكون الأشلاء المتبقية من الأراضى وحطام كيان الجمهورية العربية السورية، التى ستكون كيانًا هزيلا مطوقا من حلفاء الكيان الصهيونى الذين يشاركونه مخططاته ومشروعاته غير مدركين خطورة وتداعيات انسياقهم فيها. أستاذ ومستشار الاقتصاد الدولى واللوجيستيات