نافذة سردية جريئة، تفتحها الكاتبة وئام أبوشادى على عالم هش ومأزوم، فى مجموعتها القصصية «أقفل المحضر فى ساعته وتاريخه»، حيث تتقاطع مصائر أبطال قصصها بين الاختيار القاسى والإجبار القدرى. ما تكتبه أبوشادى ليس مجرد حكايات عابرة، بل هو أقرب إلى وثائق إنسانية ترصد تفاصيل واقع مأزوم، وتكشف عن عمق القهر المتجذر فى النفوس، فتمنحنا نصوصا تنبض بالصدق، لكنها لا تتنازل عن جماليات اللغة وتماسك البنية السردية. المجموعة، الصادرة عن مؤسسة «غايا للنشر»، تتكون من اثنتى عشرة قصة قصيرة، جميعها مستوحاة من وقائع يكللها خيال روائى. ومع أن النصوص مكتوبة بضمير المتكلم على لسان الأبطال، وهو اختيار فنى موفق، فإن الأسلوب لا يقتصر على تأكيد القرب النفسى من الشخصيات، بل يُضفى على السرد بُعدًا اعترافيًا يُشعر القارئ أنه لا يطالع قصة بقدر ما يستمع إلى اعتراف خافت من قلبٍ مثقلٍ بالوجع. تبدو أبوشادى فى هذه المجموعة ككاتبة تؤمن بأن دور المثقف لا يتوقف عند حدود التنديد، بل يجب أن يلامس الأرض التى يسير عليها الناس، ويغوص فى معاناتهم اليومية دون مواربة. إنها لا تتبنى خطابًا أخلاقيًا فحسب، بل تنبش فى المستنقع الأخلاقى الذى تعفّ عنه الكثير من الأقلام. فهى لا تكتفى بكشف الخلل، بل تسعى إلى تفكيكه، ورؤية جذوره، فى مجتمع يتدهور أخلاقيًا واجتماعيًا، ما يجعل قصصها مرآة حقيقية لعطب الذات الإنسانية. تنوع القصص يتجلى فى تعدد التيمات والشخصيات، من قصة «أربعة جدران» التى تسلط الضوء على الفقر المدقع من خلال شخصية رحيم الذى يفكر ببيع كليته، إلى قصة «امرأة عادية» التى تتخذ من ثورة يناير خلفية لانهيار العلاقات الإنسانية، دون انزلاق إلى خطاب سياسى مباشر. الشخصيات هنا ليست رموزًا جامدة، بل كائنات تمزج بين الضحية والجلاد، ويصعب فصل الخير عن الشر فيها، كما فى شخصية بثينة التى تجسد ازدواجية المجتمع فى معاملة النساء. لغة المجموعة ثرية بالمجاز والاستعارات، وهى من أبرز سمات أسلوب أبوشادى، الذى تجلى فى أعمال لها سابقة فالثراء البلاغى، لا يُثقل بعض النصوص أو يشتت التركيز على الحدث، والقصص بها تنوع لا يخل بالتماسك الفنى، حيث نلمس بنية سردية مشدودة تنتهى بمفارقات ذكية، وأخرى بخاتمة مفتوحة تترك القارئ وسط احتمالات مفتوحة مشوقة. إحدى أبرز خصائص المجموعة هى قدرتها على تحويل التفاصيل اليومية إلى عناصر فاعلة داخل السرد. الجدران المتشققة، القهوة الرديئة، الأصوات الصاخبة فى الأزقة، ليست مجرد خلفية للمشهد، بل شخصيات موازية تروى سيرة المكان بما فيه من حزن وخراب. وصف حارة «النواوى» مثلًا يُظهر مهارة الكاتبة فى تصوير بيئة خانقة: «ناس هنا كالظلال... ضحكهم المرّ لا لون له»، وهو تعبير شعرى محمّل بالدلالات. المرأة تحتل مركزًا واضحًا فى هذه النصوص، ليس فقط بوصفها ضحية، بل باعتبارها صانعة مصير، قادرة على التمرد أو الانكسار، لكنها لا تفقد جوهرها الإنسانى. فى «صك براءة»، الأم التى تتسول بعدما اُتهمت زورًا، ترفض السقوط رغم القسوة. وفى «امرأة عادية»، تبين بثينة كيف يُحاصر الجسد الأنثوى فى تقاطع العادات والخيانة. لا تعفى الكاتبة نساءها من الأخطاء، بل تجسدهن بكامل تعقيداتهن النفسية والاجتماعية. تتقاطع القصص فى شجاعة الطرح وتعدد تقنياته، أبرزها استخدام تيار الوعى، الذى يُمكّن القارئ من الغوص فى دوامة التناقضات الداخلية للشخصيات، ورغم ما تنطوى عليه المجموعة من أحداث جسام، لا تغيب اللغة الشعرية التى تضىء النصوص وتمنحها روحًا خاصة. الاستعارات التى تصف الدموع ب«شلالات نياجرا»، أو الذاكرة ب«بالون يطفو فى ليلة العيد»، تمنح القارئ لحظات جمالية وسط العتمة، وتحوّل الألم إلى نوع من الفن المقاوم. يدرك القارئ أن «أقفل المحضر فى ساعته وتاريخه» ليست مجرد مجموعة قصصية، بل شهادة مؤلمة عن زمن التصدع الداخلى. نصوصها لا تقدم إجابات، ولا تسعى إلى حلول جاهزة، بل تواجه القارئ بعنف الواقع، وتدعوه إلى التأمل فى هشاشته، من دون أن تنزع عنه كرامته. هى كتابة تصرخ من الداخل، وتقول رغم كل شىء: ما زال هناك من يكتب ليشهد أننا مررنا من هنا.