نعيش ثقافة تقدس الماضى وكل ما تم الاتفاق عليه - الفن ينطلق من المأزق الوجودى للإنسان أحب اختبار الأدب التجارى فى سياق من الأفكار الكبرى «ماكيت القاهرة» رواية طارق إمام الصادرة عن دار المتوسط، العام الماضى، والتى وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية أخيرا، تستدعى قراءتها عدة تأويلات فى ظل قراءة معقولة للرواية من القارئ العربى وليس المصرى فقط. تحرك الكاتب طارق إمام فى متن هذه الرواية بحرية من خلال موقعيه ككاتب وناقد على حد سواء، وطرح جميع أسئلته تجاه تجربة الوجود، أو تجربة الفن، أو تجربة الحرية..! وفى حواره ل«الشروق» يناقش بعضا من أسئلته ربما بطرح مزيدا من الأسئلة..! * اختيارك لشخصيات الرواية بصفتهم جميعا فنانين، وكذلك اختيار المنهج وموضوع الصراع، تعد مواقف واضحة وممارسة واعية.. هل توافق على هذا؟ نعم أوافق.. كون الفن موضوعا للفن فى نصوصى هذا هاجسى وأمارسه بوعيٍ تام.. سؤال كيف يرى الفن نفسه سؤال جوهرى فى فنى أيضا؛ لأنى لا أرى النص منبتا عن مجمل سياقاته.. الفن موضوع للفن؛ لذلك اختيار أبطالى كفنانين استمرار لخط موجود بمشروعى الروائى. * أبطال هذه الرواية كان الوجود بالنسبة لهم محنة، فما موقفك من الوجود؟ هو نفس موقفهم.. إذ إن الفن فى تصورى ينطلق من مأزق الإنسان الوجودى، وإذا انتفى هذا المأزق أعتقد ألا يكون هناك فن.. ويتضمن مأزق الإنسان من الوجود أسئلة الموت و الشيخوخة، الوحدة، التغيير، المقاومة، السلطة.. حتى الأسئلة التى قد تبدو لحظية مثل علاقة الفرد بالسلطة.. ثورة يناير مثلا فى الرواية هى لحظة تاريخية ولكن بالتأكيد لها علاقة بالوجود.. فكل سؤال آنى هو جزء من سؤال أكبر وهذا الذى أحبه فى الفن أنه يأخذ مجمل الأسئلة التى يحياها الإنسان.. وعلاقة الإنسان بالمدينة سؤال آخر وجودى باعتبار المدينة تمثيلا للوجود. * وما هو موقفك من المدينة.. هل هو الصدمة كما يصطدم أبطال الماكيت فى كل مواجهة لهم مع وجه المدينة؟ من الأشياء التى أردت أن أهبها لهذه الرواية، فكرة صدمة الفرد فى مواجهة المدينة.. وهى ليست صدمة القروى النازح ولكن صدمة ابن المدينة الذى يطالعها كل يوم فتعيد تعريف نفسها وتغيير وجهها وتجبره على تعريف ذاته.. فى محاولة لإعادة تأويل ما استقر عليه الأدب الواقعى الكلاسيكى أن الصدمة سببها النزوح من الريف أو الحارة أو مدينة أصغر. وهنا أعود لفكرة البطل الفنان، الذى يكون اغترابه أعمق من الاغتراب المكانى.. فهو طوال الوقت مغترب عن سياق لا يتبنى أفكاره ومغترب عن القطيع.. فقد يمكنه الرسم على الجدار ولكن كل سلطات المدينة لا السياسية وحدها تصدمه بحكمها على هذا الفن.. وتفعل المدينة بالفرد شيئين متناقضين؛ فهى التى تمنح قاطنيها صفة الفردية، أنت فى المدينة حر وتستطيع ممارسة حريتك التى تميزك عن المجموع.. ولكن فى نفس الوقت وعندما تكون مدينة عربية فى عالم ثالث وفى سياق قمعى أو.. أو.. فبقدر ما تمنحك هذه الفردية بيد تنزعها باليد الأخرى.. لأن قانون المدينة سارٍ على الجميع.. ثم أى مدينة أصلا؟ فبداخل القاهرة مجموعة من المدن المتفاوتة، هناك مناطق ريفية وأخرى عشوائية ومناطق تنتمى للقاهرة الارستقراطية وأخرى للطبقة المتوسطة و.. و... وداخل النص أسأل لماذا نبحث عن الانسجام فى مدينة هى متخيلة أصلا بينما المدينة الحقيقية نفسها تعانى عدم الانسجام! *ممكن أسأل عن علاقتك بالفيزياء؟ ليست لدى أية علاقة أبدا بما يخص الفيزياء.. وقد سئلت هذه الأسئلة من بعض أساتذة الفيزياء فعلا بعد قراءتهم للرواية. * هل من الممكن أن تصل لمعرفة دقيقة ومحكمة إلى هذا الحد بتخصص دقيق ومعقد كهذا بفطرية؟ فطرية تماما.. أنا لم أكن طالبا جيدا بالعلوم ولا قارئا مهتما بهذه السياقات نهائيا.. وقد يثبت هذا أن الخيال والعلم يلتقيان معا فى نقطة وقد يبدآن من نفس السؤال «ماذا لو» غير أن أحدهما يصل لمعرفة إنسانية والآخر إلى حقيقة تجريبية. لكن ما يمكننى قوله ولأكن محددا أنه حتى وأثناء تخيلى لهذه العوالم الموازية من الضرورى أن أخلق لها قانونا روائيا يحكمها.. الخيال داخل الرواية لابد أن يؤسس له ويبرر وفق قانون داخل الرواية، قانون فنى يجعل ما لا يمكن تصديقه خارج النص قابل للتصديق! * أبحث عن مصدر الصورة فى حياتك ومادة هذا الكم المهول من الصور فى نصك؟ حتى إن أبطال الرواية كلهم فنانون بصريون!! لا أستطيع كتابة نص بدون وجود كود بصرى فى ذهنى.. لا أعرف أن أكتب دون رؤية.. وأحب المشهدية.. أمزج بين التلخيصى والمشهدى ودائما المشهدى أهم.. كما أننى مولع بالفن التشكيلى، والرافد الأساسى لى ككاتب هو بصرى.. أنا متفرج شغوف جدا..! * فى هذه الرواية جميع الشخصيات قتلة وقتلى فى آن معا! فماذا يعنى القتل هنا؟ القتل بالنسبة لى هو الشكل الأفدح لتعبير الإنسان عن مناطحته للإله. أن يقرر شخص تجريد آخر من روحه أو حتى تجريد نفسه من هذه الروح.. هو تعبير فادح عن التعبير والتغيير باليد.. خاصة وأن من يقتل يعرف أن مصيره للقتل أيضا. فى هدوء القتلة مثلا كان قتلا وفق العقيدة.. فى طعم النوم تقتل البطلة الرجال فقط.. فى كل مرة للقتل معنى مختلف.. أما هنا فى الماكيت فقتل الأب له منطق فكرى، قتل السلطة وما يتعلق بالثورة فالمعنى ينسحب للسلطة السياسية.. أنا فقط تخيلت أن طفلا يصوب يده تجاه أبيه وهو لا يملك رصاصة وهذا أيضا ما حدث فى يناير، أنها أسقطت سلطة بالتواصل الافتراضى.. انها كرصاصة أوريجا الافتراضية. وبالنسبة لى للقتل جانب لن أخفيه، أحب الجانب البوليسى فى الحكاية، أحب توظيف أدب الجريمة ليس بمنطقه التجارى الرخيص أو الشعبى ولكن بمزجه مع أشكال أخرى من أدب النخبة الرفيع ذى الأفكار الفلسفية.. أحب فكرة التهجين وأرفض نقاء الأدب وأرى دائما إمكانية للتهجين والتجريب. ستجدى لدى فنون مثل الكوميكس أو الجرافيتى وهى فنون تواصل وسريعة الزوال.. أحب أن أختبرها فى سياق من الأفكار الكبرى. * يمتلئ النص بالأسئلة الكبرى.. وربما جمع أسئلة نظريات الأدب كلها أو يكاد.. هل تداخل موقعك ككاتب وموقعك كناقد فى خطابات الشخصيات؟ لا، لا أعتقد ذلك. * إذن فكيف تسمح خلفيات الشخصيات المشوهة بطرح أسئلة نظريات الفن.. ما الذى يدفعهم للبحث فى الماهيات أصلا؟ طبيعتهم كفنانين تبرر كل ذلك.. علاقة الشخصيات بمقولاتها مبررة بخلفياتها الثقافية.. وقد أسست لذلك بحضورهم لبعض الورش الفنية؛ فهم مثل فنانين وسط البلد الذين يقرأون هذه الكتب ويحاولون طرح اسئلتها.. أما درجة علاقة الشخصية بخطابها فهذا موضوع آخر. كما أن هناك تيارا عالميا فى الكتابة (الرواية النظرية) يطرح أسئلة النقد والأفكار المجردة دون تذويبها فى المتن ومن هنا تأتى فكرة (الميتافيكشن) لأنها تقوم أصلا على تعرية التقنية داخل النصوص وطرح الأفكار مباشرة. * هذه الرواية متخمة بالأسئلة والتشكيك.. التفكيك والهدم، تصورت فى البداية أن الغاية هى الهدم من أجل إعادة البناء وفق منطق جديد.. إلا أنه وكلما وصلنا إلى مقولة يقينية يتم نسفها من جديد بالمزيد من الأسئلة.. فما هى غاية الأسئلة مادامت لا توصل إلى معرفة؟ هذا ما قصدته تماما.. النضال من أجل الوصول إلى جملة يقينية وفور أن تسطع هذه الفكرة يتم تقويضها تماما.. المحو بنفس معول البناء.. بداية من المدينة وصولا إلى الأفكار لأن هذا هو الشكل الوحيد لخلق صيرورة مع الأفكار. أحد أسئلة الرواية هو مساءلة الثقافة، نحن نعيش ثقافة تقدس الماضى، تقدس التاريخ، تقدس كل ما تم الاتفاق عليه.. وكل محاولة لمجادلة مقولة مستقرة يصبح تجديف مضاد.. ولذلك البنية الدائرية التى ذكرتيها ليست مجرد شكل فنى إنما تأكيد على فكرة أن الزمن العربى أو المصرى هو دائرى، كل نقطة فيه هى نقطة البداية وكل نقطة فيه هى نقطة النهاية.. نحن لا نتعامل مع الزمن الخطى لأنه تراكمى ومبنى على الافتراض ومن ثم يوصل للتقدم.. بينما نحن نعيد إنتاج أزمنتنا القديمة.. نعيد تدوير الزمن فعليا.. الرواية مستندة على فعل التغيير، هل نمارس فعلا فعل التغيير؟ هل يمارسه الفن؟ أم أننا أسرى؟ وحين نهرب من سلطات المدينة ونلجأ للفن نعثر على سلطة جديدة هى السلطة الجمالية.. لهذا لا فارق بين كل السلطات.. ونضال الإنسان من أجل حريته يكشف له فى النهاية أنه كان يكرس للسجن الذى حُبس فيه! * ماكيت القاهرة رواية حادة وخالية من الألفة.. انهزامية تعبر عن الغربة وآخرية الذات، أسأل عن إمكانية إقامة تصالح بين فضاء المدينة وفضاء الذات؟ هذا أيضا أحد أسئلة الرواية، من يصنع الآخر.. هل الشخص هو من يصنع المكان؟ نعم بالطبع.. وهل المدينة هى من تصنع الإنسان بداخلها؟ نعم أيضا.. هذا الجدل، لكن من يهزم الآخر؟! انتبهى أن المدينة أيضا نص.. فواقع المدينة شوارع مخططة ومعمار و.. و.. كل شىء فى المدينة هو عنصر أو علامة تكون نصا. والرواية حين تكتب المدينة هى نص يكتب نصا. هل هو صراع أصلا؟ هل ترغب المدينة فى خلق فرد وترغب فى أن تنهيه؟ للمدينة غرورها وكبرياؤها وللفرد أيضا.. هل أغير القاهرة حين أرسم على الجدران أو حين أكتب عنها رواية؟.. لكن القاهرة أيضا تفرض على شروطها حين تغير قوانينها وأصبح أنا نفسى مغترب و لا أستطيع الدفاع عن نفسى ليس فقط أمام ضابط الشرطة أو إمام المسجد و إنما أيضا أمام المواطنين الشرفاء..! سؤال عميق ويسيطر على فى كل رواياتى وحتى فى حياتي!