أحمد حمدي: لدي الثقة في الوصول لنهائي الكونفدرالية.. ودريمز منظم    مؤتمر كولر - هل يعود الشناوي في النهائي أمام الترجي    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    قبل عودة البنوك غدا.. سعر الدولار الأمريكي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 27 إبريل 2024    مصر ستحصل على 2.4 مليار دولار في غضون 5 أشهر.. تفاصيل    صندوق النقد: مصر ستتلقى نحو 14 مليار دولار من صفقة رأس الحكمة بنهاية أبريل    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    بالصور.. رفع المخلفات والقمامة بعدد من شوارع العمرانية    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    جماعة الحوثي تعلن إسقاط مسيرة أمريكية في أجواء محافظة صعدة    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل    شهداء وجرحى جراء قصف طائرات الاحتلال منزل في مخيم النصيرات وسط غزة    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    قطر تصدر تنبيها عاجلا للقطريين الراغبين في دخول مصر    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    بسبب سوء الأحوال الجوية.. قرار هام حول موعد الامتحانات بجامعة جنوب الوادي    ننشر المؤشرات الأولية لانتخابات التجديد النصفي بنقابة أطباء الأسنان في القليوبية    تصرف غير رياضي، شاهد ماذا فعل عمرو السولية مع زملائه بعد استبداله أمام مازيمبي    فاز ذهابًا وإيابًا.. الترجي يكرر تفوقه على صنداونز ويضرب موعدًا مع الأهلي في النهائي (فيديو)    موعد مباراة الأهلي المقبلة بعد التأهل لنهائي دوري أبطال أفريقيا    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    عبد القادر: تأهلنا للنهائي بجدارة.. واعتدنا على أجواء اللعب في رادس    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    السيطرة على حريق في منزل بمدينة فرشوط في قنا    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    تعرض للشطر نصفين بالطول.. والدة ضحية سرقة الأعضاء بشبرا تفجر مفاجأة لأول مرة    تعطيل الدراسة وغلق طرق.. خسائر الطقس السيئ في قنا خلال 24 ساعة    الأمن العام يكشف غموض 14 واقعة سرقة ويضبط 10 متهمين بالمحافظات    برازيلية تتلقى صدمة بعد شرائها هاتفي آيفون مصنوعين من الطين.. أغرب قصة احتيال    %90 من الإنترنت بالعالم.. مفاجأة عن «الدارك ويب» المتهم في قضية طفل شبرا الخيمة (فيديو)    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    دينا فؤاد: تكريم الرئيس عن دوري بمسلسل "الاختيار" أجمل لحظات حياتي وأرفض المشاهد "الفجة" لأني سيدة مصرية وعندي بنت    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    علي الطيب: مسلسل مليحة أحدث حالة من القلق في إسرائيل    طريقة عمل كريب فاهيتا فراخ زي المحلات.. خطوات بسيطة ومذاق شهي    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    بلاغ يصل للشرطة الأمريكية بوجود كائن فضائي بأحد المنازل    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    ناهد السباعي تحتفل بعيد ميلاد والدتها الراحلة    سميرة أحمد: رشحوني قبل سهير البابلي لمدرسة المشاغبين    أخبار الفن| تامر حسني يعتذر ل بدرية طلبة.. انهيار ميار الببلاوي    البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة "باتريوت" متاحة الآن لتسليمها إلى أوكرانيا    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    أسعار النفط ترتفع عند التسوية وتنهي سلسلة خسائر استمرت أسبوعين    الصحة تكشف خطة تطوير مستشفيات محافظة البحيرة    فصل طالبة مريضة بالسرطان| أول تعليق من جامعة حلوان.. القصة الكاملة    العمل في أسبوع.. حملات لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية.. والإعداد لإطلاق الاستراتيجية الوطنية للتشغيل    الكشف الطبي بالمجان على 1058 مواطنا في دمياط    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إريك إيمانويل شميت: الشرّ والخير يصنعان الإنسان
نشر في صوت البلد يوم 25 - 02 - 2018

قد يجهل القارئ العربي اسم الكاتب الفرنسي إريك إيمانويل شميت، ولكن ما إن تذكر اسم روايته الشهيرة «ميسيو إبراهيم وزهور القرآن» حتى يستفيض حديثاً عن كتابٍ تُرجم إلى العربية ولغات عالمية كثيرة، قبل أن يستحيل فيلماً بديعاً من بطولة عمر الشريف. هو أيضاً صاحب «الجانب الآخر»، الرواية التي أثارت سجالاً عالمياً بعدما قدّمت للمرة الأولى شخصية هيلتر بصورة مغايرة عما عهدناه في الكتب والأفلام، متناولاً هذه الظاهرة الديكتاتورية بأسلوب يمزج بين التخييل الإبداعي والتحليل النفسي.
وفي إطار زيارته الأخيرة بيروت، التقت «الحياة» شميت، الروائي والمسرحي وأستاذ الفلسفة، للحديث عن مجموعته القصصية الجديدة «انتقام الغفران» (Albin Michel) وعن دوره في لجنة تحكيم جائزة «غونكور»، إضافة إلى موضوعات أدبية وفنية أخرى...

- لنبدأ من كتابك الأحدث «انتقام الغفران»... إنه يعرض أربع قصص تتأرجح بين تيمتي «العفو» و «الانتقام» من خلال أربعة مصائر لشخصياتٍ عاشت مصادفات كثيرة نتيجة تحولات قدرية غير مفهومة في معظم الأحيان. ومن يقرأ المجموعة لا بدّ أن يسترجع ثنائية العفو والانتقام التي طغت على النصوص الدينية. فهل تقصّدت مقاربة الموضوع من سياقه الروحاني إم أنك فضّلت تقديم فكرة العفو ونقيضها في بعدها الفلسفي؟
فكرة الغفران ونقيضها موجودة أولاً في النصّ الديني، لذا يصعب علينا إخراجها من سياقها الروحاني. لكنّ الأمر تطّور صارت ثنائية الغفران الانتقام مادة فلسفية في القرن الثامن عشر مع كانط، لتتطور مع فلاسفة آخرين في القرون التالية. وبالنسبة إليّ، أظنّ أنّ الإنسان - بمعزل عن قناعاته الدينية أو الفلسفية - عليه أن يطرح على نفسه أسئلة قد تمنح الأشياء معانيها في هذه الحياة الغريبة. القصص قد تُقرأ بأسلوبين، لكنّها - على اختلاف تفاصيلها - تقدّم فكرة «الفداء» بالطريقة ذاتها تقريباً، وهي من التيمات الراسخة في النص الديني طبعاً. لكنني تناولت مسألة الفداء تحليلياً نفسياً: كيفية تلقّي التجربة، قرار التحوّل، تصويب الذات.
ولكن، هل ننجح فعلاً في أن نتغيّر؟ هذا السؤال يحضر طبعاً، إضافة إلى أسئلة أخرى مثل: هل نحن ضحايا أنفسنا؟ ضحايا الآخرين؟ أم ضحايا القدر ومفاجآته؟ إنها أسئلة وجودية تعزّزها التأملات الروحانية مثلما تعززها القراءات الفلسفية. الإنسان نفسه هو المعضلة. هل يعفو أم ينتقم؟ هذا ما يُطالعنا إزاء قراءة القصص الأربع التي تقدّم شخصيات تتعرّض لمواقف عبثية، قدرية، لا يد لها فيها إلّا أنها تدفعها إلى أن تعيد النظر في وجودها وأفكارها لتُحقق أخيراً لحظة وعيها. لكي تتغيّر وتتطوّر.
- تحكي القصة الأولى من المجموعة عن شقيقتين توأمين تجمعهما علاقة عجيبة تختلط فيها مشاعر الأخوة والحب والارتباط بمشاعر نقيضة مثل الغيرة والكره والجفاء... هل أردت أن تكون هذه القصة «الحديثة» صدًى لقصة هابيل وقابيل المعروفة؟
نعم، أحبّ دائماً العودة إلى الحكايات الموروثة والأساطير، أكانت حاضرة في النصوص المقدسة أو في القصص الإغريقية القديمة، ثم أعمل على تقديمها في سياق راهن. لقد أقحمت فعلاً قصة هابيل وقابيل في قصة التوأمين، بطريقة خفية، لأنني أحبّ أن أعود إلى الموضوعات التي تناولتها الأديان قديماً، ومن ثم أعلمنها وأضعها في سياقها الواقعي الحدثاوي الراهن. قصة الشقيقتين هذه تحوي درساً من المهم أن نلتفت إليه جميعاً، وهو أنّ مشاعر الحبّ والبغض لا تقتصر فقط على علاقتنا بالغرباء، بل إنّ الإخوة أيضاً يحدث بينهم كره وقطيعة وانتقام. هذا الموضوع ليس آنياً، بل إنه أزلي. وإن دققنا في المسألة هذه فسنفهم الطبيعة البشرية أكثر، ولربما سنرى إلى الآخر بعينٍ أكثر رأفة ورحمة.
من يتأمّل هذا العالم، منذ وجوده إلى اليوم، يتأكّد أنّ المشكلة ليست في الأيديولوجيا وإنما في علاقة الإنسان مع هذه الأيديولوجيا، وليست في الدين وإنما في علاقة الإنسان مع الأديان. في داخل كلّ منّا وحش نسجنه في قفص حتى لا يخرج منّا وينتبه الآخر إلى عدوانيتنا، ولكن يحدث أحياناً أن يُحرّر بعضهم الوحش الكامن داخله فيقتل ويُرهّب ويُعنّف.
- من يتابع مسيرتك الإبداعية يرى أنّك تسعى إلى تصحيح مفهومنا عن الآخر. وهذا ما برز في مجموعتك القصصية الجديدة تماماً كما في أعمال سابقة مثل «ميسيو إبراهيم وزهور القرآن» أو في «الجانب الآخر». هل تعتقد أنّ الأدب قادر على إحداث تغيير ما في زمن تتفاقم فيه آفات الكره والتعصّب والخوف من الآخر؟
انطلاقاً من التزامي الأدبي، أحاول دائماً في كل عمل أقدمه أنّ أحمّل القارئ مسؤولية ما. أسعى إلى أن أكشف له زاوية قد لا يكون التفت إليها سابقاً. الآخر جزء منّا. وجود «الأنا» يرتبط بوجود «الآخر». وما نخاف منه لدى الآخر ربما يكون داخلنا من دون أن ندرك ذلك. نتعامل مع الآخر أحياناً بالطريقة نفسها التي تعاطى فيها الفتى اليهودي موييس (موسى) مع الشيخ العربي المسلم إبراهيم، قبل أن تولد بينهما صداقة قوية تجعله يكتشف أنّ ما سمعه من أبيه عن المسلمين لا ينطبق بتاتاً على السيّد الطيّب إبراهيم. الرواية لم تكن دعوة «فولكلورية» إلى الحب والتسامح، وإنما حثّ الناس على ضرورة التخلّص من الأحكام المسبقة والاستفادة من تجاربنا بغية تحقيق التحوّل الجذري.
- هل أنت من اختار عمر الشريف لأداء شخصية السيد إبراهيم؟ كيف وجدته؟ وهل كان كما تخيلته أثناء كتابتك الرواية؟
عمر الشريف كان اختيارنا الأول وسعدنا جميعاً عندما وافق على الدور. هو شخص أكثر من رائع، إنسانياً وفنياً. أحببته كثيراً في الدور كما أحبّه العالم كلّه. منح دور إبراهيم بعداً وجدانياً رهيباً. كان لي فرصة أن أتعرف إليه عن كثب قبل رحيله، وكنّا على اتصال دائم، فوجدته شخصية مبهرة في الواقع كما في الأفلام. وما زلت أذكر فرحة أمي حين علمت أن عمر الشريف سيمثّل في فيلم مقتبس عن روايتي، يومذاك فقط اعتبرتني كاتباً ناجحاً، على رغم كل الأعمال التي كتبتها والجوائز التي حصدتها.
- بالعودة إلى رواياتك، قدمت في «الجانب الآخر» صورة مزدوجة عن شخصية هتلر. بعضهم وجد في هذه المقاربة الجديدة تبريراً لعنف زعيم النازية الأشهر، ما عرّضك لهجوم عنيف من بعض القرّاء، لا سيما اليهود. ولكن، ما كان هدفك من وراء هذا العمل؟
نعم، هي صورة مزدوجة عن ظاهرة وضعت دائماً في إطار واحد. قدمت الصورة الحقيقية والمتخيلة عن هتلر. في الأولى، عرضت مسيرة أدولف الذي ترك كلية الفنون وأصبح ديكتاتوراً نازياً، وفي الثانية جعلته يدخل كلية الفنون وينجح في دراسته فيها ليصير فناناً يهتم بالجمال والإبداع بدلاً من الكره والقتل. ولم يكن قصدي تبرير سلوكاته الديكتاتورية الرهيبة، وإنما أحببت تقديم تفسيرات أخرى للواقع، أو ربما تخيّل ما كان يمكن حدوثه لو تغيّرت الظروف المحيطة. وفي هذا العمل، ثمة رفض للأفكار المطلقة وبحث عميق في الداخل الإنساني المنقسم بين خيرٍ وشرّ. هذه الفلسفة تجعلنا أكثر تقبلاً للآخر ومسامحة له. الالتزام هو أن نضع القراء أمام مسؤولية تتلخّص في دراسة جميع الاحتمالات. أصدقائي اليهود رفضوا مقاربتي للموضوع نهائياً، وهناك قرّاء في ألمانيا ممن ينتمون إلى الجيل الذي عايش ويلات النازية وحروبها لم يتقبلوا الكتاب أيضاً. لكنّ الرواية لاقت إعجاب الجيل الجديد في ألمانيا وفي أوروبا، وحقق العمل انتشاراً واسعاً حول العالم لأنه قدّم كتابة جديدة ومختلفة، خارج الكتابات الجامدة كلّها حول ظاهرة هتلر وحقبته الزمنية.
- شاركت هذا العام عضواً في لجنة تحكيم الجائزة الفرنسية الأعرق «غونكور»، وفازت فيها رواية إريك فوييار التي تعود حوادثها إلى زمن الحرب العالمية الثانية. كيف وجدتها؟ وكيف تفسّر فوز رواية أخرى تتحدث عن الحقبة ذاتها «بجائزة رونودو»؟
قبل أن أجيبك، أحب أن أبيّن لك أنّ ما قدّمته في «الجانب الآخر» هو الطريقة العكسية لما قدمه فوييار في روايته الفائزة وعنوانها «جدول الأعمال». لقد اعتمدت مقاربة نفسية لموضوعي، بينما اهتم هو بالحوادث والمشاهد أكثر من الشخصيات، وهذا إن دلّ فعلى تباين الأساليب والطرائق بين الروائيين، وإن تناولوا الشخصيات أو الحقبات ذاتها.
«جدول الأعمال» التي حصدت «غونكور» تختلف أيضاً عن رواية أوليفيه غيز «اختفاء جوزف منغيليه» الفائزة بجائزة «رونودو». أراد بعضهم تبرير الأمر وتسييسه لكنها كانت مصادفة بحتاً. الروايتان جميلتان وتأخذان من الحرب العالمية الثانية إطاراً أساسياً للحوادث، لكنّ أجواءهما مختلفة تماماً. «جدول الأعمال» كتاب عن سلطة الأثرياء، عن القوة والمال ولعبة المصالح. تقتفي حكاية الصناعيين الألمان الكبار ممن عاشوا تحولات جذرية خلال الحرب. أمّا رواية غيز فتحكي القصة الحقيقية لهروب الطبيب النازي الذي وصل إلى الأرجنتين عام 1949 واختبأ خلف أسماء مستعارة كثيرة، معتقداً أن في إمكانه صنع حياة جديدة له في بوينس آيرس، لكنّه يظلّ ملاحقاً فيترك الأرجنتين، منتقلا إلى الباراغواي ومنها إلى البرازيل، متنكرا وقلقاً إلى أن يتم العثور عليه ميتاً في ظروفٍ غامضة على شاطئ عام 1979. هي رواية عن المطاردة وعن غياب الشعور بالذنب عند الإنسان المجرم.
- ماذا يعني لك ككاتب أن تكون محكّماً في لجنة غونكور؟
«غونكور» منحتني فرصة العودة إلى متابعة حركة النشر وقراءة الأعمال الروائية الجديدة. فأنا أعترف بأنني لا أقرأ عندما أكون منكباً على الكتابة، كأنني أحب أن أبقى سجيناً داخل عالمي المتخيّل من دون أن تشغلني مخيلات الآخرين. هذا إضافة إلى أنّ الكتابة، كما تعلمين، تسرق الوقت. لهذا، فإنني أكتب في النهار، وأشعر ليلا بأنني مستنزف تماماً وأحتاج إلى سماع الموسيقى فقط كي أحافظ على صفاء ذهني لأكمل عملي في اليوم التالي. وهنا أتذكّر جواب فيكتور هوغو الشهير حين سُئِل عمّا إذا كان يقرأ، فردّ قائلاً: «وهل البقرة تشرب الحليب؟».
وعندما اقتُرح عليّ أن أكون ضمن لجنة غونكور، قلتُ في نفسي أن هذا العمل سيدفعني إلى الخروج من عاداتي وأن أكتشف الكتابات الروائية الجديدة، وبالفعل تفاجأت بحجم المواهب الجديدة، لا سيما الأصوات الفرنكوفونية النسائية التي تكتب بجرأة عن موضوعات مهمة وآنية، وأذكر منها كوثر عضيمي وأليس زينيتير. ولعلّ اهتمام القرّاء بالأدب الفرنكوفوني اليوم ينبع من قوة الكلمة وتأثيرها لكونها تخرج من كتّاب يملكون ثراءً داخلياً نتيجة تنوّع ثقافاتهم وأهمية أسئلتهم حول مفاهيم ما زالت عالقة مثل أزمة الوجود والهوية المزدوجة والتعددية وغيرها.
قد يجهل القارئ العربي اسم الكاتب الفرنسي إريك إيمانويل شميت، ولكن ما إن تذكر اسم روايته الشهيرة «ميسيو إبراهيم وزهور القرآن» حتى يستفيض حديثاً عن كتابٍ تُرجم إلى العربية ولغات عالمية كثيرة، قبل أن يستحيل فيلماً بديعاً من بطولة عمر الشريف. هو أيضاً صاحب «الجانب الآخر»، الرواية التي أثارت سجالاً عالمياً بعدما قدّمت للمرة الأولى شخصية هيلتر بصورة مغايرة عما عهدناه في الكتب والأفلام، متناولاً هذه الظاهرة الديكتاتورية بأسلوب يمزج بين التخييل الإبداعي والتحليل النفسي.
وفي إطار زيارته الأخيرة بيروت، التقت «الحياة» شميت، الروائي والمسرحي وأستاذ الفلسفة، للحديث عن مجموعته القصصية الجديدة «انتقام الغفران» (Albin Michel) وعن دوره في لجنة تحكيم جائزة «غونكور»، إضافة إلى موضوعات أدبية وفنية أخرى...

- لنبدأ من كتابك الأحدث «انتقام الغفران»... إنه يعرض أربع قصص تتأرجح بين تيمتي «العفو» و «الانتقام» من خلال أربعة مصائر لشخصياتٍ عاشت مصادفات كثيرة نتيجة تحولات قدرية غير مفهومة في معظم الأحيان. ومن يقرأ المجموعة لا بدّ أن يسترجع ثنائية العفو والانتقام التي طغت على النصوص الدينية. فهل تقصّدت مقاربة الموضوع من سياقه الروحاني إم أنك فضّلت تقديم فكرة العفو ونقيضها في بعدها الفلسفي؟
فكرة الغفران ونقيضها موجودة أولاً في النصّ الديني، لذا يصعب علينا إخراجها من سياقها الروحاني. لكنّ الأمر تطّور صارت ثنائية الغفران الانتقام مادة فلسفية في القرن الثامن عشر مع كانط، لتتطور مع فلاسفة آخرين في القرون التالية. وبالنسبة إليّ، أظنّ أنّ الإنسان - بمعزل عن قناعاته الدينية أو الفلسفية - عليه أن يطرح على نفسه أسئلة قد تمنح الأشياء معانيها في هذه الحياة الغريبة. القصص قد تُقرأ بأسلوبين، لكنّها - على اختلاف تفاصيلها - تقدّم فكرة «الفداء» بالطريقة ذاتها تقريباً، وهي من التيمات الراسخة في النص الديني طبعاً. لكنني تناولت مسألة الفداء تحليلياً نفسياً: كيفية تلقّي التجربة، قرار التحوّل، تصويب الذات.
ولكن، هل ننجح فعلاً في أن نتغيّر؟ هذا السؤال يحضر طبعاً، إضافة إلى أسئلة أخرى مثل: هل نحن ضحايا أنفسنا؟ ضحايا الآخرين؟ أم ضحايا القدر ومفاجآته؟ إنها أسئلة وجودية تعزّزها التأملات الروحانية مثلما تعززها القراءات الفلسفية. الإنسان نفسه هو المعضلة. هل يعفو أم ينتقم؟ هذا ما يُطالعنا إزاء قراءة القصص الأربع التي تقدّم شخصيات تتعرّض لمواقف عبثية، قدرية، لا يد لها فيها إلّا أنها تدفعها إلى أن تعيد النظر في وجودها وأفكارها لتُحقق أخيراً لحظة وعيها. لكي تتغيّر وتتطوّر.
- تحكي القصة الأولى من المجموعة عن شقيقتين توأمين تجمعهما علاقة عجيبة تختلط فيها مشاعر الأخوة والحب والارتباط بمشاعر نقيضة مثل الغيرة والكره والجفاء... هل أردت أن تكون هذه القصة «الحديثة» صدًى لقصة هابيل وقابيل المعروفة؟
نعم، أحبّ دائماً العودة إلى الحكايات الموروثة والأساطير، أكانت حاضرة في النصوص المقدسة أو في القصص الإغريقية القديمة، ثم أعمل على تقديمها في سياق راهن. لقد أقحمت فعلاً قصة هابيل وقابيل في قصة التوأمين، بطريقة خفية، لأنني أحبّ أن أعود إلى الموضوعات التي تناولتها الأديان قديماً، ومن ثم أعلمنها وأضعها في سياقها الواقعي الحدثاوي الراهن. قصة الشقيقتين هذه تحوي درساً من المهم أن نلتفت إليه جميعاً، وهو أنّ مشاعر الحبّ والبغض لا تقتصر فقط على علاقتنا بالغرباء، بل إنّ الإخوة أيضاً يحدث بينهم كره وقطيعة وانتقام. هذا الموضوع ليس آنياً، بل إنه أزلي. وإن دققنا في المسألة هذه فسنفهم الطبيعة البشرية أكثر، ولربما سنرى إلى الآخر بعينٍ أكثر رأفة ورحمة.
من يتأمّل هذا العالم، منذ وجوده إلى اليوم، يتأكّد أنّ المشكلة ليست في الأيديولوجيا وإنما في علاقة الإنسان مع هذه الأيديولوجيا، وليست في الدين وإنما في علاقة الإنسان مع الأديان. في داخل كلّ منّا وحش نسجنه في قفص حتى لا يخرج منّا وينتبه الآخر إلى عدوانيتنا، ولكن يحدث أحياناً أن يُحرّر بعضهم الوحش الكامن داخله فيقتل ويُرهّب ويُعنّف.
- من يتابع مسيرتك الإبداعية يرى أنّك تسعى إلى تصحيح مفهومنا عن الآخر. وهذا ما برز في مجموعتك القصصية الجديدة تماماً كما في أعمال سابقة مثل «ميسيو إبراهيم وزهور القرآن» أو في «الجانب الآخر». هل تعتقد أنّ الأدب قادر على إحداث تغيير ما في زمن تتفاقم فيه آفات الكره والتعصّب والخوف من الآخر؟
انطلاقاً من التزامي الأدبي، أحاول دائماً في كل عمل أقدمه أنّ أحمّل القارئ مسؤولية ما. أسعى إلى أن أكشف له زاوية قد لا يكون التفت إليها سابقاً. الآخر جزء منّا. وجود «الأنا» يرتبط بوجود «الآخر». وما نخاف منه لدى الآخر ربما يكون داخلنا من دون أن ندرك ذلك. نتعامل مع الآخر أحياناً بالطريقة نفسها التي تعاطى فيها الفتى اليهودي موييس (موسى) مع الشيخ العربي المسلم إبراهيم، قبل أن تولد بينهما صداقة قوية تجعله يكتشف أنّ ما سمعه من أبيه عن المسلمين لا ينطبق بتاتاً على السيّد الطيّب إبراهيم. الرواية لم تكن دعوة «فولكلورية» إلى الحب والتسامح، وإنما حثّ الناس على ضرورة التخلّص من الأحكام المسبقة والاستفادة من تجاربنا بغية تحقيق التحوّل الجذري.
- هل أنت من اختار عمر الشريف لأداء شخصية السيد إبراهيم؟ كيف وجدته؟ وهل كان كما تخيلته أثناء كتابتك الرواية؟
عمر الشريف كان اختيارنا الأول وسعدنا جميعاً عندما وافق على الدور. هو شخص أكثر من رائع، إنسانياً وفنياً. أحببته كثيراً في الدور كما أحبّه العالم كلّه. منح دور إبراهيم بعداً وجدانياً رهيباً. كان لي فرصة أن أتعرف إليه عن كثب قبل رحيله، وكنّا على اتصال دائم، فوجدته شخصية مبهرة في الواقع كما في الأفلام. وما زلت أذكر فرحة أمي حين علمت أن عمر الشريف سيمثّل في فيلم مقتبس عن روايتي، يومذاك فقط اعتبرتني كاتباً ناجحاً، على رغم كل الأعمال التي كتبتها والجوائز التي حصدتها.
- بالعودة إلى رواياتك، قدمت في «الجانب الآخر» صورة مزدوجة عن شخصية هتلر. بعضهم وجد في هذه المقاربة الجديدة تبريراً لعنف زعيم النازية الأشهر، ما عرّضك لهجوم عنيف من بعض القرّاء، لا سيما اليهود. ولكن، ما كان هدفك من وراء هذا العمل؟
نعم، هي صورة مزدوجة عن ظاهرة وضعت دائماً في إطار واحد. قدمت الصورة الحقيقية والمتخيلة عن هتلر. في الأولى، عرضت مسيرة أدولف الذي ترك كلية الفنون وأصبح ديكتاتوراً نازياً، وفي الثانية جعلته يدخل كلية الفنون وينجح في دراسته فيها ليصير فناناً يهتم بالجمال والإبداع بدلاً من الكره والقتل. ولم يكن قصدي تبرير سلوكاته الديكتاتورية الرهيبة، وإنما أحببت تقديم تفسيرات أخرى للواقع، أو ربما تخيّل ما كان يمكن حدوثه لو تغيّرت الظروف المحيطة. وفي هذا العمل، ثمة رفض للأفكار المطلقة وبحث عميق في الداخل الإنساني المنقسم بين خيرٍ وشرّ. هذه الفلسفة تجعلنا أكثر تقبلاً للآخر ومسامحة له. الالتزام هو أن نضع القراء أمام مسؤولية تتلخّص في دراسة جميع الاحتمالات. أصدقائي اليهود رفضوا مقاربتي للموضوع نهائياً، وهناك قرّاء في ألمانيا ممن ينتمون إلى الجيل الذي عايش ويلات النازية وحروبها لم يتقبلوا الكتاب أيضاً. لكنّ الرواية لاقت إعجاب الجيل الجديد في ألمانيا وفي أوروبا، وحقق العمل انتشاراً واسعاً حول العالم لأنه قدّم كتابة جديدة ومختلفة، خارج الكتابات الجامدة كلّها حول ظاهرة هتلر وحقبته الزمنية.
- شاركت هذا العام عضواً في لجنة تحكيم الجائزة الفرنسية الأعرق «غونكور»، وفازت فيها رواية إريك فوييار التي تعود حوادثها إلى زمن الحرب العالمية الثانية. كيف وجدتها؟ وكيف تفسّر فوز رواية أخرى تتحدث عن الحقبة ذاتها «بجائزة رونودو»؟
قبل أن أجيبك، أحب أن أبيّن لك أنّ ما قدّمته في «الجانب الآخر» هو الطريقة العكسية لما قدمه فوييار في روايته الفائزة وعنوانها «جدول الأعمال». لقد اعتمدت مقاربة نفسية لموضوعي، بينما اهتم هو بالحوادث والمشاهد أكثر من الشخصيات، وهذا إن دلّ فعلى تباين الأساليب والطرائق بين الروائيين، وإن تناولوا الشخصيات أو الحقبات ذاتها.
«جدول الأعمال» التي حصدت «غونكور» تختلف أيضاً عن رواية أوليفيه غيز «اختفاء جوزف منغيليه» الفائزة بجائزة «رونودو». أراد بعضهم تبرير الأمر وتسييسه لكنها كانت مصادفة بحتاً. الروايتان جميلتان وتأخذان من الحرب العالمية الثانية إطاراً أساسياً للحوادث، لكنّ أجواءهما مختلفة تماماً. «جدول الأعمال» كتاب عن سلطة الأثرياء، عن القوة والمال ولعبة المصالح. تقتفي حكاية الصناعيين الألمان الكبار ممن عاشوا تحولات جذرية خلال الحرب. أمّا رواية غيز فتحكي القصة الحقيقية لهروب الطبيب النازي الذي وصل إلى الأرجنتين عام 1949 واختبأ خلف أسماء مستعارة كثيرة، معتقداً أن في إمكانه صنع حياة جديدة له في بوينس آيرس، لكنّه يظلّ ملاحقاً فيترك الأرجنتين، منتقلا إلى الباراغواي ومنها إلى البرازيل، متنكرا وقلقاً إلى أن يتم العثور عليه ميتاً في ظروفٍ غامضة على شاطئ عام 1979. هي رواية عن المطاردة وعن غياب الشعور بالذنب عند الإنسان المجرم.
- ماذا يعني لك ككاتب أن تكون محكّماً في لجنة غونكور؟
«غونكور» منحتني فرصة العودة إلى متابعة حركة النشر وقراءة الأعمال الروائية الجديدة. فأنا أعترف بأنني لا أقرأ عندما أكون منكباً على الكتابة، كأنني أحب أن أبقى سجيناً داخل عالمي المتخيّل من دون أن تشغلني مخيلات الآخرين. هذا إضافة إلى أنّ الكتابة، كما تعلمين، تسرق الوقت. لهذا، فإنني أكتب في النهار، وأشعر ليلا بأنني مستنزف تماماً وأحتاج إلى سماع الموسيقى فقط كي أحافظ على صفاء ذهني لأكمل عملي في اليوم التالي. وهنا أتذكّر جواب فيكتور هوغو الشهير حين سُئِل عمّا إذا كان يقرأ، فردّ قائلاً: «وهل البقرة تشرب الحليب؟».
وعندما اقتُرح عليّ أن أكون ضمن لجنة غونكور، قلتُ في نفسي أن هذا العمل سيدفعني إلى الخروج من عاداتي وأن أكتشف الكتابات الروائية الجديدة، وبالفعل تفاجأت بحجم المواهب الجديدة، لا سيما الأصوات الفرنكوفونية النسائية التي تكتب بجرأة عن موضوعات مهمة وآنية، وأذكر منها كوثر عضيمي وأليس زينيتير. ولعلّ اهتمام القرّاء بالأدب الفرنكوفوني اليوم ينبع من قوة الكلمة وتأثيرها لكونها تخرج من كتّاب يملكون ثراءً داخلياً نتيجة تنوّع ثقافاتهم وأهمية أسئلتهم حول مفاهيم ما زالت عالقة مثل أزمة الوجود والهوية المزدوجة والتعددية وغيرها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.