قصة حب فريدة من نوعها، تدور ما بين الجنة والجحيم، بين الحياة الأولى فى الواقع، والحياة الأخرى المتخيلة، عبر مجموعة من الأسئلة الوجودية الملحة التى احتضنتها رواية الكاتب محمد الفخرانى «أراك فى الجنة» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، وهى العمل التاسع ما بين كتابات الفخرانى للرواية والقصة، صادرة فى 127 صفحة من القطع المتوسط، تأخذك إلى عالم آخر، حيث نوع من الكتابة الذى يبحر بك بعيدا ليحرك مشاعرك وحواسك بأرق شكل ممكن، حول علاقة رومانسية بين آدم وحواء الجديدين، بين ثنايا الكتابة التى احتشدت بروائع الفانتازيا والمعطيات المناسبة لطرح أسئلة فيزيقية عن الجنة والنار والإله وإثبات وجوده. نتراوح فى تلك الرواية بين شخصية «نقار الخشب»، وهو البطل الرافض للأفكار الإيمانية، والمعلمة التى كلما سألها الشاب عن شيء أجابته بكلمة: «تخيل؟»، فمنحتها هذه الكلمة اسمًا لها، لتكون بطلة هذا العمل، هى الفتاة المؤمنة بالإله الخالق المدبر لكل شيء، لنكون بصدد حوار تغذيه اللغة الشاعرية، شيق ومتصل عبر السنوات بين الرجل والمرأة، الصديقان العاشقان عن الإنسان والروح والأفكار، لتمتد علاقتهم الخالدة إلى ما بعد الموت والبعث. لا ينسى بطل الرواية أول لقاء له مع محبوبته المسماه ب«تخيل»، شعر وقتها أنه يجلس مع صديقة يعرفها منذ سنوات، ربما كان هذا الإحساس تحديدًا، وليس الحب، هو ما جعله يطلبها للزواج بعد 14 دقيقة من تعارفهما، نعم، كان الحب موجودًا بطريقة ما، لكن ذلك النوع الغريب المُفاجئ من الصداقة هو ما جذَبَه إليها، تحدَّثا عن الحب، الموسيقى، الناس، الفنون، الكتب، وأشياء صغيرة لم يتحدث أيٌّ منهما عنها من قبل، وأشياء تحدَّثَ كلٌّ منهما عنها من قبل لكن ليس بهذه الطريقة، ورغم أنهما لم يتفقا فى كثير من الأفكار، أو ربما بسبب عدم اتفاقهما، كان حوارهما سهلًا، ممتعًا، وله روح ذكية. البطل يؤمن بالإنسان، ويعتبره «أجمل فكرة فى العالم»، يتقابل مع مُدرِّسة شابة، لها شخصية غير اعتيادية، فيحب كلٌّ منهما الآخر من اللحظة الأولى، يتزوجان خلال أسابيع، ويعيشان فى بيت دَفَعا فيه معًا أكثر من نصف مالهما، لتدور بينهما أسئلة، قصص، وأفكار، عن الإيمان، الإلحاد، الحب، والصداقة، مثلما تدور بينهما مباريات البنج بونج فى حديقة منزلهما، فى الوقت الذى نرى جانبًا من الرواية داخل الجنة والجحيم. «كان فى الجنة أو كانت الجنة فيه، لم يعرف، عندما فتح عينيه وجد نفسه جالسا على الأرض، مستندا بظهره إلى شجرة، بدا له الأمر وكأنه كان نائما واستيقظ، تلفت حوله أشجار، ثمار، طيور، أنهار صغيرة، تبدو له حديقة بلا نهاية، وبعض المارة، الغرباء يبتسمون له، نهض سأل أحدهم، ماهذا المكان، ابتسم الرجل وقال الجنة».. هكذا أورد الفخرانى فى أول فصول تحفته التى يتماهى فيها الزمان والمكان. الفخرانى ينسج خيوط «أراك فى الجنة»، بشكل مزدوج على محورين وزمنين مختلفين، نكتشف أن أحدهما فى «الجنة»، والآخر عالم الواقع الذى يقتصر على بطلين، ومجموعة من الشخصيات الهامشية، حيث ينتقل البطل للجنة والجحيم، حيث ينخرط «نقار الخشب» و«تخيل»، فى طرح الأسئلة الكبرى المعقده فى قالب بسيط على هيئة حوار يورط القارئ فى السؤال والإجابه معا. ثمة طاقة شعرية خفية بين نصوص الرواية حيث تبدو صفحاتها كما لو كانت لوحات متتالية تحمل قصائد شعر متعددة المقاطع، لتحتفظ بانتقالات سلسة وتلقائية بين تغير السياق والزمان والمكان الذى يلتقى فيه البطلان، سواء فى العالم الدنيوى أو الآخر السماوى المتخيل. «اعتبر صديقنا أن الأمر فى صالحه بجميع الأحوال، لأن وجودى هنا يؤكد أنها ليست الجنة التى يحكون عنها، فلو كانت كذلك، لابد أن لها خالقا ذلك الإله الذى تتحدث عنه «تخيل» ولم يكن ليسمح لى بدخولها من جهة أخرى لو اعتبرت أنها الجنة بالفعل، والآن كيف أتصرف مع هذه الفوضى، يمكننى أن ألعب مع جميع الأطراف فى وقت واحد، وأسلى نفسى لأقصى درجة ممكنة، سأعتبر أننى داخل لعبة من ألعاب الواقع»، هكذا يسعى الكاتب طوال الوقت إلى السير على نهج حى بن يقظان، الساعى للوصول إلى الله باليقين وليس بالتسليم، والإيمان بأهمية الشك من أجل الوصول والحسم. «أفضل فكرة فى العالم»، هكذا وصف الفخرانى الإنسان، والذى اهتم به فى الكثير من نصوص روايته وطاف به بين عوالم متباينة ومختلفة إلى حد بعيد، ليتناول كل ماله علاقه بانشغالات الإنسان وأسئلته وهمومه، ومختلف أحواله فى صحته ومرضه، خلال فقره وثرائه. ويستكمل فى الفصل الذى حمل عنوان «هل تذكر الرجل الصوفى»: نعم الموت والفقر والثراء، تجربة على خط الحياة الممتد، قال نقار الخشب وهو يشغل اسطوانة بيانو صولو، ابتسمت «تخيل»، «تحدث معى الرجل عن شىء أسماه العقل الكلى والعقل الجزئى، وقال إن العقل الجزئى يتوقف عند الأجزاء أوالمقاطع التى يراها من العالم، ولا يمكنه أن يرى أو يفهم أبعد منها، هذا العقل الجزئى يستبد بما يراه، وما يراه أيضا يستبد به، فلا يستطيع أن يتخيل صورة أو فكرة أكبر تحوى هذا الجزء بداخله، حتى أن هذا الجزء الصغير، لا يكشف له عن حقيقته، قال لى الصوفى إن هذا أكثر أنواع الاستبداد قسوة. وتظهر من نصوص الفخرانى فى «أراك فى الجنة»، أنه أحد المقتنعين بشدة بجدوى وماهية الحب وتجلياته فى أشكاله العذرية والصوفية والرومانتيكية والرومانسية وحتى الوجودية، رافضا حصره فى الأشكال الأنانية والنفعية، وهو ما خصص لأجله مجموعة متماسكة من الألعاب الفنية والحيل الجمالية فى الكتابة والسرد. فى الفصل المسمى بديوان شعر وبيانو، أورد الفخرانى: من يستطيع قراءة كتاب الكون كاملا يعرف لماذا يموت أبرياء فى فيضان أو زلزال، كتاب الكون، نعم، قال نقار الخشب ومد يده ليمنع عن «تخيل» بعض أشعة الشمس، قفزت إلى مساحة جديدة، فغمرها اللون البرتقالى، قالت: أنا أرى الكون مثل كتاب حكاية وكى تفهمه، لابد أن تقرأة كاملا، مثلما تقرأ رواية. ويواصل: قفزت إلى نقطة جديدة، وقفت على أطراف أصابعها، فتحت ذراعيها جانبا «لا يمكنك أن تفهم لماذا ماتت هذه الشخصية، أو فعلت ما فعلته، إلا لو قرأت الرواية كاملة، أنزلت ذراعيها واستقرت على قدميها، لكن لا أحد منا يمكنه أن يقرأ كتاب الكون كاملا كى يعرف كل شىء، الأمر كله يتعلق بالحكاية الكاملة، أنت لا تعرف الحكاية الكاملة. لم تنزعج كثيرا عندما قال لها إنه لا يرغب فى إنجاب أطفال، فكرت إنه ربما يخشى التزاما جديدا، منحته بعض الوقت، لكنه قال لها إنه لا يخشى ما يسمى التزاما، إنما غير متأكد من رغبته فى أن يأتى بطفل إلى هذا العالم «أنت من يقول هذا!!..رغم كل محبتك للعالم»، «أحبه رغم أنه ملىء بالأمل». برع الفخرانى فى «أرك فى الجنة» في أن ينتصر لمشروعة الذى يسعى فيه على الدوام إلى نسج عوالم غرائبية، افتراضية ومتخيلة، يجسدها ويصوغها كواقع بديل، واقع أكثر جمالا يغلفه الأفكار الحالمة. وتبرز سمة جمالية شديدة البراعة فى الرواية، وهى استدعاء ملامح من روايات الكاتب نفسه، محمد الفخرانى، داخل المتن السردى ل«أراك فى الجنة»، على سبيل المثال الحبيبة تذكره بأعماله، وبجملته الأثيرة «الإنسان أفضل فكرة فى العالم» التى قرأتها فى كتابه «عشرون ابنة للخيال»، فهى مجموعة قصصية سابقة للفخرانى، كما أن المقهى الذى يتواعدان فيه أثناء لقائهما الأول، اسمه «مزاج حر»، وهو عنوان روايته السابقة، بما ينقل إلينا حالة من الترابط بين إبداعات الكاتب، ويحقق درجة من التشابك النصى الذى يشار إليه بانه أحد ملامح فن الرواية فى تجليها الأحدث. الكاتب الروائى والقاص محمد الفخرانى، له ثمانية أعمال سابقة ما بين القصة والرواية منهم «بنت ليل» قصص، و«فاصل للدهشة» رواية، و«قبل أن يعرف البحر اسمه» قصص، و«قصص تلعب مع العالم» رواية، و«طرق سرية للجموح» قصص، و«ألف جناح للعالم» رواية، و«عشرون ابنة للخيال» قصص، و«مزاج حر» رواية. نال أكثر من جائزة، منها جائزة الدولة التشجيعية فى القصة 2002، عن مجموعته القصصية «قبل أن يعرف البحر اسمه»، جائزة معهد العالم العربى بباريس فى العام 2014 عن ترجمة رواية «فاصل للدهشة» من الفرنسية، وجائزة من نادى القصة فى بدايات مشروعه الكتابى، وهو من مواليد 23 مارس العام 1975 وحاصل على بكالوريوس علوم الجيولوجيا ويعمل كاتبًا حرًا.