المشهد الأول: سيدة ريفية ترتدى السواد، تتكلم إلى الكاميرا: «من طلعته راجل، عمره ما حسسنى إنه عيل صغير، البلد كلها كانت عارفة إنه هيبقى شاعر، مكنش بيبطل قراية». المشهد الثانى: نفس السيدة، تزور المقابر، تتوجه إلى أحد الشواهد، تجلس أمامه، تبكى بحرقة، تقترب الكاميرا من الشاهد، لتظهر الكتابة المخطوطة عليه بالأسود «قبر المرحوم أمل دنقل». المشهد الثالث: أمل يرقد على السرير، يتحدث إليه الطبيب المعالج، يبدو أنه كان يحاول تخفيف الأمور.. بجوار السرير يجلس رجل أربعينى هو عبدالرحمن الأبنودى، وشابة عشرينية هى عبلة الروينى، وفتاة صغيرة، هى أسماء يحيى الطاهر عبدالله.. يخرج الطبيب، تقوم عبلة وتعطى الدواء لزوجها.. وعبدالرحمن يضبط له الوسادة، يقول: كده برده تكون ظريفة. هذه بعض مشاهد فيلم «حديث الغرفة رقم 8» الذى أخرجته عطيات الأبنودى، والذى عرض ضمن احتفالية مكتبة الإسكندرية بسبعينية أمل دنقل. كان يتخلل هذه المشاهد، مقاطع يتحدث فيها أمل عن رحلته من الصعيد إلى القاهرة، وأول تعارف له على العاصمة، وصدمات البدايات، وعودته إلى الصعيد، ورجوعه مرة أخرى برفقة الأبنودى، ولقائهما ب«شلل» الكتاب على مقاهى وسط البلد، وبداية التجربة الأشهر فى تاريخ الأدب المصرى، تجربة جيل الستينيات، ثم المجلة الطليعية «جاليرى 68». فى الغالب، يكون لهذا النوع من الاحتفاليات شقان: الأول نقدى وفنى، يتناول المحتفى به على مستوى المنجز الخاص به، ويكون الشق الثانى إنسانى، يتناول ما هو شخصى فى حياة الرجل، ولكن الأمر اختلف فى حالة أمل، فلم يستطع النقاد الكبار الذين تكلموا عنه الفصل بين الجانبين الإنسانى والفنى.. أمل أجبرهم على ذلك. على سبيل المثال، بدأ الناقد الدكتور أحمد درويش ببيت شعر لأحمد شوقى، يقول: الناس صنفان، موتى فى حياتهم وآخرون ببطن الأرض أحياء فالعظماء حين يرحلون، لا يرحلون عنا بقدر ما يرحلون فينا، لأن ما غرسوه يبقى ظلا لنا، ويصب فى عقولنا، ونصبح جزءا من الأسئلة التى طرحوها، وكان هذا رأى أمل نفسه، عندما قال فى رثاء يحيى الطاهر عبدالله: ليت أسماء تعرف أن أباها.. صعد لم يمت هل يموت الذى كان يحيى.. كأن الحياة أبد. يكمل درويش: أمل لم يكن يخاف الموت، كان يدرك أن «كفة الشاعر فى الموازين أثقل من الموت»، فقد روض وحشته، وجاءت لحظة اللقاء هادئة وادعة، فلم يعترض الموت رحلته إلا اعتراضا فاصلا بين النوم واليقظة. وألقى المايسترو شريف محيى الدين، مدير مركز الفنون بالمكتبة ومنظم الاحتفالية كلمة تحدث عن دهشة أصدقائه من قرار تلحينه لقصائد أمل، متسائلين : هل يمكن تطويع هذا الجبروت الشعرى بلغته وعنفوان صوره؟ وكانت المفاجأة بالنسبة لشريف أنه وجد الشعر محتويا على لحنه الخاص، خلافا لما توقعه الجميع. ولفت محيى الدين إلى أنه إذا كان أمل أستاذا لأجيال من الشعراء الشباب بعده، لكنه كان تلميذا للشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى، وهى النقطة التى بدأ حجازى كلامه منها، موضحا أنه لم يكن أستاذا لأمل، قال: «أجده اهتم بموضوعات، اهتممت بها لكنه أبدع فيها إبداعا خاصا لا يمكن أن يكون ثمرة التقليد والتلمذة. فاقرأ قصائده عن القاهرة أو الإسكندرية فأحسده وأتمنى لو كنت كتبت هذه القصائد». وقرأ حجازى بعض أبيات أمل، وانفعلت عطيات الأبنودى وصاحت فى مصور الاحتفالية الذى انصرف للحظات عن تصوير المنصة، «بتعمل إيه.. صور أحمد عبدالمعطى حجازى وهو بيقرا شعر أمل دنقل». الجلسة الثانية جاءت أكثر حميمية، حيث استضافت أنس دنقل شقيق أمل، وحكى فيها عن نظرة الراحل للريف والمدينة، وعلاقته بالشعراء. وعبرت الكاتبة عبلة الروينى عن سعادتها، وقالت إن أمل لم يحتفل بعيد ميلاده سوى مرة واحدة، حين أصر د.جابر عصفور على ذلك وأخذه بسيارته ليتجول فى شوارع القاهرة وقتما اشتد عليه المرض، تقول «لم يكن لأمل منزل، كان يتنقل بين منازل أصدقائه، وبالتالى لم تكن لديه مكتبة لكن كانت هناك أربعة كتب تلازمه، منها القرآن الكريم». الاحتفالية التى شهدها عدد كبير من الكتاب، منهم: فؤاد طمان، عبدالعزيز موافى، علاء خالد، محمد زكريا العنانى، محمد رفيق خليل، حميده عبدالله، وتحدث بعض شباب الشعراء عن علاقتهم الفكرية بأمل دنقل مع قراءة بعض قصائده فى جلسة شارك فيها عبدالرحيم يوسف، صالح أحمد، حمدى زيدان، وأدارها الشاعر السكندرى عمر حاذق.