مع حلول الزيارة الأولى من نوعها للرئيس أوباما إلى الصين فى منتصف نوفمبر، يثور عدد من الأسئلة المهمة حول مستقبل العلاقات الأمريكية الصينية. فلم تعد المسألة الأكثر إثارة للجدل هى ما إذا كانت الولاياتالمتحدة تستطيع التعامل مع صعود الصين، وإنما أصبحت ما إذا كانت الصين تستطيع التعامل مع الانحدار الذى تشهده أمريكا. على مدى ما يقرب من عقدين، أخذت الولاياتالمتحدة على عاتقها تلك المهمة الكبيرة، أى التعامل مع صعود الصين. وفى مواجهة نمو الصين الاقتصادى السريع وتنامى نفوذها الجيوبوليتيكى، وقر فى ذهن الولاياتالمتحدة الاعتقاد بأن الجمع بين القوة الأمريكية والحنكة السياسية هو وحده القادر على التأثير فى مسار علاقات الصين بالعالم الخارجى. وعلى الرغم من أن اليمينيين من الجمهوريين لم يتورعوا من حين لآخر عن الدخول فى حرب باردة ضد الصين، التى يحكمها حزب سياسى لا يزال يسمى نفسه «شيوعيا»، فإن المؤسسة السياسية فى واشنطن تتبع إستراتيجية ثابتة تقوم على التعاون العلنى والاحتواء الخفى. وفيما يتعلق بالتعاون العلنى، وسعت واشنطن علاقاتها التجارية مع الصين. وحققت الاتفاقيات الثنائية فى مجال التجارة والاستثمار قفزة كبيرة منذ التسعينيات. كما تكثف الحوار السياسى بين البلدين، حيث تكررت اللقاءات المتبادلة على أعلى المستويات بين واشنطنوبكين واتسمت بالانتظام. وبتشجيع الولاياتالمتحدة ودعمها، نمت علاقات الصين متعددة الأطراف بالمنظمات الدولية. وفى نفس الوقت، تخشى الولاياتالمتحدة من التهديد المحتمل لهيمنتها إذا ما أصبحت الصين أقوى. وتحوطا من صين أكثر عدوانية وتوسعية، انتهجت الولاياتالمتحدة إستراتيجية الاحتواء المكشوف بغرض تطويق الصين بحلفاء للولايات المتحدة. فعززت واشنطن، فى فترة الحرب الباردة، روابطها الأمنية مع حلفائها التقليديين فى منطقة المحيط الهادى، مثل اليابان وأستراليا، وزادت من وجودها العسكرى فى المنطقة. كما بدأت واشنطن وفى ذهنها صعود الهند، التى ترى فى الصين تهديدا لها، ويمكنها أن تكون حليفا طبيعيا للولايات المتحدة تغازل نيودلهى فى التسعينيات فى عهد الرئيس بيل كلينتون. وبعد تولى جورج بوش الابن، تسارعت جهود واشنطن، وبلغت ذروتها بتوقيع البلدين صفقة نووية من شأنها تعزيز ترسانة الهند النووية نتيجة لرفع الحظر عن تصدير المواد النووية إلى الهند. وبينما تفرض واشنطن حظرا مشددا على حصول الصين على الأسلحة (وتفرض على أوروبا أن تحذو حذوها تقوم حاليا بتشجيع الجيش الهندى على شراء أنظمة السلاح المتقدمة من موردى السلاح الأمريكيين، فى خطوة أخرى لتقوية الهند وتحقيق التوازن أمام الصين. وعمل هذا المزيج من التعاون والاحتواء لصالح واشنطن فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة. واستمرت الصين، المدركة للقوة الأمريكية الطاغية، فى انتهاج سياسة تفادى الصراع مع الولاياتالمتحدة (إلا إذا تعرضت مصالحها القومية الأساسية للخطر، مثل وضع تايوان). وبالطبع، فهمت بكين أن جانب التعاون من إستراتيجية الولاياتالمتحدة يمكن أن يجلب فوائد هائلة، فى حين تحملت جانب الاحتواء، برغم إزعاجه. ونتيجة لذلك، كرست الصين كل طاقتها من أجل تنمية اقتصادها. وللمفارقة، بينما كانت الصين تستثمر فى إنشاء المصانع والبنية الأساسية، ارتكبت واشنطن فى ظل حكم الجمهوريين خطايا الغطرسة الاستعمارية. ففى الداخل، بدد الرئيس بوش فائضا ضخما فى الموازنة بسبب التخفيضات الضريبية، مما جعل عجز الموازنة الأمريكية يخرج عن نطاق السيطرة. وخارجيا، شن الحرب على العراق، فبدد تريليون دولار، وأرسل بالجيش الأمريكى القوى إلى مستنقع. ولسنا بحاجة إلى القول بأن الاقتصاد الفقاعة الأمريكى، الذى فاقم من حالته الائتمان الرخيص والاستهلاك المفرط، حدث فى عهد بوش وأدى إلى الكساد العظيم الذى نشهده اليوم. وإذا قارنا بين سياسة الصين الخارجية الحكيمة وتركيزها على تنمية اقتصادها وبين سياسة أمريكا الاقتصادية غير المسئولة فى الداخل والمتهورة فى الخارج، سندرك السبب فى التحول الكبير الذى حدث فى العقدين الأخيرين للتوازن النسبى فى القوة بين الصين والولاياتالمتحدة. وفى 1992، عندما انتخب بيل كلينتون رئيسا، كان الناتج المحلى الإجمالى للصين 422 مليار دولار، بما يساوى 6.6% تقريبا من إجمالى الناتج المحلى الأمريكى. ولم يكن احتياطيات الصين من الصرف الأجنبى يزيد على 19 مليار دولار. وبلغ حجم التبادل التجارى بين البلدين 33 مليار دولار، ما يعادل سدس التجارة الخارجية الصينية تقريبا. وعندما انتخب جورج بوش فى 2000، ارتفع إجمالى الناتج المحلى الصينى إلى 1.2 تريليون دولار، أى ما يعادل حوالى 12% من الناتج الاقتصادى الأمريكى. وبلغ حجم احتياطيات بكين من العملات الأجنبية 165 مليار دولار. ووصل حجم التجارة الخارجية فى الصين 527 مليار دولار، بينما ارتفع حجم التجارة بين الولاياتالمتحدة والصين إلى116 مليار دولار. وبحلول 2008، عندما وصل باراك أوباما إلى البيت الأبيض، كانت الصين قد قطعت خطوات أكبر فى طريق سد الفجوة القائمة بينها وبين الولاياتالمتحدة. وارتفع الناتج المحلى الإجمالى الصينى إلى 4.4 تريليون، أى ما يعادل حوالى 30% من حجم الاقتصاد الأمريكى. وزاد رصيد الصين من الاحتياطيات النقدية بالعملة الأجنبية ليصبح 2.1 تريليون دولار، وهو الأكبر فى العالم. وارتفع الإنفاق العسكرى الرسمى إلى 59 مليار دولار (الحجم الحقيقى لنفقات الدفاع الصينية أكبر بكثير)، ما يعادل 12% من حجم الإنفاق العسكرى الأمريكى. وأصبح هناك نوع من الاعتماد المتبادل بين اقتصاد البلدين، حيث بلغ حجم التبادل التجارى بينهما 407 مليارات دولار فى 2008. ومع بلوغ حجم تجارتها الخارجية 2.6 تريليون دولار فى 2008، أصبحت الصين ثالث أكبر قوة تجارية فى العالم. والأمر الأكثر أهمية، أن الصين الآن أكبر دائن أجنبى لأمريكا، وتبلغ حصتها 1.5 مليار دولار من الدين الأمريكى الرسمى والخاص. ولا شك أن التغير فى توازن القوى النسبى بين الولاياتالمتحدة والصين فى العقدين الأخيرين هو الأكبر فى التاريخ. ويصبح السؤال الآن هو: هل يمكن للولايات المتحدة الاستمرار فى مواجهة صعود الصين؟ وبالنظر إلى التحديات الداخلية والخارجية الكبيرة التى تواجهها الولاياتالمتحدة، خاصة العجز الهائل فى ميزانيتها واثنتين من الحروب الخارجية المكلفة، هل ينبغى على الولاياتالمتحدة أن تعيد النظر فى أسلوبها فى التعامل مع صين صاعدة، نجحت بالفعل فى الصعود بالنظر لكل الجوانب العملية؟ ولا يبدو أن واشنطن تطرح هذه الأسئلة الصعبة. وليس من المرجح أن يطرح الرئيس أوباما إستراتيجية جديدة للتعامل مع الصين عند زيارته لبكين، وهو ما يرجع أساسا إلى أن سياسة واشنطن الحالية تجاه الصين تبدو فعالة وقادرة على الاستمرار. لكن بالنسبة للصين، لا ينبغى أن يكون التدهور الأمريكى الحاد مثار ارتياح. فقد ظلت القوة الأمريكية تسبب خوف ونفور النخبة الصينية زمنا طويلا. لكن الضعف الذى عليه أمريكا الآن يثير توتر بكين كذلك. فالصين تريد اقتصادا أمريكيا قويا حتى تبيع صادراتها وتحافظ على قيمة ديونها الضخمة لدى أمريكا. واستمرار ضعف الاقتصاد الأمريكى سيضر بالصين ضررا بالغا. وعلى الصعيد الدولى، تحتاج الصين إلى الأدوات العالمية العامة التى توفرها الولاياتالمتحدة مثل التجارة الحرة وإرساء الأمن العالمى. وأمريكا الضعيفة ستكون أقل قدرة على صيانة نظام التجارة الحرة العالمى وإقرار الأمن. وعلى الرغم من أن الصين تزداد قوة منذ التسعينيات، إلا أن ذلك ليس بالقدر الذى يجعلها تحل محل أمريكا كمزود بديل لتلك الأدوات العالمية. وهكذا، انقلبت المائدة. وتواجه الصين الآن مهمة صعبة فى مواجهة تدهور أمريكا. وهى مهمة لا يتحمس لها زعماء بكين، لكن عليهم مواجهتها الآن.