في أولى جولاته الآسيوية منذ توليه الرئاسة، زار الرئيس الأمريكي عددًا من الدول الآسيوية هي: اليابان، سنغافورة، الصين وكوريا الجنوبية. وكانت الصين أهم محطات زيارته، تلك الدولة التي تنظر لها الأوساط الرسمية والأكاديمية - ليس فقط في الولاياتالمتحدةالأمريكية وإنما في كثير من الدول حول العالم – على أنها القوة الكبرى القادمة من بعيد، لتنهي زمن القطبية الأحادية التي سيطرت عليه الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي منذ بداية العقد الأخير من القرن الماضي. وكانت فعاليات وأنشطة الزيارة التي قام بها باراك أوباما إلى الصين محل تركيز الإعلام الأمريكي خلال الأسبوع الماضي، لأنها كما رأت كثير من التقارير الإعلامية سوف تحدد – إلى مدى بعيد - شكل التعامل الأمريكي مع الصين خلال الفترة القادمة، خاصة في ظل تصاعد سخونة عدد من الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك، والتي يأتي على رأسها العلاقات التجارية بين الطرفين، بالإضافة إلى شكل التعاون الذي يمكن أن تبديه الصين في تسوية عدد من الملفات الدولية المهمة، مثل السلاح النووي لكوريا الشمالية والملف النووي الإيراني. الصين تغزو العالم من جانبها أعدت كريستياني أمانبور Christiane Amanpour حلقة خاصة في برنامجها CNN'S AMANPOUR الذي يذاع على شبكة CNN، تناولت فيها التأثير الاقتصادي والدبلوماسي للقوة الصينية على الساحة الدولية، وهل هذه القوة المتصاعدة سيقابلها اضطلاع الصين بمزيد من المسئوليات في النظام الدولي تجاه ملفاته الشائكة أم لا؟ في البداية سلطت أمانبور Amanpour الضوء على التصريحات التي أدلى بها الرئيس باراك أوباما، مؤكدًا فيها: "إن الولاياتالمتحدة ليس لديها أي مخاوف من الصين، حتى لو كانت الصين مدركة لقوتها المتزايدة"، معتبرة أن مثل هذه الكلمات هي محاولة من جانب الرئيس الأمريكي لضمان تعاون الرئيس الصيني هو جنتاو Hu Jintao مع الجهود التي تبذلها إدارته لتسوية عدد من الملفات الدولية الشائكة، من خلال طرحه لاقتراب تعاوني للعلاقات بين الجانيين. وتعليقًا على هذا الأمر طرحت المذيعة سؤالاً: هل يمكن للولايات المتحدة فعلا أن تعتمد على مساعدة الصين في التعامل مع القضية النووية الإيرانية والملف النووي لكوريا الشمالية، وغيرها من القضايا والملفات الأخرى التي تحظى فيها الصين بنفوذ كبير؟ وفي هذا الإطار عرض البرنامج لتقرير أعده مراسل الشبكة في الصين جون فوز John Vause الذي أكد على أن الصين وهى في طريقها لبناء قوتها الاقتصادية تحاول تأمين حصولها على المواد والخامات الطبيعية واستمرار تدفقها إليها، الأمر الذي يكفل في نهاية المطاف استمرار نهضتها الصناعية، ولذلك عملت على عقد اتفاقيات بمليارات الدولارات في مناطق كثيرة حول العالم خاصة في إفريقيا، بالإضافة إلى ضخ كثير من الاستثمارات والمساعدات لكثيرٍ من الدول التي تمتلك هذه الموارد والخامات الطبيعية، إضافة إلى عرضها لكثيرٍ من أوجه التعاون العسكري مع هذه الدول لضمان نفوذ لها هناك، واستمرار الاستحواذ على ما يلزمها من مواد خام من هذه الدول. وأضاف التقرير أن نفوذ الصين لم يتوقف عند حدود الدول الإفريقية فقط، بل بذلت الحكومة جهودًا جبارة لتنمية علاقاتها وروابطها مع دول أمريكا اللاتينية، فتضاعف حجم التبادل التجاري بين الصين ودول القارة عشرات المرات خلال العشر سنوات الأخيرة، وتمكنت الصين بفضل هذه الجهود من أن تزيح الولاياتالمتحدة من احتلالها المرتبة الأولى في التبادل التجاري مع كل من البرازيل وشيلي، لتحل هي محلها. وهنا يلفت التقرير الانتباه إلى أن القيادة الصينية تدرك جيدًا أنها من خلال خلق هذه الروابط التجارية مع دول أمريكا اللاتينية - والتي تعتبر بمثابة الفناء الخلفي للنفوذ الأمريكي - سوف تحقق كثيرًا من المكاسب في عدد من الملفات الأخرى ذات الأهمية الكبيرة في العلاقة بين واشنطنوبكين، ومن أهم هذه الملفات قضية تايوان، والتي تعتبر من أهم القضايا على أجندة السياسة الصينية. ويشير التقرير هنا إلى سعي الصين لعزل تايوان – التي تعتبر بمثابة حليف مهم للولايات المتحدةالأمريكية – التي تعتبرها الصين جزءًا لا يتجزأ من الأراضي الصينية، وهو من الأهداف الاستراتيجية للحكومة الصينية، وبالفعل تمكنت من خلال الروابط التجارية التي خلقتها مع دول أمريكا اللاتينية من أن تدفع ثلاث دول إلى تحويل تمثيلها الدبلوماسي من إقليم تايبيه أكبر مدينة و عاصمة جزيرة تايوان إلى العاصمة الصينية بكين، في اعتراف ضمني من جانبهم باعتبار تايوان جزء من الأراضي الصينية. ويقول التقرير: إن القيادة الصينية استطاعت أن تحقق هذا النجاح من خلال الحوافز التجارية التي قدمتها لهذه الدول. ملف حقوق الإنسان في الصين: هاجس أمريكي في سبيله للتراجع وعلى صعيد مختلف استضاف البرنامج فيكتور جاو Victor Gao المسئول السابق في وزارة الخارجية الصينية، واستهلت أمانبور Amanpour حديثها مع المسئول الصيني بالتساؤل عن هل الصين وحكومتها تأخذ في اعتبارها القضايا الداخلية المتعلقة بحقوق الإنسان؟ وعن موقع هذا الملف في الأولويات الداخلية للحكومة الصينية، وهل اتخذت خطوات جادة من أجل تحسين سجلها في حقوق الإنسان؟ فضلا عن مدى المسئولية التي تتحملها الصين – بالتعاون مع القوى الكبرى الأخرى داخل مجلس الأمن – تجاه عدد من الملفات المهمة المعروضة أمام مجلس الأمن، مثل الملف النووي الإيراني وقضية السلاح النووي لكوريا الشمالية والأوضاع السياسية في ميانمار؟ وفي هذا السياق أكد جاو Gao أنه عند الحديث عن ملف حقوق الإنسان في الصين فإن هناك نقطتين، أولاً: بالنسبة لأوضاع حقوق الإنسان في الصين فإنه بالفعل ليس وضعًا مثاليًّا، إلا أنه أكد أنه بالنظر إلى أوضاع حقوق الإنسان الآن في الصين مقارنة بفترات سابقة، يمكن القول – على حد وصفه – أن الحكومة الصينية حققت تقدمًا كبيرًا في هذا الملف، ومن ثم فإن مستقبل تطور هذه الأوضاع يحمل كثيرًا من المؤشرات الإيجابية، نحو تحقيق مزيد من التحسن بمرور الوقت. ثانيًا: يشير جاو Gao إلى أنه عندما نتحدث عن أوضاع حقوق الإنسان في الدول الأخرى، فإن الحكومة الصينية أبدت قدرًا كبيرًا من الحذر في التعامل مع هذا الملف، واعتبرت أن أحد المبادئ الأساسية الحاكمة للسياسة الخارجية الصينية هو مبدأ "عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى"، لذلك فإن الصين لم تتعود التعليق على سجل الدول الأخرى في حقوق الإنسان، أو أن تعطي نصائح لهذه الدول بشأن تعاملها مع قضايا حقوق الإنسان داخلها. وعلى الصعيد ذاته تناولت صحيفة نيويورك تايمز في تقريرًا لها أعده كل من مايكل وينز Michael Wines وشارون لافرانير Sharon LaFraniere اللقاء الذي عقده الرئيس أوباما مع عدد من طلاب الجامعات الصينية، والذي خصص جزءًا منه للحديث عن أوضاع حقوق الإنسان في الصين، حيث تساءل أحد الطلاب حول ما إذا كانت الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها الولاياتالمتحدة في الوقت الحالي هي السبب الأساسي وراء تغير نغمة الخطاب الأمريكي تجاه الصين - وغيرها من الدول - لتكون أكثر هدوءاً، أم أن هذا السلوك يعبر عن سياسة دائمة سوف تتبعها واشنطن خلال المرحلة المقبلة. وتعليقًا على هذا الأمر أشار التقرير إلى أن العلاقات بين الصين والولاياتالمتحدة لم تعد كما كانت في الماضي، ولكنها الآن علاقة بين قطب دولي قوته تتراجع وبين قطب آخر صاعد، فالميزة النسبية التي كانت تمتلكها واشنطن في الماضي في علاقتها مع الصين لم تعد موجودة الآن، ومن ثم فإن ملف حقوق الإنسان والذي كان من الملفات المهمة في العلاقات بين الجانبين، هو ما دفع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في زيارته للصين في عام 1998 لعقد مباحثات مطولة مع الرئيس الصيني آنذاك جيانج زيمن Jiang Zemin حول ملف حقوق الإنسان في الصين والتعامل الصيني مع الدالاي لاما الزعيم الروحي الأعلى للبوذيين، وفي عام 2002 أكد الرئيس بوش خلال خطاب له – تم بثه في جميع أرجاء الصين – على ضرورة توفير الحرية وحكم القانون وحرية الاعتقاد في الصين، لم يعد يحظى بالأهمية ذاتها، حيث حدث تراجع في اهتمام الرئيس الأمريكي الجديد بهذا الملف الشائك، فعلى الرغم من أنه خلال زيارته لموسكو في يوليو الماضي حرص على اللقاء بالمعارضة الروسية والناشطين السياسيين والصحفيين المعارضين ورجال الأعمال المناوئين للكرملين، إلا أنه على العكس تمامًا خلال زيارته للصين، لم يركز كثيرًا على ملف حقوق الإنسان والحرية هناك، فحين سُئل عن موقفه من الرقابة التي تمارسها الصين على شبكة الإنترنت، علق أوباما على ذلك بالحديث عن الجدل العنيف الذي تشهده واشنطن أيضًا حول هذا الموضوعات المتعلقة بالرقابة على الإنترنت عامة. ولفت التقرير الانتباه إلى أن مسئولي الإدارة الأمريكية رفضت عقد لقاء بين الرئيس والناشطين السياسيين الصينيين، بحجة أن الوقت غير كاف، وأن عدم عقد مثل هذه اللقاءات ليس خلفه أي دوافع سياسية، في المقابل – كما يقول التقرير – فإن السلطات الصينية عملت على عدم خروج أية مظاهرات معارضة تهدف إلى إيصال صوتها ولقاء الرئيس الأمريكي، من خلال تشديد الرقابة الأمنية على النشطاء الصينيين داخل البلاد. وأعلنت بعض المنظمات داخل الصين عن قيام السلطات باعتقال حوالي عشرين شخصًا ووضعهم تحت الإقامة الجبرية. الرؤية الصينية: نحو عالم متعدد الأقطاب أما بخصوص القضايا الأخرى ذات الاهتمام المشترك مثل إيران وكوريا الشمالية، فأكد جاو Gao أنه بحكم النفوذ الدولي التي تملكه الصين على اعتبار أنها من أكبر اقتصاديات العالم، بالإضافة إلى عضويتها الدائمة في مجلس الأمن وعضوية الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإنها تضطلع بدور كبير في إدارة شئون المجتمع الدولي. وعن الكيفية التي تدرك بها الصين وضعها في النظام الدولي، وهل تعتبر ذاتها قوة موازنة للولايات المتحدة، أكد جاو Gao أنه بعد ثلاثين عامًا من الإصلاحات الاقتصادية التي نفذتها الصين، أضحى الاقتصاد الصيني ثالث أكبر اقتصاد في العالم، فضلاً عن تحقيق الحكومة الصينية لإنجازات كبيرة لا حصر لها، ليس فقط في المجلات الاقتصادية، وإنما أيضًا في المجالات السياسية، وفي مجال حقوق الإنسان، وأضاف أيضًا أنه طبقًا للمنظور الصيني فإن عالمًا متعدد الأقطاب سيكون أفضل بكثير من الأحادية القطبية، فضلا عن تفضيلها العمل في إطار الشرعية الدولية التي تمثلها الأممالمتحدة وأجهزتها المختلفة، ولذلك فإنها دائمًا ما تؤكد على أهمية توفير الاستقرار والسلام، لأنه بدونهما لا يمكن أن يتحقق نمو اقتصادي، ولا يمكن العمل على تحسين أحوال شعوب العالم. ولذلك فإن مصلحة الصين وشعبها – كما أكد جاو Gao - أن تكون هناك علاقات قوية مع الولاياتالمتحدة، وتجنب كل أشكال العداء معها، مشيرًا إلى أن مجموع الملفات الشائكة التي تواجهها السياسة الخارجية الأمريكية على الساحة، يمكن أن تحرز فيها تقدمًا كبيرًا، إذا تعاونا معًا من أجل التوصل إلى الحلول الأفضل لها، والعمل على بناء الثقة المتبادلة فيما بينها. رسائل أوباما إلى الصين من جانبه أذاع برنامج Morning Edition - الذي يبثه راديو NPR – تقريرًا أعده أنتوني كوهن Anthony Kuhn أكد فيه أن أحد الرسائل المهمة التي أراد أوباما إيصالها إلى القيادة الصينية والشعب الصيني كان تدور حول عدم سعي الولاياتالمتحدة إلى احتواء الصين، أو السعي إلى فرض القيم الأمريكية عليها. وأكد كوهن Kuhn أن عديدًا من الصينيين رحبوا بهذه الرسالة ولكن ليس من الضروري أن هذا الترحيب يعبر عن ثقتهم في مدى مصداقيتها، وفي هذا السياق استطلع التقرير رأي بعض المواطنين في هذه الزيارة، حيث أكد أحد المواطنين في العاصمة بكين أن الرئيس الأمريكي يسعي إلى حماية المصالح الأمريكية، ولكن هذا لا يعني أنه قادر على إلحاق الضرر بالمصالح الصينية. في حين أشار أحد المدونين الصينيين إلى أنه بالرغم من الكاريزما الكبيرة التي يتمتع بها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، إلا أن سياساته تجاه الصين لا تختلف عن تلك السياسات التي اتبعها سلفه الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، هذه السياسات التي رأى كثير من المحللين الأمريكيين أنها نجحت في التعامل الأمريكي مع الصين، ومن ثم حث هؤلاء الرئيس أوباما على الاستمرار في اتباعها، مضيفًا أن الرأي العام الصيني سوف يغير من نظرته للرئيس الأمريكي وسياسة بلاده فقط إذا رأوا تغييرًا فعليًّا في السياسات الأمريكية تجاه بلادهم. خطايا أوباما مع الصين وفي سياق تناول هذه الرسائل جاءت افتتاحية صحيفة واشنطن بوست تحت عنوان :"أهلاً بالصين" " Welcome, China?”أكدت فيها أن الرسالة الأساسية التي ابتغاها أوباما من زيارته للصين هي على حد قوله رؤية الصين قوية ومزدهرة وعضوًا فاعلاً في المجتمع الدولي. ومن جانبها أكدت الافتتاحية أن هذه الكلمات التي استخدمها الرئيس الأمريكي تعبر في جزء منها عن السمة الواقعية التي تتميز بها سياسة الرئيس باراك أوباما، مضيفة أن الولاياتالمتحدة في إطار تعاطيها مع عدد من القضايا الدولية مثل النمو العالمي وتقليل الانبعاث الحراري ووقف البرامج النووية لكل من كوريا الشمالية وإيران، ستكون في حاجة إلى إيجاد أرضية مشتركة للتعاون مع الصين. ومن ناحية أخرى تساءلت الصحيفة عن مدى ملائمة استخدام الرئيس الأمريكي لكلمة الترحيب welcome، كما انتقدت وصفه للصين بالقوة الكبرى، وعدم استخدامه لوصف الديمقراطية، باعتباره من السمات التي يجب أن تتسم به القوة الكبرى في النظام الدولي، وعزت الافتتاحية أهمية وجود العامل الديمقراطي إلى أن التاريخ يؤكد أنه من النادر جدًا بالنسبة الولاياتالمتحدة ألا تجد صعوبة في التعامل مع دولة غير ديمقراطية، حتى في الحالات التي حدث فيها هذا التعاون كان تعاونًا قصيرًا للغاية، وضربت مثالاً بالتعاون الذي تم بين الولاياتالمتحدة وروسيا في عهد ستالين ضد النظام النازي في ألمانيا، وهو تعاون ما لبث أن انتهى بمجرد إنجاز الهدف المنشود منه. ولفتت الافتتاحية الانتباه إلى أن السلوك الصيني خلال العقد المنصرم بعيدٌ كل البعد عن مفهوم الديمقراطية والقيم الديمقراطية، بل إنها دعمت نظمًا ديكتاتورية مثل نظام الرئيس روبرت موجابي في زيمبابوي ونظام التطهير العرقي في السودان، وأضافت أنها سعت إلى الاستحواذ على الموارد الطبيعية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتهديدها بشن حرب ضد تايوان، كما أنها استغلت الضغوط الغربية ضد بعض الدول والنظم من أجل تحقيق مكاسب لها، فزادت من تبادلها التجاري مع إيران على سبيل المثال. وتختتم الافتتاحية بالتأكيد على أنه من المفيد أن يتعامل أوباما ببرجماتية مع الصين، إلا أنه من الضروري بالنسبة له – كما تشير الافتتاحية – أن يكون متأكدًا من حقيقة أن الحكومات التي تقمع حريات التعبير والحريات الدينية وحقوق الأقليات على أراضيها لن تكون قادرة على تقديم المساعدة والعون لغيرها المصدر: تقرير واشنطن